شعار الموقع (Our Logo)

 

 

بعد غياب طال 4 سنوات، عاد تارانتينو الى الشاشة بالجزء الاول من فيلمه Kill Bill. أما الجزء الثاني من هذا الفيلم فسيعرض قريبا في صالات السينما. لقد تميز هذا المخرج بطرح مسألة الوهم والمبالغة بالعنف في اطار الفن السابع. وكانت افلامه استعراضا للتراث السينمائي الاميركي المكون من الشخصيات العنيفة والمشاهد البوليسية والموسيقى الغربية. فعرف تارانتينو نجاحا عالميا، خاصة عبر فيلمه Pulp Fiction.

إن السينما مرآة للخيال الجماعي، كل جيل يعبر عن نفسه من خلالها. اما المخرج الاميركي كوينتن تارانتينو فقد اختار ان يعبر عن جيله عبر اعماله الفنية، هو الذي كسائر ابناء عصره قضى معظم طفولته وصباه امام شاشة التلفزيون، فانهالت على مخيلته الصور الوهمية وتلقت أذناه كل انواع الموسيقى الاستهلاكية. فلم يعد هدف تارانتينو ابراز وضع اجتماعي او ازمة نفسية، بل طرح اشكالية تأثير الصورة الوهمية، التي تحتوي على العديد من المشاهد العنيفة، على مخيلة وشخصية الفرد. فمن الرسوم المتحركة الى مشاهد العنف، والخلاعة والمخدرات، ينتقل تارانتينو من مشهد الى آخر. فيشعر المشاهد وكأنه يبدل من قناة الى اخرى، كما يفعل حين يكون في منزله امام التلفزيون.

يتسم عالم تارانتينو باللاواقعية والمبالغة وعدم تسلسل الاحداث. كما أننا نلحظ دورا مهما للمؤثرات الصوتية والموسيقى في أفلامه. اما الشخصيات فهي تبدو من نسيج الخيال بمواقفها وردات افعالها الغريبة وغير المألوفة. هكذا، يخلق تارانتينو عالما يسيطر عليه الوهم والخيال، لا يرضخ لقواعد المنطق والواقعية. وتتألق في هذا العالم بطلة تارانتينو الوحيدة، وهي السينما.

لقد هيمن الفن السابع على مخيلة تارانتينو منذ كان طفلا. فقد كانت أمه تصحبه دائما الى صالات السينما. وأحيانا، كان يشاهد اربعة افلام، الواحد تلو الآخر، من شدة شغفه وتعلقه بالسينما. وحين بلغ السادسة عشرة من عمره، أخذ يتردد الى صفوف في الفن المسرحي، حيث كانت اغلب ادواره مستوحاة من مشاهد سينمائية. وهكذا، كان الفن السابع جزءا من طفولة وحب تارانتينو.

في عام 1990، بدأ تارانتينو يشارك بالاعمال السينمائية، عبر كتابته لسيناريو True Romance وNatural Born Killers. وأول فيلم اخرجه كان Reservoir Dogs، الذي نال اعجاب العديد من النقاد. ثم لمع تارانتينو بفيلم Pulp Fiction الذي تم ترشيحه لسبع جوائز اوسكار عام 1995 وحاز السعفة الذهبية في مهرجان <<كان>> Cannes. وفي عام 1997، اخرج فيلم Jakie Brown، ثم غاب عن عالم السينما حتى سنة 2003 حين عاد الى الظهور مع فيلمه Kill Bill.

يتناول تارانتينو اشكالية الاسراف في العنف في السينما، خاصة في فيلمه Pulp Fiction. ومما ساهم في انجاح هذا الفيلم طاقم الممثلين المؤلف من جون ترافولتا، سامويل جاكسون، اوما ثورمان وبروس ويليس. تتكاثر المشاهد العنيفة في Pulp Fiction، بهدف ابراز مسألة المبالغة بالعنف في الاطار الوهمي. واللافت للنظر ان الشخصيات لا تبدي اندهاشا او نفورا من اراقة الدماء. وكأن تارانتينو يريد اظهار ان العنف جزء بديهي من المشهد السينمائي، تماما مثل نافورة الدم التي تنبعث من اجساد بعض الشخصيات خلال المواجهات بالسلاح الابيض في Kill Bill.

أقنعة العنف

ولكن، بعكس معظم شخصيات تارانتينو، يظهر القاتل المأجور، الذي يلعب دوره سامويل جاكسون في Pulp fiction ردة فعل مميزة. ففي احد المشاهد، يندهش هذا القاتل حين يطلق احدهم النار عليه، فتعبر العيارات النارية جسده ولا يصيبه مكروه. وعندما يلتفت الى الوراء، يرى الحائط مثقوبا بالطلقات. وفجأة، يعي انه يعيش في عالم غريب، فيقول لصديقه ان ما جرى له هو معجزة وكأنه يشير الى ان معظم افلام العنف مليئة بالمعجزات، بحيث ينجو البطل دائما من كل المخاطر. وبعد هذه الحادثة، تبدأ افكار جديدة تجول في خاطر القاتل المأجور ويبدأ ينظر الى العالم الذي يحيط به بنوع من المسافة. وكأنه هو الشخصية الوهمية التي بدأت تفكر بطبيعة نفسها ومحيطها. وفي آخر مشهد في الفيلم، يقرر تغيير نمط حياته والخروج من دوامة العنف المجاني.

أما في Reservoir Dogs، فقد تناول المخرج هذا الموضوع بما يشبه التهكم. فهناك عدة إشارات غير مباشرة الى مسألة الوهم وفبركة الشخصيات والأحداث. فإحدى شخصيات الفيلم تستخدم مصطلحات سينمائية في معرض شرحها لمخططات القتل والسرقة لزميلها، طالبة منه التصرف وكأنه مارلون براندو أو أن يعتبر نفسه في فيلم لوودي ألان. كذلك، يطلق رئيس العصابة على أتباعه أسماء غير حقيقية، وكأنه هو المخرج الذي يختار لكل ممثل دوره وهويته. وفي آخر مشهد، نسمع صفارة الإنذار التي لا تتوقف، ولكنها لا تترافق مع وصول الشرطة، كما ولو أن المخرج يشير الى ما اعتادت عليه الأفلام في إطلاق لصفارة الإنذار ما إن تقع حادثة قتل أو سرقة، وذلك لخلق جو من التوتر.

وما نلحظه في Reservoir dogs وPlup Fiction هو أهمية الحوارات ورواية القصص. ففي أول مشهد من Reservoir dogs، يدور الحديث عن الأغاني التي تملأ يوميات المواطن الأميركي. وفي عدة مشاهد، يروي أحدهم قصة. ثم تجري أحداث هذه القصة أمام المشاهد بطريقة مختلفة عن الرواية. هكذا يبرز تارانتينو فكرة أن الصورة، مثل القصة، هي من نسيج خيال الروائي. كذلك Plup Fiction، تكثر الحوارات التي تتناول إشكالية الفيلم الأساسية. وأهم ما يقال هو على لسان القاتل المأجور، الذي يمثله سامويل جاكسون. فهو يردد جملة من الكتاب المقدس قبل أن يقتل أعداء العصابة. وكأن هذه الجملة تعطيه نوعا من القدرة الخارجية التي تخوله تقرير موت أو حياة الآخرين. هذه الجملة تعطي لنظرة تارانتينو تجاه العنف بُعداً روحياً. وهو المخرج الذي يصفه بعض النقاد بأنه الكاهن والسينما وديانته. أما Kill Bill، وبعكس الفيلمين المذكورين، فهو يتميز بقلة الكلام، والحوارات التي تدور في هذا الفيلم تتمحور حول الأحداث التي تجري بين الشخصيات ولا تتناول إشكالية تارانتينو الأساسية.

كذلك، يتميز Kill Bill عن سائر أفلام تارانتينو بإبراز شخصية المرأة المحاربة. وفي هذا الفيلم، تمثل أوما ثورمان دور البطلة، وهي العروس التي يحاول أعضاء العصابة قتلها في يوم عرسها. وهي، كما معظم الشخصيات النسائية، تتقن فنون القتال وتتحلى بالشجاعة والإقدام. وقد بدأ التعاون بين أوما ثورمان وكوينتن تارانتينو منذ Plup Fiction، حيث لعبت دورا مميزا، ولكن من دون أن يكون لها قدرات قتالية. فهي زوجة رئيس العصابة مارسيليوس والاس. وهنا نلحظ الفرق في دور المرأة في الفيلمين المذكورين. ففي Kill Bill، تكثر المحاربات اللواتي يتقنّ مختلف فنون القتال. وفي المشهد الأخير في الفيلم، تتواجه امرأتان في المعركة الحاسمة، ويمتاز هذا المشهد بجمالية عالية تتمازج وتتناقض بآن مع العنف. أما في Plup Fiction، مثلاً، فالعنف مخصص للأدوار الذكورية، بينما النساء تقتصر أدوارهن على رتبة المنزل والعشيقة.

في إطار المقارنة بين الفيلمين، نلاحظ أن في Plup Fiction، تتعدد الشخصيات والقصص بحيث تضيع الحبكة في الأحداث المتشعبة. أما في Kill Bill فبرغم التشتيت، تحافظ أحداث الفيلم على تواصلها. بالإضافة الى ذلك، فإن Kill Bill يخرج من إطار الثقافة الأميركية وينفتح على أجواء حضارات الشرق الأقصى. وقد كنا اعتدنا في أفلام تارانتينو على استعراض للتراث السينمائي الأميركي بشكل خاص. ففي أول وآخر مشهد من Plup Fiction، يبرز العاشقان المجرمان مما يذكّرنا بأسطورة Bonnie And Clyde التي ظهرت أيضا في فيلم Natural Born Killers، الذي كتب له السيناريو تارانتينو وأخرجه أوليفر ستون. كما أننا نجد في Plup Fiction، العديد من الصور والأخبار التي أصبحت جزءا من التراث السينمائي الأميركي مثل حرب فيتنام.

متحف الصور

في أحد مشاهد Plup Fiction، تذهب ميا والاس (أوما ثورمان) مع فينسنت (جون ترافولتا) الى مطعم، حيث كل نادل ونادلة يقلد بمظهره وتصرفاته شخصيات سينمائية أو معنيين شهيرين كمارلين مونرو. كما أن ديكور المعطم نوع مبتكر يشبه بعناصره الأماكن التي تدور فيها أحداث الأفلام البوليسية، فيشعر بأنه نوع من المتحف تُعرَض فيه الصور السينمائية الراسخة في الخيال الاميركي والعالمي.

إن الدخول الى هذا المطعم هو كالدخول الى مخيلة تارانتينو. فهو يعيد انتاج هذه الصور التي اجتاحت خياله، ولكنه يهبها ذلك البعد الجمالي الساحر الآتي من ابداعه الفني. إن كل ما يحتوي عليه ذلك المطعم يعبّر عما يبغي تارانتينو ابرازه في اعماله السينمائية. هو يسعى كي تكون افلامه كمتحف يعرض فيه الصور والشخصيات التي طبعت في مخيلته. وبالفعل، في Kill Bill، نرى المشاهد المقتبسة عن افلام ويليام ويتني التي تأثر بها ترانتينو. كما اننا نلاحظ ان افلام السموراي اليابانية وفنون القتال المعهودة في الشرق الاقصى شكلت مصدر وحي مهما للمخرج. وهذا النوع من الاجواء المقتبس عن الثقافات الآسيوية يناسب اشكالية الافراط في العنف. بالفعل، تربط ديانات الشرق الاقصى العنف ببعد روحي وديني عميق.

واللافت، في متحف تارانتينو، مشاهد الرسوم المتحركة المليئة بالعنف، خاصة في Kill Bill. وكأن المخرج بريد القاء التحية على ذلك الطفل الذي يقضي وقته قابعا امام الشاشة الصغيرة. كذلك، في هذا الفيلم، نجد عدة مشاهد تصوّر الفتاة الصغيرة تشهد مقتل اهلها. وهكذا، يطرح المخرج موضوع المشاهد العنيفة التي تدور على مرأى من الاطفال. وقد قال تارانتينو في احدى مقابلاته انه رأى العديد من افلام الرعب والكونغ فو في طفولته. وهو لا يظن ان ذلك يدفع الاطفال للقيام بأعمال عنيفة، بل قد يجعل منهم مخرجين لافلام العنف.

الموسيقى

حين نقول Pulp Fiction، نتذكر حتما الموسيقى التي تتصدر Sound track هذا الفيلم وهي بعنوان Pumpkin And Money Bunny. وقد اشتهرت هذه القطعة الموسيقية المميزة من دون ان يعرف الكثيرون اسمها الحقيقي، بل يقولون: <<هذه موسيقى Pulp Fiction>>.

وفي الحقيقة، ان للموسيقى في افلام تارانيتنو دوراً كبيراً باضفاء نوع من الجمالية والشاعرية اللتين تتناقضان مع اجواء العنف، كما في اول مشهد من Kill Bill I، حيث تستلقي العروس المضرجة بالدماء على ألحان Bong, Bong, My Baby Shot Me. كذلك، تأتي الموسيقى في اطار المشاركة في خلق البعد الوهمي، فهي ايضا مصطنعة وتشكّل جزءاً من التراث الخيالي، الذي يرافق الصورة. وهي، في بعض المشاهد، تعبّر عن الحركة والنبض السريع في المشاهد القتالية.

Reservoir Dogs هو اكثر افلام تارانتينو تناولا لموضوع الموسيقى كجزء من خيال كل اميركي. فيتم ذكر اغنية Like a Virgin لمادونا والبرنامج الاذاعي Super Song of the 07th. وكأن السمعي والبصري اختلطا في ذهن المخرج، فنلاحظ ان بعض المشاهد العنيفة تدور على ألحان موسيقية وبعضها يترافق مع الرقص. فيظهر العنف وكأنه فن بين الفنون الاخرى، اي انه طريقة تعبير كالرقص والغناء. وبالفعل في Reservoir Dogs، يقول احد افراد العصابة للبوليسي المكبّل: <<لن اعذبك للحصول على اجوبة بل للتسلية>>. وهكذا يظهر العنف وكأنه جزء من الاستعراض الذي يجذب المشاهدين.

إن التطرق لمسألة جذب المشاهد عبر بث الصور التي تحتوي على الكثير من العنف موجود في فيلم Natural Born Killers. ويتناول الفيلم قصة عاشقين يمارسان العنف والقتل ويصبحان بطلين بفضل الصورة التي اظهرتها عنهما وسائل الاعلام. وتتبعهما كاميرا الصحافة في كل مكان، وهنا نجد تركيز المخرج على فكرة الكاميرا التي تنجذب نحو مشاهد القتل واراقة الدماء، وهي التي تعطي للمجرم هذا البعد الاسطوري الذي يجعله محط انظار المعجبين.

تارانتينو هو إذاً المخرج الذي قرر ان ينظر الى العالم السمعي والبصري بنوع من المسافة. فهو تارة يسخر من المبالغات السينمائية، وطوراً يظهر جمالية هذا الوهم. ولكنه لا يدخل ابداً في لعبة هذا العالم المفبرك، اي انه لا يدع الصورة الوهمية تسيطر على تفكيره او تتحكم بخياله. هي تتلاعب بحساسيته الفنية وتتمازج مع حسّه الفكاهي، ولكنها لا تقدر على ان تقنعه بأن يأخذها على محمل الجد. فهو في كل مشهد من مشاهد افلامه، يشير بطريقة او باخرى الى ان عالم السينما ناتج عن الخيال والابداع ولا يمتّ للحقيقة بصلة.

وهو بذلك يشير الى هشاشة الصورة التي يعتبرها معظم الناس في عصرنا وكأنها عامل مهم في تكوين المخيلة الجماعية. هي بالطبع تؤثر كثيراً على عدد كبير من المشاهدين، فتعطيهم صورة غير حقيقية عن الواقع. فالعديد من المراهقين اللبنانيين يظنون ان الحياة في اميركا هي كما تنقلها إلينا الافلام. وهذا امر غير صحيح، لأن الفيلم هو اولا ناتج عن خيال وابداع المخرج الذي يأخذ من الواقع ما يناسبه لتكوين عالمه السينمائي الخاص. وهذا ما يحاول تارانتينو الاشارة إليه حين يبالغ بالعنف، فهو يريد دائما انذار المشاهد بأن ما يراه على الشاشة ليس صحيحا وهو من نسيج الخيال.

السفير اللبنانية في  30 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

كوينتن تارانتينو

العنف يخرج من الوهم

منيرة أبي زيد