فاز فيلم "غراميات نجلا" للمخرج السوري نبيل المالح بفضية مهرجان القاهرة التلفزيوني الماضي، وبذهبيتي أحسن سيناريو وممثلة (رنا الأبيض). وكان المالح انتهى أخيراً من تصوير فيلم "وليمة صيد" (وهو انتاج يوناني - بريطاني - سوري مشترك) وتدور أحداثه في لبنان, ولكن التصوير تم في سورية بسبب توافر "الكثير من المناظر الطبيعية العذراء" فيها, كما صرح المخرج لـ"الحياة". الفيلم ناطق باللغة الانكليزية, ويشارك في الأدوار الرئيسة ممثلون انكليز, تطعموا بعدد من الفنانين السوريين في أدوار ثانوية وهو من تصوير سايمون دينيس. حول فيلم "غراميات نجلا" كان لنا هذا الحوار مع نبيل المالح: · هل يمكن اعتبار "غراميات نجلا" الفيلم السينمائي الثاني الذي يصور في سورية بالكاميرا الرقمية بعد "باب المقام" لمحمد ملص؟ - عملياً, "غراميات نجلا" هو الفيلم الرقمي الأول في سورية, فقد تم تصويره في عام 2001, وان لم يعرض إلا الآن في مهرجان القاهرة التلفزيوني الماضي. · الفيلم فاز بفضية مهرجان القاهرة التلفزيوني وأفضل سيناريو وممثلة... ما الذي يضيفه مهرجان تلفزيوني الى مخرج سينمائي مخضرم مثل نبيل المالح؟ - في الواقع, وبسبب من أنه لم تتوافر لدى الظروف الملائمة لنقل الفيلم الى شريط سينمائي, وجدته قابعاً أمامي في انتظار أن أدخل في عملية توزيعه, فكان من الضروري أن أستكشف مستوى العمل وردود أفعال المشاهدين عليه بطريقة ما, وحدث ذلك للمرة الأولى في جامعة حلب, حيث وجدت ردود الأفعال ساحرة, وبذلك أرسلته الى مهرجان القاهرة كفيلم تلفزيوني. أنا أعلم أن تقنية الفيلم الداخلية هي لغة سينمائية, وبطبيعة الحال يخلط الكثيرون بين الأدوات, وبين اللغة, فليس كل ما يصور على شريط سينمائي له قيمة سينمائية, وليس كل ما يصور على شريط فيديو هو تلفزيون. القضية برمتها تكمن في لغة السيناريو والاخراج والرؤية والأدوات التعبيرية التي يستخدمها المخرج. وعندما نرى مخرجين كباراً في العالم مثل لوكاس وتراير وفيندرز يصورون بواسطة الفيديو, فإن ذلك لا يعني بالضرورة انهم يصورن أعمالاً تلفزيونية. السينما لغة وليست جهازاً. أسرار اللعبة · تكشف أسرار اللعبة التلفزيونية بكاميرا تلفزيونية... ألا تعتقد أن ثمة خللاً في عملية الكشف بغض النظر عن اللغة التي يتم الحديث عنها؟ - أنا على يقين تام من أن التلفزيون في شكل عام, على رغم أنه يعتبر لغة العصر, والمؤثر الأكبر في حياة البشر, وأنماط تفكيرهم, بل حتى بملابسهم وعاداتهم وسلوكياتهم, فإنني أراه في كثير من الأحيان أكبر وسيلة تلفيقية مرت في التاريخ, واجتمعت عليها سلطات العالم كلها, كل بطريقته ووفق موقعه من السلطة. فهنالك سلطة المال وسلطة السلطة وسلطة الدين والجنس... الخ, وهذه كلها "عدا حالات استثنائية" تم استخدامها لصنع عالم وفق رغبات وصورة ما تريده السلطة التي تقف وراء الكاميرا, وبالتالي حاولت أن أعبر بطريقة بسيطة عن هذا الفصام الموجود كونياً حالياً بين الواقع التلفزيوني لكوننا, والواقع المعاش للبشر. ويبدو لي ان أقرب صورة ممكنة الى حقائقنا هي نشرات الأخبار والتي على رغم صدقية الصورة بحد ذاتها, فإن تشكيلها في الأخبار يخضع أيضاً للكثير من التلفيق والتزوير والانتقائية, وبذلك يبدو لي وكأن لا مخرج من هذا الطوفان الذي نبدو أمامه كنمل صغير عاجز, فهنالك غسيل دائم للأدمغة, وذلك واضح من هذا التناقض الرهيب والمرعب الذي يسم عالمنا اليوم, فالفقراء يزدادون فقراً وقهراً, والأغنياء يزدادون غنى, ومعادلة عالمنا الظالمة واضحة في عيون الجميع, ولكنها مخفية تحت آلاف السُتر المزيفة. · ألا تخشى أن تتهم أنت أيضاً بالتلفيق من خلال استعمال هذا (الصندوق)؟ - أنا أصنع سينما. لا أنفذ عملاً لسلطة مهما كان نوعها. سلطة مال أو ايديولوجيا أو أحزاب. أنا إنسان حر وأملك أدوات تعبيري الخاصة بي, وقد كنت كذلك على مدى أربعين سنة ولم أتغير, وبالتالي أشك في أن هنالك مجالاً في ما تبقى لي من العمر أن أخضع لأي تنازلات, ولا شيء يجبرني على ذلك. · عندما يصبح المخرج التلفزيوني جزءاً من أهل القرية... يتابع المقعدة على كرسيها ويتودد اليها... ألا تتم القطيعة مع الكشف السينمائي المطلوب؟ - في الواقع هو لم يتواصل معها. هو كان في حال ثرثرة وتسلية شخصية. وعندما تطلب الأمر منه أن يمنحها ولو دقائق ليراقب انجازها خانها وتخلى عنها مع كل فريقه. من حيث المبدأ لم يكن هنالك حقاً أي تواصل حقيقي أو أي اهتمام. ونحن نعلم ان الكثير من المخرجين التلفزيونيين يتعاملون مع الواقع والمحيط والبشر كمواد للفرجة, وليس كعناصر حية لها أحلامها وأوجاعها وأحزانها ومسرّاتها الصغيرة. بالتالي هذا المخرج التلفزيوني هو نموذج مثالي لكل ما هو طارئ, ونحن نعلم جيداً ان اهتمامات التلفزيون بأي شيء بالحارة, أو بالإنسان, أو الكنيسة, أو الجامع هي لإيصال رسالة ليست لها علاقة بفحوى ما نصور, بل باستعراضه. نرجسية ما... · ألا ترى ان ثمة (نرجسية بصرية) في دخول الفتاة الريفية المقعدة عالم الكومبيوتر بهذه الطريقة المفاجئة؟! - في السينما هنالك دائماً اختزال بصري وفكري. وبهذا تتميز السينما عن التلفزيون الذي يميل الى الثرثرة في كثير من الأحيان. شخصية المقعدة تحمل رموزاً كثيرة, فهي في شكل أو في آخر الشخصية الوحيدة الايجابية في الفيلم, وفي أعماق روحي أراها تمثلنا نحن العرب الذين نريد الخروج من الكرسي المتحرك ولا نملك سوى أبصارنا التي تتأمل في أفق بعيد وصل اليه العالم ولا نستطيع أن نخطو نحوه. هذه المقعدة وعبر محاولتها الإمساك بزمنها هي صورة عنا حيث لا نملك الأدوات, ولكننا نملك الحلم. نريد أن نسابق ولكن أرجلنا معطلة, وبالتالي لا أفهم معنى النرجسية هنا, ذلك أنها تركيز على مقولة الحالة ضمن السياق, كما لا يمكن القول انها فتاة ريفية, فالريف يشاهد تلفزيون, ويعرف العالم مثلما يعرفه أهل المدينة, ولكن اعاقاته أكبر, ونحن نعلم أن الكثيرين من أبناء الريف تمكنوا من الخروج من عزلة تخلفهم, وعزلة الزمان والمكان ليضعوا بصمة في أي مجال هم حلموا به. الفوارق الأساسية بين الريف والمدينة في عالمنا العربي ليست كثيرة, سوى في مستويات الفقر والعصبوية والقبلية. ولكن الذين يحلمون هم سواء, هنا أو هناك, وفي قناعتي أن شخصية المقعدة هي واحدة من أجمل الشخصيات التي كتبتها, وخيبتها في بحثها عن التواصل لم تكسرها, وإنما بقيت مصرة على تشكيل مكانها في كون ظلمها منذ الولادة, وظلمها عبر حياتها, ولكنها بقيت أقوى وأشجع روحاً وأملاً ورغبة في التحدي. · هذا الايقاع البطيء الذي يعبر عنه المحاسب الحكومي... هل هناك تواطؤ بين حاله والحال المسدودة التي وصل اليها الريف؟ - المحاسب نموذج الموظف المسحوق الذي لا يملك أي زاوية يستطيع أن ينفذ منها لتقرير حياته ومسارها. انه مقتول مذ أصبح سناً في العجلة البيروقراطية. إنه باحث صغير عن لقمة العيش, ومثله الملايين, ولعل في هذا يكمن شكل من أشكال تقزيم الكمون الكامن فينا, وتحويلنا الى مخلوقات تسير وتأكل وتنتظر تقاعدها وموتها, ولعل في هذا حزني على وطننا العربي من محيطه الى خليجه. · "نجلا" تعود الى طبيعتها الريفية الأولى... بعد حريق مستودع الفريق التلفزيوني وكأن شيئاً لم يكن؟! - انها حال الانتقام لكرامتها, وهو انتقام صغير, وأقصى ما تفتق عنه ذهنها, على رغم خبث هذه الفتاة, فإن مثل هذه الأمور قد لا تصادفها كثيراً في الحياة. أقصد أن تستطيع أن تنتقم لنفسها. "نجلا" أيضاً نموذج لشرائح كثيرة مقهورة وتريد الخروج من قمقمها, ولكن أدواتها تتجانس مع نوعية طموحاتها, فهي تبحث عن غرام في الخيال, وتبحث عن بطل عاشق كما في الأفلام وانتقامها أيضاً متجانس مع ذلك. إنها صورة عن شريحة محددة, فنحن في الغالب نتعرض لعشرات الإساءات يومياً الى كرامتنا وكينونتنا كبشر, وتعلمنا ابتلاع الغصّة وكتم صرخاتنا الداخلية, ولكن المخدة تستقبل عشرات الصور مما نتمنى أن نفعله, أن ننتقم عبره, ولكننا نستيقظ صباحاً لنكتشف كم نحن عاجزون, وأننا نعود الى الدوامة نفسها, والى الخشية نفسها من أن يومنا المقبل لن يكون أفضل مما مضى, ولا أدري شخصياً متى سيكون لي الحق كمواطن أن أقول هذا وطني, وأنا مسؤول فيه مثل أكبر مسؤول. لقد انحدرت العلاقة, وتمت مصادرة مسؤولياتنا, وبالتالي أشعر بحزن لأننا نتعلم يوماً بعد يوم كيف نصبح أصغر, وكيف كل ما يحيط بنا يقزمنا, ولا أفهم كيف يمكن أن يكون هنالك وطن كبير لمواطنين صغار؟ جريدة الحياة في 30 يوليو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
نبيل المالح:
فجر يعقوب |
|