لن يسجل الفيلم الجديد لجوني دب, النافذة السرية ما سجله فيلمه السابق قراصنة الكاريبي من نجاح جماهيري كبير حين يصل الي المدن العربية, وهو وصل بعضها فعلا, فإن الإقبال سيتساوي مع ذلك الذي سجل في الغرب: اهتمام في الأسبوع الأول نظرا لاسم جوني دب فوق العنوان, ثم تنطلق ألسنة الخارجين منه شاكية ومنتقدة ما يترك تأثيره السلبي علي حركة الفيلم في أسابيعه اللاحقة النافذة السرية فيلم تشويقي مأخوذ عن أحد أعمال الكاتب الروائي ذائع الصيت ستيفن كينج الأخيرة المنشورة تحت العنوان نفسه ويدور حول كاتب روائي( يؤديه دب نتعرف عليه في حادثة تكمن في ذاكرته لقد دهم زوجته مع عشيق لها في فندق, وبعد مرور نحو ستة أشهر علي الحادثة, يعيش منفصلا عنها في بيت خشبي كبير في ضواحي بلدة صغيرة منذ تلك الفترة وهو يحاول أن يكتب رواية جديدة لكن الصفحات لا تزال بيضاء باستثناء أسطر قليلة نراه يوما يمحوها عن الكمبيوتر ويرتاح تريد أن تنصحه: حمام ساخن قرار ببداية جديدة تغيير عادات اليوم الروتينية والتجدد في المظهر وألوان الحياة وربما سيستطيع أن يكون كاتبا مسترسلا دون توقف كما الحال مع ستيفن كينج نفسه المشكلة ليست أننا في فيلم وليس في مسرحية, بل في أنه إلي أن تصل كلمتك إليه يكون ستيفن كينج أنجز رواية جديدة إنه الكاتب الذي إذا ما أراد الحديث عن كتاب آخرين وصفهم بأنهم مقيدون إلي عجزهم الإتيان بجديد يضيفونه هل تذكرون اللمعان الذي أخرجه الراحل الكبير ستانلي كوبريك؟ كان أيضا عن ذلك الكاتب( جاك نيكلسون الذي ينعزل في مكان واحد يحاول تجاوز جدار من العجز في التأليف والخيال من دون نتيجة تذكر. كينج في الواقع لا يمنع نفسه من الاسترسال في الكتابة بحيث لا يمانع من تكرار نفسه أو بالأحري, لا عجب أنه غزير الإنتاج, فهو يسرق من نفسه طوال الوقت وبين النافذة السرية واللمعان نفق سري تحت الأرض يشهد حركة نشطة الأول يقتبس من الثاني ما حلا له ومعضلة كاتبيهما ليست القاسم المشترك الوحيد بينهما افتراضات فقط يقضي الكاتب في النافذة السرية معظم أيامه نائما لا ينام علي سريره بل علي كنبة مرتديا سترة ممزقة ما إن يفيق, اذا ما رن الهاتف أو إذا ما أزعجته مدبرة المنزل, إلا ليعود الي النوم من جديد في أحد الأيام يأتي من يزعجه ومن بعدها لا نراه ينام أبدا هناك رجل غريب المظهر غامض النيات يرتدي ثيابا سوداء ويعتمر قبعة سوداء يدق الباب جون تورتور ويتهم الكاتب بأنه سرق روايته المنشورة أخيرا من رواية كتبها هو, ينفي كاتبنا إنه فعل ذلك ويؤكد لمحدثه إن روايته تلك نشرت قبل سنوات عديدة في مجلة إليري كوين للألغاز( مجلة فصلية متخصصة بالقصص الغامضة والتشويقية) لكن الرجل يتحداه جلب عدد من تلك المجلة والبرهنة علي كلامه. تدرك أن الرجل يشكل خطرا علي سلامة الكاتب وترتفع التوقعات هنا قليلا يتحسن الفيلم بضع درجات عن بداية فوضوية الي حد وما تلبث أن تقع الضحية الأولي: يجد الكاتب كلبه قتيلا يتجه الي شريف البلدة لكن إجراء لا يمكن أن يؤخذ علي بساط من الافتراضات فقط يلجأ الي تحر خاص تشارلز داتون لمساعدته درء خطر الرجل الذي يهدده وفي ذات الوقت يحاول حل معضلته مع زوجته ماريا بيللوالتي تنوي طلاقه والزواج من عشيقها تيموثي هاتون. إلي هنا, والفيلم عن حياة رجل لا يعيش خطر القتل إذا ما فشل في البرهنة علي أنه لم يسرق الرواية المذكورة فقط, بل حياة التهمش نظرا لمشاكله العاطفية مع زوجته ولعدم قدرته علي الكتابة من جديد والمخرج ديفيد كوويب كتب سيناريو جيروسيك بارك3 يتناول الخيوط بمهارة شكلية كافية لسرد متسارع تشويقي إذا أحببت إنما في هذا التشويق قدر كبير من التصنع هيتشكوك لا يجاري هنا وجدت نفسي أتوقف لأقارن بين النافذة الخلفية وبين أي من أعمال المخرج الراحل ألفرد هيتشكوك سرقت نصف دقيقة فكرت فيها كيف أن سيد التشويق هيتشكوك لا يزال لا يجاري كيف أنه لا يزال مجال بحث ودراسة من دون كلمة أخيرة في الموضوع باستثناء القبول العالمي اليوم بأنه كان فنانا أهم بكثير مما اعتقد نقاد الأربعينيات والخمسينيات اكتفيت عند هذا القدر من التفكير وعدت إلي الفيلم لأجد أمامي نموذجا لركاكة التنفيذ حين يطلب المرء من الفيلم عمقا فلا يجد المشهد الذي كان مرتسما هو جلوس جوني دب مع زوجته وعشيقها علي طاولة واحدة أمام محامين للفصل بأمور طلاق متنازع عليها, كثير من الكلام وأكثر من ذلك من النظرات مفاده شعور الكاتب بالضغينة تجاه عشيق زوجته الذي كان يحاول التدخل في أمر هو شخصي بين المطلقين لقطات متناثرة تملأ الجو تقفز مثل الكرات الصغيرة علي سطح أملس أعط هذا المشهد لهيتشكوك ويعرف سلفا إذا ما كان سيرميه من النافذة أو سيحوله إلي لحظات هي في ذات الوقت عميقة ومثيرة للخيال لا شيء من هذا هنا ولا شيء من هذا في أي مكان آخر! الكاتب يكتشف أن تحريه الخاص وشاهد عيان مقتولان في سيارته حين يصل الي مكان الجريمة يداهمه القاتل ويضربه ثم ينصرف خوفا من اعتقاد البوليس أنه هو القاتل يقوم الكاتب بدفع السيارة الي بحيرة قريبة بينما يفعل ذلك تعلق يده في عجلة القيادة اللحظات النيرة الوحيدة في الفيلم اذ يداهمنا السؤال: هل ستسحبه السيارة معها؟ بعد لحظة سؤال مهم آخر عندما تقع ساعة يد الكاتب في أرض السيارة: هل سيجدها البوليس ويتهم الكاتب بالجريمة علي أي حال؟ لكن المشهد إذ ينتهي بعد دقيقة ينتهي استخدام هذه التفصيلات الصغيرة ولا نعود إليها مطلقا, بل نكتشف أن جوني دب هو جون تورتورو بمعني أنه لا وجود للرجل اللغز بل إن الكاتب يعيش حالة شيزوفرانيا كاملة وهو الذي قتل كلبه والتحري الأسود وشاهد العيان وفي سبيله لقتل باقي من في الفيلم إذا ما أتاح له السيناريو ذلك. نجح المخرج في تغليف الحالة بعيدا عن التوقعات الي حين كشف الغطاء لكن هذا النجاح ليس كاملا مرة أخري يطل هيتشكوك ليعلم كوويب درسا: حين نكتشف أن نورمان( انطوني بركينزفي فيلم سايكو1959 يعيش حالة شيزوفرانيا وأنه لا وجود لأمه التي يدعي أنها هي التي تقتل ضحايا الفيلم يكون ذلك بعد توليفة روائية- درامية ناجحة ما يشكل تأثيرا يتجاوز المفاجأة الحاصلة. في فيلم ديفيد كوويب, ما إن يتم الإفراج عن ذلك السر, حتي يتهالك الفيلم وينحدر انطلاقا من أن ترتيبات اصطناعية أدت الي هذا الاكتشاف وحالة من الخداع وحدها هي التي أجلت كشف الحقيقة. عملية إبداعية
طبعا سايكو ليس الوحيد الذي يطرأ
الي البال عمليا, ليس علينا سوي العودة الي ما لاحظناه منذ البداية:
العلاقة
الوثيقة بين النافذة السرية وبين اللمعان ستيفن كينج كاتب يسرق
من ذخيرته, ما
يعني أنه مفلس ويقبض أجرا كبيرا في كل مرة - جوني دب في النافذة الخلفية وجاك نيكولسون في اللمعان كاتبان عزلا نفسيهما في مكان ناء - كلاهما متزوج لكنه يشعر بأن زوجته مصدر متاعبه - كلاهما يعيش انفصاما في الشخصية وجنوحا صوب الجنون والقتل - كلاهما يقتل - في كلا الفيلمين رجل أسود يموت باكرا في الفيلم - في كلا الفيلمين يلجأ الكاتب إلي كلمة أو عبارة يكررها من حوله حين يصل إلي ذروة جنونه في النافذة السرية كلمة شوتر في اللمعان عبارة كل الشغل وبلا لعب يجعل جاك ولدا متململا - في كليهما كاتب يعاني من انعدام القدرة علي الكتابة - في كليهما يهدد الزوج- الكاتب حياة زوجته ولو أننا في الفيلم الحديث ينجح الكاتب في قتل زوجته, بينما تفلت بطلة اللمعان من مخالب زوجها هي وابنها.
الأهرام العربي في 8 مايو 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
بعيدا عن النجاح الجماهيري: جوني ديب مصاب بالشيزوفرانيا وستيــفن كينـج بمـا هـو أدهـي! محمد رضا |
|