على رغم أن رياح الكوميديا "العاصفة" ما زالت تواصل هبوبها على السينما المصرية, وتقتلع الأخضر واليابس. إلا أن هناك محاولات تسير ضد التيار تتمثل في قلة من الأفلام المنتجة سنوياً. وأياً كانت مبررات إنتاج هذه الأفلام وإلى أي مدى يمكن اعتبارها مغامرة إنتاجية, فإن الثابت أن وراء هذه الأفلام محبين حقيقيين للسينما, وشباباً لا يرتضون وضع أسمائهم على المعلقات كمخرجين ومؤلفين (وكفى), بل يسعون إلى ترسيخ قيم وأرساء معان لأعمالهم. في "أحلى الأوقات" توقّع هالة خليل كمخرجة, ووسام سليمان ككاتبة للسيناريو اسميهما في سجل الامتياز, كما وقّع من قبل هاني خليفة وتامر حبيب "سهر الليالي", وإيهاب لمعي "من نظرة عين". ويقف وراء المخرجة والكاتبة المنتج محمد العدل الذي تحمّس لإنتاج الفيلم على رغم ابتعاده عن قوالب النجاح التجارية سابقة التجهيز. ليس مستغرباً أن تضطلع هالة خليل بإخراج هذا الفيلم. فهي واحدة من المخرجات المصريات القليلات اللاتي قدّمن عالم المرأة بعدسة مقربة ونظرة من الداخل. ولا ينطبق وصف السينما النسوية على ما تقدمه هالة لأنها لا تتحيز ضد الرجل, بقدر ما تجيد التعبير عن مشاعر المرأة وأحاسيسها, وبناء وجهة نظر انطلاقاً من ذلك. في فيلمها القصير "طيري يا طيارة" سبرت هالة عالم الفتاة المراهقة وتغلغلت فيه على رغم ما يغلفه من غموض وانغلاق. ناقشت قهر الرجل للمرأة في شتى صوره (الأب لابنته, والزوج لزوجته). وفي النهاية عرجت على توحد المصائر بين الفتاة سلمى التي سرقت طفولتها, والخالة المطلقة التي سرقت زهرة شبابها. وفي "أحلى الأوقات" تتحول سلمى إلى فتاة يانعة لكنها تعيش حياة منغلقة. مصير سلمى لا يتقرر هذه المرة بفضل أفعال الرجال مباشرة, ولكن لأسباب أخرى عدة على رأسها عبث الأقدار. فشخصية سلمى هنا هي أكثر رحابة وأفقاً في عالم عبثي ومنغلق كما رسمته وسام سليمان. من الدراما الى الفن سيطرة هالة خليل تتعدى ما هو درامي إلى ما هو فني, فهي تتميز أيضاً بقدرتها على تكثيف التعبير البصري, وهو ما يتضح منذ المشهد الأول الذي يسبق العناوين وتقدم فيه شخصية (نجوى) مها أبو عوف منذ استيقاظها, ومع أغنية "الدنيا ريشة في هوا" نرى تفاصيلها وعلاقتها بزوجها, حتى سقوطها اثناء محاولتها استعادة وشاحها من فوق الشجرة ليكون موتها شديد العبثية. يبدأ حزام من الكآبة والوحدة يحيط بسلمى, يجعلها تقرر ترك منزل زوج أمها ربيع. ولكن هناك رسائل تصلها من مجهول تعجل ببداية الرحلة. رسائل غريبة تبث فيها الحنين. مرة شريط كاسيت لمحمد منير وأخرى حظك اليوم, وثالثة صورة فوتوغرافية تضم صديقات الطفولة. من هنا تبدأ الرحلة... تقود سلمى سيارتها في شوارع المعادي الهادئة مع أغنية منير "بحر الحياة" التي لحّنها أحمد فرحات, والتي تعد من أجمل ما قدم منير في سنواته الأخيرة. أن منير يمثل لبطلتنا سلمى, كما يمثل للمخرجة والمؤلفة, تعبيراً عن مرحلة اجتماعية وسياسية, بل ونفسية أيضاً. استمر منير واستمرت التغيرات, ولم نتوقف عن سماعه حتى اليوم. أما البداية الحقيقية للرحلة فهي العودة إلى الحي القديم شبرا للالتقاء بصديقات الطفولة اللواتي لم تراهن سلمى منذ أربعة عـشـر عـاماً. الرحلة مـن حـي المعـادي الراقـي إلى حـي شـبرا (الشعبي) بحثاً عن مرسل الخطابات. في شبرا تلتقي سلمى ضحى (منّة شلبي) التي لا تتعرف اليها للوهلة الأولى. وحينما تتعرف اليها تكاد لا تصدق عينيها. وهنا تبرز طرافة الحوار وواقعيته, إذ تردد ضحى: فعلاً... فعلاً... هي فعلاً(...). ثم تذهبان إلى صديقتهما الثالثة يسرية (هند صبري) الحامل المحجبة التي لم تتعرف الى سلمى أيضاً. حينما تنفي الصديقتان أنهما أرسلتا الخطابات يبدأ خلل درامي في الظهور. فهناك لعبة إثارة بوليسية(...), وهناك سيارة سوداء مريبة تراقب بطلتنا(...). وهناك الجار المريب هشام عمرو واكد. هناك بالطبع مغامرات لدخولهن شقته, ولاكتشاف أنه لم يكن مرسل الخطابات. ونتعرف أكثر الى هشام الذي ترك الهندسة واختار العمل كمصمم عرائس (ماريونيت). هذه الشخصية تعود أهميتها الدرامية لكونها عكس سلمى المسيّرة أغلب الوقت. ولكن المأخذ على طريقة تقديم الشخصية, وإتخاذ الإثارة كمعبر درامي ليس لها أي محـل في هذا الفيلم. أحلام البنات... المجمدة في هذه الأثناء نتعرف الى عوالم الفتيات الثلاث وأحلامهن التي لم تتبدل منذ سنوات. حلم ضحى بالتمثيل على رغم أنها تعمل على أرض الواقع مع خطيبها طارق (أمير كرارة) في مكتب لنسخ الوثائق, وحلم يسرية بالرومانسية على رغم أنها تزوجت إبراهيم (خالد صالح) وهو رجل فظ وانجبت طفلتين وتحمل الثالث في أحشائها. ولا يتوانى هذا الرجل عن إلقاء يمين الطلاق عليها كلما سمحت له الفرصة بذلك. أما سلمى فيبدو لنا أن حلمها في الخروج والتعرف الى ذاتها سيدفعها الى السفر هرباً من الحياة الفاترة التي تعيشها. حملت رحلة سلمى مع صديقاتها العديد من المشاهد الجميلة مثل مشهد محل الكشري, لعبهن الكرة في الشارع على أغنية منير "نعناع الجنينة", مشهد الحجز داخل قسم الشرطة بعد المشاجرة, وحوار يسرية "الحضن أهم من البوسة بكتير/ الرجالة بعد الجواز مبيعرفوش يحضنوا كويس". لكن المشكلة تكمن في علاقة هذه المشاهد ببعضها بعضاً, وما يتخللها من مشاهد بينية سواء أكانت جديدة أم مكررة والتي تشكل عبئاً يكاد يوقف سير الأحداث, ويخنق نهر السرد الضيق. وإذا كانت هناك حساسية مرهفة من المخرجة والكاتبة في التعبير عن عالم المرأة. فهناك في المقابل عدم نضج في فهم العلاقة بين الطبقات, فالفتاة القادمة من المعادي لا يمكنها اعتبار "طبق الكشري" نوعاً من الفولكلور, ولا يعتبر جهلها بكلمة "ستو الحاجة" انقطاعاً عن طبقتها القديمة وانتماؤها الى طبقة جديدة. فهذه كانت تستخدم في الأحياء الشعبية في شكل مجازي للتعبير عن (العادة الشهرية). ولكنها تكاد تنقرض إذ لم تعد تستخدم حتى من بنات الطبقات الشعبية اللواتي ينتمين الى المرحلة السِنّية نفسها التي تنتمي إليها بطلات الفيلم. أضف إلى الشكل الفولكلوري للحارة الشعبية كعين وكمفهوم ليتم تلخيصها في مشاركة الجيران في مشاجرة تضامناً مع إحدى بنات الحي(...) تهاوي الإيقاع... تزداد معوقات التدفق في الجزء الأخير من الفيلم منذ أصطحاب سلمى صديقاتها إلى الإسكندرية من أجل البحث عن الأب حتى عودتها إلى القاهرة لتلتقي ربيع في مشهد طويل أمام مقبرة الأم(...). أن خوف المؤلفة والمخرجة من ألا يصل الفيلم إلى الجمهور دفعهما هذا الى حث الشخصيات على شرح أنفسها في مشهد يكاد يفتك بإيقاع الفيلم. في مشهد النهاية ننتقل من أغنية "الدنيا ريشة في هوا" إلى أغنية منير "الدنيا بتلعب بينا", بينما تعود الشخصيات الى دوائرها نفسها بعد أن ارتبطت سلمى بهشام, وعادت ضحى الى طارق كزوج وشريك في العمل, وعادت يسرية إلى إبراهيم الذي يشتري لها الزهور, لكن حينما يرى الكباب لا يستطيع مقاومة رائحته (...) على رغم تفرد الفيلم في العديد من العناصر, فإنه يعاني من مشكلة في الإيقاع نابعة من بناء السيناريو وصولاً الى التركيب الذي قامت به منار حسني والذي أدى لوقوع المشاهد في براثن الملل في أجزاء متعددة. ولقد ساعدت الموسيقى غير الملائمة في ترسيخ هذا الإحساس. ويعود عدم ملاءمتها في الإساس الى نوعها الذي لم يتجانس مع صورة الفيلم, ولتوظيفها المتكرر في مشاهد متعددة كان يمكن الاستغناء عنها. وبدوره يأتي تصوير أحمد المرسي ليعبر عن إحساسه الواعي بدراميات الإضاءة, خصوصاً في المشاهد الداخلية ( شقة ربيع/ أستوديو الأب/...), بينما لم يحالفه التوفيق نفسه في مشاهد الحارة الخارجية. وهو أيضاً ما ينطبق على ديكور شيرين فرغل التي تميزت في التعبير الجمالي عن شقة ربيع لكنها لم تفعل الشيء نفسه مع شقة يسرية على سبيل المثال. هند صبري... في المقدمة بذلت هالة خليل مجهوداً ضخماً في توجيه ممثليها, وبخاصة هند صبري في دور يسرية التي تشعرك في كل كلمة وكل إيماءة أنها ولدت في هذا المكان. خفة ظلها التلقائية, توقها إلى الرومانسية, نظراتها إلى زوجها المتحسرة تارة والمتحدية تارة أخرى. وعلى رغم أن أداء هند كان مفاجأة بالنسبة الى البعض وبخاصة الذين صنفوها من قبل تصنيفاً قاصراً على أنها ممثلة إغراء, فهي في حقيقة الأمر ممثلة من طراز رفيع تستطيع أن تؤدي كل الأدوار, بل ودائمة التطور من دور الى آخر. أما حنان ترك فجسّدت شخصية سلمى باقتدار, هذه الفتاة الحائرة التي لم تتعرف الى نفسها بعد, وعبّرت نظراتها عن انعدام الثقة في نفسها, وعن ارتباكها الخجول وبخاصة في مشاهدها القليلة مع عمرو واكد والتعبير عن المشاعر الدفينة في مشاهدها مع الأب. منة شلبي في دور ضحى لم تتخطَ نطاق المعتاد وإن لم يخلُ أداؤها من اجتهاد. وكذلك اجتهد عمرو واكد وأمير كرارة في حدود دورهما. ولا يزال خالد صالح الذي أدى دور إبراهيم يحرز تقدماً متجنباً (الكليشيه) حتى وإن دفعت ملامحه الحادة المخرجين الى محاولة حبسه في دور الرجل القاسي. ومع هذا لا تزال داخله طاقات لم يفرج عنها بعد. أما سامي العدل في دور ربيع فكان ينقصه الكثير من التفاصيل للوصول إلى مكنون هذه الشخصية. "أحلى الأوقات" أبرز اسم هالة خليل كمخرجة متميزة, تملك أدوات الإحتراف لكنها في الوقت نفسه محبة لفن السينما, ووسام سليمان ككاتبة موهوبة واعدة. وهو في بداية متميزة شابتها بعض السلبيات. ورحلة بحث لبطلته تتوحد فيها مع المخرجة والمؤلفة لتقديم هذا الفيلم الدقيق والصعب في آن. ولكن الأهم هو التمسك بالاختيار في زمن يزداد فيه الطريق وعورة يوماً بعد يوم. جريدة الحياة في 30 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"أحلى الأوقات" رغم قسوة طريق تزداد وعورة أحمد رشوان |
|