شعار الموقع (Our Logo)

 

 

تابعت خلال الأيام الماضية ما كانت تنشره الصحف من أخبار فيلم "بحب السيما"، وردود الفعل المسيحية الغاضبة؛ فتذكرت على الفور مناقشة بيني وبين المفكر المصري المرموق الدكتور رفيق حبيب قبل حوالي عشرة أعوام، وفيها استشرف ببصيرة ثاقبة أن الرهان الذي جازفت الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بالانحياز إليه في تسعينيات القرن الماضي سينقلب عليها؛ ففي إطار خوفها من "المد الإسلامي" اختارت التحالف مع بعض أشد العلمانيين المصريين تطرفا بهدف صدّ هذا المد، وكانت العلاقات الدافئة التي تربط بعضا منهم بالبابا شنودة شخصيا أمرا معروفا بل مشهورا، وكان الدكتور رفيق حبيب برؤيته الثاقبة يتوقع أن ينقلب هؤلاء على الكنيسة بمجرد أن يعتبروا أنهم نجحوا في مواجهة المد الإسلامي؛ وهو ما تشير إليه معركة "بحب السيما".

نظرة بعيون ناقد

وقد أحيط الفيلم بسيل من الكتابات المغرقة في الدروشة دفاعا عن فيلم لا يمكن الدفاع عنه إلا من منطلق تمجيد الانحطاط والاحتفاء به. ووسط هذا الهراء المنظم كانت هناك أصوات تناولته بقدر كبير من الموضوعية كالناقد عبد الجليل الشرنوبي في مقاله: "بحب السيما.. عندما يصطدم المجتمع بقداسة الفنان"، وهو يرى أن الأزمة التي أحدثها الفيلم تجسيد لحالة الفصام التي يعانيها الفنان العربي؛ إذ يطالب بحرية تناول كل مفردات المجتمع، رافضًا أن يفرض على إبداعه "تابوه" من أي نوع، لكنه يتحول إلى حالة متفردة في القداسة عندما يطالبه المجتمع بأن ينزل من برجه العاجي ليناقش ما طرحه. وهو يقسم الناس إلى متدينين وفنانين، وهو الطرح نفسه الذي سبق إليه يوسف شاهين في "المصير"، وبالتالي عليك أن تكون ضمن أحد المعسكرين.. فإما أن تكون الحياة بالنسبة لك كل شيء: إبداع، جنس، خمر، تدخين، سخرية من كل مقدس وأي قيمة، وإما أن تتحول إلى ناسك تحرّم السينما والغناء والرسم والضحك، وربما الطعام والشراب!!

والفيلم يدور بصفة أساسية حول طفل مغرم بالسينما على نحو غير مبرر، والده مسيحي أرثوذكسي متطرف، يرمز بوضوح لمسيحية العصور الوسطى، وأمه بروتستانتية محبة للحياة، ذات موهبة فنية اضطرت لدفنها تحت وطأة القيود الخانقة التي يفرضها عليها الزوج المتشدد، ولا يفوت المؤلف طبعا أن يجعل كل لوحاتها مزدوجة؛ وجهها المسموح به رسومات باهتة من الطبيعة، ووجهها المحظور أجساد عارية تشع بالحياة. والخيوط الدرامية الأخرى كلها تخدم الخيط الرئيسي، سواء في المحيط العائلي أم في محيط العمل.

أما المشاهد الجنسية التي كان يمكن تنفيذها بشكل أكثر إيحاء لتقوم بالدور نفسه في البناء الدرامي والسباب الكثير غير المبرر فحدث عنهما ولا حرج.

وهناك تشابه واضح بينه وبين فيلم "عصفور السطح" للتونسي رشيد بوغدير، والجزء الأخير منه بعد وفاة الزوج المتشدد، وتحول زوجته للتشدد يستند إلى أسطورة مصرية تحكي قصة متصوف وعاهرة، كلاهما كان ذا شهرة مدوية، وكانا متعاصرين في الإسكندرية، وتحت إلحاح تلاميذه ذهب المتصوف لهداية العاهرة، فتبادلا المواقع لتهتدي العاهرة، وينحرف المتصوف.

والبعد الرمزي في الفيلم واضح جدا تعكسه الشخصية الأسطورة للطفل نعيم المشغول بشكل مرضي بالسينما والإله، وهو أمر خارج عن نطاق المألوف، كما أن هذا التكوين لم يكن ليتناسب مطلقا مع ما طرأ عليه في النصف الثاني من الفيلم اهتمام مرضي أيضا بالجنس، رغم أنه لم يصل لمرحلة المراهقة. ولكي يضع المؤلف محددات أمام المشاهد تجعله يستقبل الفيلم كعمل رمزي يسوق على لسان الأب المتدين محاضرة طويلة عن سبب اختياره للاسم ودلالاته الدينية. أما مشهد النكسة المغرق في الرمزية فيحاول إيهام المشاهد بأن النكسة السياسية العسكرية التي مني بها عبد الناصر أصابت معه السلطة الدينية.

أما الفكرة المركزية في الفيلم التي صرح مؤلف الفيلم أنها تلخص تصوره للمفهوم الحقيقي للخلاص المسيحي، وفيها حديث عن حب الإله بدلا من الخوف منه؛ فهي إعادة إنتاج للإلحاد الربوبي، وحسب موسوعة المسيري فإن إسبينوزا -أحد آباء الإلحاد الربوبي- تعرض لقضية الدين، وأشار إليه مستخدما تعبير "الحب الفكري للإله" (باللاتينية:  amor dei intcllectualis)، وهذه هي الديانة الحقيقية، وهي ديانة عقلية عقلانية. وهذا الدين هو فلسفة إسبينوزا، وإطلاق كلمة "دين" عليه يشبه تماما إطلاق كلمة "الإله" على الطبيعة.

وهبت العاصفة

المفاجأة الأولى كانت الصراحة التي تحدث بها المؤلف عن الفيلم، مُطلِقًا عبارات من نوع: "المسيحيون دائما لا يعيشون الواقع"، "الفيلم ضد العصور الوسطى"، "الفيلم محاولة لتعرية قشرة التدين السطحي والتناقض الصارخ في حياة المتدينين"... ورغم غياب المخرج عن هذه الندوة فإن تصريحاته المراوغة عن الفيلم حضرت كنقيض لموقف المؤلف؛ ففي مقابل تصريح المخرج أسامة فوزي بأن الدعوى القضائية التي تطالب بوقف عرض الفيلم "تعتمد على رؤية منقوصة"، فالفيلم: "لا يتطرق إلى الطائفة القبطية بل يعالج حالة شخصية متزمتة (..)، أنا لم أصنع فيلما دعائيا مع الأقباط أو ضد الأقباط، إنما أتطرق إلى حالة إنسانية نستطيع أن نجد مثلها في أي ديانة، في الإسلام أو الهندوسية".

أما مشاركتي فانصبت أولا على وضع الفيلم في سياقه الصحيح كعمل "تبشيري" منفذ بوعي شديد؛ وبالتالي فالتفتيش في خلفياته ومراميه أمر مشروع، ثم أشرت إلى كشف منطق الخداع الذي يتبعه معظم العلمانيين المتطرفين في هجومهم المنظم على المقدسات الدينية، متعمدين اللجوء لمنطق مزدوج يفتقر للشفافية والمصارحة، فإذا كان رد الفعل المعادي محدودا أفصحوا عن حقيقة مراميهم. أما في مواجهة رد عنيف فيفضلون الاحتماء وراء مقولات الواقعية وادعاء العفوية، متهمين خصومهم بالتصرف وفقا لمنطق بوليسي، متجاهلين أن المنطق البوليسي رد فعل طبيعي للسلوك اللصوصي!!

وفي استخدام مكشوف للمنطق المراوغ كان رد المؤلف أن الفيلم واقعي وليس رمزيا، وأن هذه مجرد عائلة مسيحية، وليست رمزا للمسيحيين!! مؤكدا بذلك أن المنطق المراوغ سيد الموقف، غير أنه قبل نهاية الندوة كانت له مداخلة اتسمت بالصراحة الشديدة؛ إذ قال: إن "الفيلم ديني"، مؤكدا أن الكتاب المقدس هو المصدر الرئيسي لثقافته، وأن الانزعاج الشديد من الإباحية التي احتواها الفيلم يتجاهل أن الكتاب المقدس فيه الكثير مما يماثل ذلك، مشيرا إلى "سفر نشيد الإنشاد"، والقصة التي تنسب –كذبا وافتراء- لابنتَيْ النبي لوط عليه السلام أنهما ضاجعتا أباهما وأنجبتا منه، وغير ذلك من النصوص التي شغلت علماء مقارنة الأديان لقرون.

وبعد أيام عقدت إحدى الهيئات الإنجيلية ندوة خاصة لمناقشة الفيلم، تحولت إلى ساحة لصراخ عنيف فجّره انقسام حاد بين أرثوذكس رأوا أن موقف الكنسية الإنجيلية من الفيلم مغرض؛ لأنها سمحت بتصوير بعض مشاهده في إحدى كنائسها؛ وهو ما جعل أسرة الفيلم توجه الشكر لها في مقدمة الفيلم، وبدأ الاستقطاب يتحول لاستقطاب مذهبي حادّ طاشت فيه عبارات واتهامات حادة.

بين الرمزي والواقعي

وفي النهاية تظل قضية الرمزي والواقعي مربط الفرس في المعركة، وهي ما تبقى من معارك سابقة مشابهة: رواية "أولاد حارتنا"، فيلم "المصير"، رواية "وليمة لأعشاب البحر"... وغيرها، فبينما يجب التساؤل بوضوح عما إذا كان مشروعا طرح عملٍ ما معادٍ للأديان السماوية يحاول "أنسنتها" والتعامل معها بوصفها ظاهرة تاريخية أنتجتها البيئة، ولم تنزل من السماء، ينصرف المتحاورون لجدل عقيم حول مقصد المبدع بعد أن شاعت ثقافة ظاهرها يخالف باطنها على شكل مخيف.

ولا تقتصر الظاهرة على الأعمال الإبداعية؛ بل امتدت لساحة الفكر؛ فمثلا في إطار المؤتمر الأخير للجمعية الفلسفية تحدث الدكتور حسن حنفي عن تجربته كما نقلتها جريدة "أخبار الأدب" (في عدد 28 / 12 / 2003) فقال متحدثا عن الدكتور نصر حامد أبو زيد:

"قال أشياء كنت أتمنى أن أقولها، ولكن ربما استخدامي لآليات التخفي حال بين فهم ما أردت أن أقول. نحن مجموعة من الأفراد لو اصطادونا لتم تصفيتنا واحدا واحدا، ولذلك أرى أن أفضل وسيلة للمواجهة هي استخدام أسلوب حرب العصابات. اضرب واجرِ. ازرع قنابل موقوتة في أماكن متعددة تنفجر وقتما تنفجر، ليس المهم هو الوقت. المهم أن تغير الواقع والفكر. ولذلك يسمونني: المفكر الزئبقي. لا أحد يستطيع أن يمسك علي شيئا. الجماعات الإسلامية تراني ماركسيا. الشيوعيون يرون أني أصولي. الحكومة تتعامل على أنني شيوعي إخواني!".

"والزمن الذي يراهن عليه حنفي يجعله يتساءل: لماذا أنا متعجل؟ وكيف أقاوم 1000 عام من تثبيت السلطة؟ المداخل لفهم مشروع أبو زيد -كما يرى حنفي- تتمثل في فهم التأويل. فالتأويل يراه وسيلة للتحرر من سلطة النص. وأصحاب المصلحة يريدون تثبيت النص؛ لأنهم يريدون تثبيت السلطة؛ لأن تثبيت النص هو تثبيت السلطة بمفهومها العام؛ سواء أكانت سلطة الأب أو الحاكم أو حتى صدام حسين!!".

"كما اعتبر حنفي أن كثيرا من السجالات الثقافية هي صراع على السلطة؛ فلا فرق مثلا في بنية الخطاب بين العلمانيين والسلفيين في الجزائر. إنما الأمر كله صراع على السلطة!!" (انتهى النص وعلامات التعجب منقولة كما نشرتها "أخبار الأدب").

والدين كمعطى ثقافي مفهوم ربوبي لا يقول به إلا شخص يؤمن بالله، ويرفض الوحي السماوي، ويرى العقل قادرا بمفرده على إنتاج المنظومات القيمية كافة، والمنهج التخريبي الذي يصفه حسن حنفي ليس جديدا، ويبدو أنه متفق عليه؛ ففي أعقاب صدور حكم محكمة استئناف القاهرة بالتفريق بين نصر أبو زيد وزوجته كتب الراحل خليل عبد الكريم في "مجلة القاهرة" وتحت عنوان "المواجهة من الداخل" ما نصه: "طالما ناشدت الزملاء المثقفين التقدميين والطليعيين والمستنيرين الليبراليين والعلمانيين الالتفات إلى الإسلام... وبعد صدور حكم محكمة استئناف القاهرة ضد د.نصر وزوجته د.إبتهال ظهر الفقر المدقع في الثقافة الإسلامية لدى التقدميين والطليعيين والمستنيرين.. من أيدوه وهللوا له؛ ذلك أن مقالاتهم والبيانات التي طلعت بها علينا الأحزاب والهيئات والنقابات والاتحادات ومراكز حقوق الإنسان باستثناء محدود للغاية جاءت زاعقة بل صاخبة إنشائية خطابية لم ترد على الحكم ردا موضوعيا؛ بل تكلمت عن الأمور الحافة أو المحيطة، مثل الظلامية والعودة للقرون الوسطى ومحاكم التفتيش... إلخ. وكان ذلك متوقعا بل طبيعيا؛ لأن ثقافة هؤلاء الجهابذة الإسلامية ممحوة، ولكنهم بذلك -وهو الأهم- قدموا على طبق من ذهب إبريزا خالصا لخصومهم دليل الثبوت على صحة ما يقال عن اتهامهم إياهم بالنفور من الإسلام، بل عدائهم إياه وكل ما يمت إليه بأدنى صلة".

ويحدد خليل عبد الكريم الأسلوب الأفضل لخوض معركة التنوير، قائلا: "إن معركة الاستنارة طويلة وممضة، وتحتاج إلى نفس طويل وصبر جميل، وستكون سجالا -أي هزائم وانتصارات-، وأهم أسلحتها الإيمان بالقضية التي يناضل من أجلها وعدم اليأس مهما حدث؛ لأن الخصم شرس وعنيد وإمكانياته بالغة الضخامة، وإن رأينا أن نشهر في وجهه السلاح ذاته الذي يدعي أنه يمسك به وهو الثقافة الإسلامية" (مجلة القاهرة - عدد خاص - يوليو 1995).

وهو لا يخجل من الاعتراف بأن اتهام هذا "التنظيم السري" بالنفور من الإسلام ومعاداتهم كل ما يمت له بصلة اتهام صحيح، وأن الحل نقل المعركة إلى داخل الثقافة الإسلامية.

وقد جمعتني به الصدفة قبل سنوات في مكتب حسن حنفي بكلية الآداب جامعة القاهرة، كنت قد توجهت إلى حسن حنفي لإجراء حوار معه (نشرته فيما بعد جريدة المستقلة اللندنية)، وبعد إجراء الحوار دعاني حسن حنفي لحضور لقاء فكري محدود في مكتبه لمناقشة كتاب أصدره الراحل خليل عبد الكريم عن قضية نصر أبو زيد. وقد دخلت في حوار مع خليل عبد الكريم الذي قال: إننا لا نستطيع أن نبشر بما نريد من خلال روسو أو مونتسيكيو وإلا حوصرنا؛ فيجب أن نبشر به من داخل منظومة الثقافة الإسلامية، وعندما سألته عن حق الناس في الاختيار سياسيا قال: ينبغي تربية الناس تنويريا أولا قبل منحهم حق الاختيار!! والترجمة الصريحة لهذا الكلام الزئبقي هو أن الوصاية إما أن تكون دينية أو علمانية، لكنها في كل الأحوال موجودة، وليس للناس أن يختاروا إلا ضمن بدائل!!

إن المصارحة شرط موضوعي لبناء علاقة صحيحة، والمنطق الزئبقي في السينما والفكر على السواء هو المشكلة الأخطر وليس غضب متدينين متطرفين أو اللجوء للتقاضي في مواجهة أعمال إبداعية؛ فالفيلم عمل تبشيري بدين وضعي هو الربوبية، وهو لا يعادي الكنسية فحسب؛ بل يعادي فكرة الدين السماوي. وما دام القانون يسمح باللجوء للتقاضي فلا مبرر للغمز واللمز بحق من يستخدمون هذه الوسيلة؛ لأن هذا نوع من التفتيش في الضمائر، وإلا فإن ازدهار الثقافة "الزئبقية" سيؤدي حتما لازدهار مقابل للثقافة البوليسية.

موقع "إسلام أنلاين" في 28 يوليو 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"بحب السيما" أم "بكره الكنيسة"؟

ممدوح الشيخ