شعار الموقع (Our Logo)

 

 

خلال العام 2002 سافر المخرجان أيال سيفان وميشال خليفي مع كاميراتهما داخل فلسطين متتبعين خطاً وهمياً على الخريطة يوافق حدود التقسيم الذي صوتت عليه الأمم المتحدة بتاريخ 29/11/،1947 والذي بات يعرف بالقرار .181 في مواجهة النسيان والظلم اجتمع المخرجان الاسرائيلي والفلسطيني ليحققا فيلماً تسجيلياً بعنوان "طريق 181"، سيبقى علامة فارقة في الذاكرتين الفلسطينية والاسرائيلية. والفيلم سيعرضه "الخط المباشر" في "زيكو هاوس"، سبيرس، غداً الاثنين، السادسة مساء.

من دون مواعيد مسبقة ومن دون تحضير، تتنقل الكاميرا في رحلتها متتبعة على الارض المسار الوهمي للحدود، وتلتقي بأناس عاديين من كل الاصناف والمشارب تبدلت حياتهم في العمق بعد انشاء دولة اسرائيل. فلسطينيون ويهود، او حتى اليهود - العرب، يتكلمون على سجيتهم عن انشاء دولة اسرائيل وعن الماضي الذي يقض مضاجع الكثيرين في اسرائيل، وعن الحاضر الذي يعيش أسير اشباح الماضي.

ينتمي هذا الفيلم الى الافلام التسجيلية التي شكلت علامة فارقة في تاريخ السينما العالمية. فمن خلال فريق تصوير مختصر وكاميرا محمولة ولغة بصرية غاية في البساطة، يذهب المخرجان الى ملاقاة الواقع مزودين معرفة عميقة بكل الاسئلة المسكوت عنها في تاريخ نشوء دولة اسرائيل، وقدرة هائلة على كشف عمق النفس البشرية (الفلسطينية والاسرائيلية) في مواجهة هذه الاسئلة.

الطريق الى اين؟

قوة الفيلم وفرادته في طرح الاسئلة المحرجة وإفساح المجال للناس العاديين لإظهار أعماقهم الخفية. فالكاميرا في هذا الفيلم لا تمسرح الواقع ولا تحوّله استعراضاً سينمائياً. إنها تدعوه للكشف عن جوانبه الخفية في مشاهد تبحث عن الحقيقة ولا تهرب من مواجهتها.

إنها رحلة داخل الفكرة الصهيونية في ارض فلسطين. رحلة امتدت شهرين من السفر داخل المكان - الذاكرة، وأنتجت مئة ساعة تصويراً لتخرج بفيلم مدته اربع ساعات ونصف ساعة يطرح على المجتمع الاسرائيلي الاسئلة الصعبة ويضعه في مواجهة الحقيقة التي طالما رفض رؤيتها، ويكشف واقع تهجير الفلسطينيين في العام 1948 والعنصرية والممارسة الى اليوم في حق فلسطينيي الداخل. نكتشف ان النكبة لا تزال مستمرة وان فلسطين تُنتهك في كل يوم وفي كل ساعة منذ ال1948 حتى اللحظة.

ينقسم الفيلم ثلاثة اجزاء تتوافق مع وجهة السفر التي اختارها المخرجان في عبور فلسطين التاريخية من الجنوب الى الوسط وصولاً الى الشمال. واذا كان من المستحيل أن تقدّم أي كتابة صحافية للقارئ عمق الرسالة التي تحملها هذه الوثيقة البصرية، فسنحاول قدر الامكان عرض المحاور الاساسية والحوارات المهمة التي تضمنها هذا الفيلم، وإن كان لا شيء يغني عن مشاهدة "الطريق 181".  

كاميرا الجنوب

تبدأ رحلة المخرجَين من مدينة أشدود الساحلية. وعلى شاطىء البحر بجانب ورشة بناء ضخمة، تصوّر الكاميرا عمالاً صينيين ينتظرون على الرمال بدء العمل. وحين قدوم المقاولين الاسرائيليين اصحاب الورشة، يتذمر واحدهم من العمال الصينيين مذكّراً بأن "العامل العربي يساوي أربعة عمال صينيين. مع العمال العرب، كانت الامور ابسط. يأتون في الصباح ويعودون مساء للنوم في بيوتهم. ولم نكن نضطر للاهتمام بمنامتهم وبوسائل المواصلات".

يتبادل المخرجان اطراف الكلام مع المقاولين فنكتشف ان احدهم من يهود المغرب والثاني من كردستان العراق. وجواباً عن سؤال كيف كانت حياته في المغرب، يقول المقاول: "كانت جيدة، لكن القصة صار لها خمسين سنة". يعترض اليهودي الكردي موبخاً رفيقه: "شو عم تحكي. شيعي او مسيحي، كلهم يكرهوننا. معاداة السامية في كل مكان. الحياة هناك ربما كانت أبسط لكنها لم تكن افضل. لا أحد يحب اليهود". ويضيف بين الجد والهزل: "عندنا العربي الجيد هو العربي الميت".

وعندما يذكّره المخرج بأن الارض التي يبني عليها وحداته السكنية كانت في الماضي ملكاً للفلسطينيين يجيبه المقاول من دون تردد: "دع عنك هذه الامور. نحن ايضاً في كردستان كان لدينا اراض وأخذت منا. ماذا تريد! لقد شنّوا علينا الحرب مرة ومرتين وثلاثاً وانهزموا. ولو أنهم من بني آدم، لكانوا أرتضوا بما أعطيناه لهم. أنهم ليس من بني البشر، انهم حيوانات".

يعترض المخرج على قسوة وصفه للفلسطينيين بأنهم حيوانات. فيأتيه الجواب في الحال: "ماذا تريد ان افعل. هذه هي الحقيقة. أعطيناهم في غزة الطرق والابنية والمجارير، وكانوا في السابق مجرد فلاحين. واليوم لا همّ لهم سوى قتلنا وقتل اطفالنا في تفجير الباصات. كم عددهم؟ مليونان. ثلاثة؟ ألم يكتفوا بصحراء غزة؟ لماذا لا يرحلون الى البلاد العربية المجاورة؟ يوجد في العراق والكويت والسعودية اماكن شاسعة لاستقبالهم".  

الحلم والكابوس

الخريطة على مقود السيارة. يتابع المخرجان رحلتهما في الجنوب في موازاة قطاع غزة. الكاميرا تصوّر الحقول والبيوت والشعارات الصهيونية المكتوبة على جوانب الطرق من مثل "أرفعوا العلم واستمروا في عيش الحلم". نعم الحلم بجانب كابوس قطاع غزة.

لكن، وسط هذا الحلم الصهيوني هناك كوابيس اخرى. فمشهد البيوت الحديثة والمزارع النموذجية والطرق المعبدة، منظر مألوف للمشاهد العربي. فالكاميرا تلتقط من بعيد صورة منزل حجري قديم ونخلة شاهقة وبستان بسيط ضائع في جحيم من المستودعات الضخمة. مشهد ينتمي الى زمن آخر. تقترب الكاميرا من المنزل وتخرج سيدة عجوز تعرّف عن نفسها بأنها "عربية اسرائيلية". ثم تضيف: "فلسطينية". تروي ان هذه المنطقة كلها كان اسمها "مسمية" وان العائلات المسلمة غادرت في العام ،1948 ثم أتى اليهود الاشكيناز والمغاربة واليمنيون. تقول إن معظم اهلها غادروا في العام 1948 وانهم موزعون بين بيت لحم وبيت ساحور وعمان ومصر والعراق وأنهم لا يستطيعون المجيء لرؤيتها لأنها هنا في سجن. نكتشف ان منزلها وارضها مهددان بالمصادرة لأن الدولة تريد إمرار طريق من هذه المنطقة التي لم يبق فيها الا ثلاث عائلات عربية. تقول ايضاً وهي جالسة على كرسي امام باب منزلها: "هذه ارضي وعندي طابو من ايام تركيا. لو هدموا بيتي سأضع خيمة وأقعد. لو ان هناك دولة تحكم بالعدل لما سمحت بهذا الشيء. لو فقط يتذكرون انهم جاؤوا ونحن احتملناهم. اللقمة التي في فم العربي يريدون ان يأخذوها ويعطوها لليهودي. هذه مش حياة! عمري ما اذيتهم وهم يريدون اليوم أذيتي. حتى قطعة الارض هذه يريدون منعي من ان اعيش فيها مع غنمي وبقري. يأخذون مزرعتي وبيتي! وين بدي اروح؟ كل ما اريده هو ان ابقى في ارضي بعيدة عنهم".

وفيما كان احد ابناء السيدة الفلسطينية وهو شاب ثلاثيني، يراقب بصمت الحوار الدائر بين المخرجَين ووالدته، يسأله احدهما عن رأيه في الشعارات المكتوبة على الحائط بالقرب من المنزل والتي تقول: "الترانسفير هو السلام: الفلسطينيون الى الاردن". "الموت للعرب". يجيبهما الشاب بمرارة: "لم اعد اهتم بهذا الشيء. انه امر عادي، فالكل هنا يفكر بهذه الطريقة . شو بدك تزعل! اكتب مرة واحدة بجانب هذا الشعار: الموت لليهود، وسترى ماذا يحدث. في اليوم التالي ستأتي كل التلفزيونات". وحين يسأله المخرج: أتشعر بالعنصرية؟ يجيب الشاب بغضب: "أأشعر بالعنصرية؟!! بل اعيشها كل يوم. لم يبق لديّ صاحب يهودي رغم اننا تربينا معا. اين هم اليوم؟ الآن يريدون بناء جدار للفصل بين الفلسطينيين واليهود. السبب ليس انهم لا يستطيعون العيش مع الفلسطينيين. هم اتوا من بلدان عربية وعاشوا مع العرب مئات السنين. المشكلة ليست بين العرب واليهود. المشكلة هي بين من اتى واستحل وبين من استُحلت ارضه. لماذا يقولون اليوم ان  العرب يكرهوننا ويريدون رمينا في البحر؟ لماذا اذن لم يرموكم في البحر في المغرب او اليمن. الذي رماكم في البحر هو طرف آخر وليس العرب".

ودائما في منطقة مسمية، تصل الكاميرا الى محطة وقود يجاورها منزل قديم تم تحويله مطعما. داخل المكان مجموعة كبيرة من صور الاسلحة المتطورة للجيش الاسرائيلي معلقة على الجدران. تستقبلهم صاحبة المكان بلطف بالغ وتشرح لهم ان وجود هذه الصور يجعلها تشعر بالامان وانها طلبت ان توضع هذه الصور معها في القبر. وبعد ان "تصحح" اسم مسمية ببديله العبري الموجود في التوراة تخبرهم ان بعض العرب يأتي احيانا للسؤال عن منازله المهجورة وانها لا تتمنى ان يأتي احدهم يوماً ليطالبها بالمطعم. ثم تقول بصوت منخفض: "كان علينا ان ندمرهم وننتهي من هذه القصة. لا يزال هناك عائلتان او ثلاث تعيش هنا. انا لا احملهم ابداً في قلبي. علينا ان ندفع لهم نقودا ونرحّلهم من هنا لتخليص البلد منهم، يجب ان يرحل جميع العرب بمن فيهم العرب المقيمون هنا. لا تزعل مني اذا كنت اقول هذا الشيء، ربما تكون انت متعاطفا مع العرب، كما الحال مع وسائل الاعلام. وربما عليّ ان امارس الرقابة الذاتية. ومع ذلك علينا ان لا نكون متسامحين مع العرب وعلينا ضربهم بقوة والا قضي علينا".

ودائما في جنوب فلسطين تنقلنا الكاميرا الى متحف مخصص لاحدى معارك 1948 ضد القوات المصرية. يطلعهم مسؤول المتحف وهو يهودي بولوني هاجر الى فلسطين في العام 1938 على  الصور والمجسمات التي تروي النسخة الصهيونية لحرب 1948 ونشوء دولة اسرائيل. يذكّر زواره بأن العرب لو كانوا فطنين في العام 1948 لكان لهم منذ ذلك الوقت دولة. ويشرح لهم ان الكثير من لاجئي غزة يأتون من هذه المنطقة وانه كان هناك مئة هكتار من حقول الكرمة لكنهم دمروها بعد فترة وزرعوا اشجارا اخرى بدلا منها لأنها لم تعد مربحة. يقول: "هنا لا نهتم بالمشاعر لكن بالمال".

من المتحف تنقلنا الرحلة الى معمل ضخم للاسلاك الشائكة كان مهددا بالاغلاق في منتصف التسعينات، لكنه بات اليوم مزدهرا بفضل شراء الجيش الاسرائيلي 400 كلم في الآونة الاخيرة. وعلى اصوات الآلات الضخمة التي تقطع الاسلاك وتفرزها، يخبرنا احد المشرفين على الانتاج ان هذه الاسلاك تمنع المعاهدات الدولية استخدامها على الحدود، لفعلها المدمر على جسد الانسان بسبب عمق شفراتها وحدّتها، لكن اسرائيل تضطر لاستخدامها حماية لحدودها. وان كلفة الكيلومتر الواحد تقدَّر بمليون اورو. وفي غرفة المدير نجد له صورا مشتركة مع باراك وشارون خلال زياراتهما للمعمل.

بالقرب من معبر ايريتز السيىء الذكر، تزور الكاميرا متحفا آخر، لكنه للمياه هذه المرة. اما المسؤول عنه فهو من رواد الصهيونية الاوائل في منطقته. كان في البداية عضوا سريا في الهاغانا ويعمل شكليا كمزارع. يشرح الرجل لزواره كيف اشتروا الاراضي وبنوا المزارع في هذه المنطقة ليثبتوا ان هناك وجودا يهوديا في منطقة النقب، وذلك من اجل كسر توصيات لجنة بيل التي كانت اقترحت في نهاية الثلاثينات اعطاء النقب للفلسطينيين. ويفتخر بأنهم انشأوا في ليلة واحدة 11 مزرعة في مناطق متفرقة في النقب. وانهم تمكنوا في النهاية من فرض تعديل مقترحات بيل وادخال النقب ضمن الاراضي التابعة للدولة الاسرائيلية في قرار التقسيم. اما السلام فيعتقد، ككل الذين سبقوه، انه لن يأتي "الا عندما يدرك العرب انهم بالحرب لن يستطيعوا تدمير اسرائيل لكنها ستدمرهم اكثر فأكثر".

بالقرب من الاسلاك الشائكة التي تفصل قطاع غزة عن بقية فلسطين يستوقف احد الجنود فريق التصوير ويمنعه من الاقتراب اكثر من الحدود، ومع ذلك يعترض على وصفها بالحدود الدولية. ففي رأيه ليس هناك حدود دولية تفصل دولة اسرائيل عن قطاع غزة لأنه لا توجد هناك دولة فلسطينية.

اما الفنان التشكيلي الاسرائيلي المتعاطف مع الفلسطينيين، والذي يقل في سيارته المخرجَين بجولة في محاذاة حدود قطاع غزة، فيختصر تاريخ الصهيونية بالعبارة الآتية: "الصهيونية هي الحواجز".

ويشرح هذا الفنان طبيعة النظام السائد في اسرائيل بالعبارات الآتية: "النموذج السائد هنا هو النموذج الجنوب افريقي حيث الاقلية البيضاء تسيطر على الاغلبية السوداء. العرب هنا ليس لديهم اي حقوق مدنية. نعاملهم بلطف ونعطيهم ما يسدّ رمق عيشهم، لكن من غير المسموح لهم أن يثوروا او ينتفضوا".

تنتهي رحلة الجنوب بعرس يهودي في حديقة احد الفنادق، حيث تشرف على الحاضرين صورة ضخمة لتيودور هرتزل تشبه صور الزعماء الديكتاتوريين في أمكنة اخرى من العالم. وتُعرض على شاشة ضخمة صور للعروسين تتخللها صور للعريس مؤدياً خدمته العسكرية بلباسه الميداني وعتاده الكامل. لا يتم الزفاف قبل أن يطلب الحاخام من العريس ان يردد الصلاة من اجل القدس: "اذا نسيتك يوماً جيروزاليم لتنشلّ يدي اليمنى ويلتصق لساني في سقف حلقي".  

خريف المهاجرين في الوسط

يبدأ الجزء الثاني من الفيلم المخصص لمنطقة وسط فلسطين في مدينة اللد، وبالتحديد من مركز دمج المهاجرين الجدد. تنقل الكاميرا مشاهد مذهلة لاحتفال يقيمه المركز لطلابه الأثيوبيين لمناسبة رأس السنة العبرية. فاذا نحن امام صالة ملأى بمهاجرين أثيوبيين، معظمهم في خريف العمر، وتعلو وجوههم مسحات من الصمت والضياع والحزن. هذا في وقت تعزف فرقة من الموسيقيين البيض ألحان "الكليزمان" الاوروبية الشرقية الراقصة على آلات الفلوت والأكورديون. مشهد سوريالي ساخر يعبّر ببلاغة الصورة عن كل تناقضات المشروع الصهيوني. مهاجرون لا يتقنون العبرية ولا يفقهون شيئاً من موسيقى يهود اوروبا الشرقية، يجلسون جامدين يتطلعون في الفراغ، مسؤولة المركز تخاطبهم بالعبرية: "دعوني أرى أنكم تتكلمون العبرية! هل تفهمونني؟! هذا المركز يجسد استمرار الصهيونية وهو موجود في مدينة اللد التي هي في قلب اسرائيل وعلى بعد دقائق من المطار الذي يستقيل المهاجرين الجدد من امثالكم. حب اسرائيل والأمل في اسرائيل موجود في عيونكم". تتحول الكاميرا لتصوّر عيون المهاجرين الاثيوبيين الخاوية والحزينة التي لا تقول شيئاً آخر سوى الغربة والوحدة. ثم يتحدث رئيس بلدية اللد الذي يشكر بدوره مسؤولي المركز الذين جعلوا الصهيونية جزءاً من الواقع اليومي، متمنياً ان تبقى اسرائيل مكاناً للمهاجرين الجدد. ويُدعى الجميع لرفع "نخب هذا البلد الجميل والمعطاء ولشرب نبيذ أرض اسرائيل". لكن معظم الاثيوبيين في القاعة لا يرفعون هذا النخب ويستمرون في ثباتهم. إما لأنهم لم يفهموا ما طلب منهم وأما لأنهم في الاساس ليسوا من هواة شرب النبيذ.

تنتقل الكاميرا لتصور تظاهرة في شوارع اللد لبعض النشطاء العرب والاسرائيليين تطالب بالحقوق للاقلية العربية في اللد ولرفع نظام الأبارتايد عنهم والسماح لهم ببناء مساكن جديدة تستوعب زيادتهم السكانية، ثم الى اجتماع للمجلس البلدي في المدينة وتصور الكاميرا كيف يتم إخراس ممثل الاقلية العربية في المجلس عندما يطالب برخص لبناء مساكن جديدة لابناء حيه. ويهاجمه بعض الاعضاء لكون ابناء بلدته لا يكفون عن التكاثر، آخذين عليه ان العرب كانوا 7 في المئة من عدد سكان اللد واصبحوا اليوم 27 في المئة .

وعندما يحتد العضو العربي ويصرخ في وجه زميله اليهودي قائلاً: "أنا ولدت هنا وأهلي من قبلي كانوا هنا ولم آت من المغرب"، يرد العضو اليهودي: "لا تدخّل المغرب بالموضوع. اصلاً، أنت لا تنتمي الى دولة اسرائيل". يجيبه النائب العربي: "العرب ولدوا هنا وسيبقون هنا، شئت أم أبيت".

تزور الكاميرا  منزل سيدة عربية تعيش مع ثمانية من افراد أسرتها في منزل صغير وتنتظر منذ ثلاث سنوات رخصة لتوسيعه من دون فائدة. نكتشف من خلال الحوار معها أنها أمضت 6 سنوات في السجن السياسي وان أخاها محكوم بالسجن المؤبد وهي ممنوعة من زيارته منذ خمس سنوات. وحين يسألها المخرج هل من الممكن ان تحصل على الرخصة، إن هي تأسفت على ماضيها، تجيبه بحزم: "لمين أتأسف، وعلى اي شيء. أتأسف على ابنتي التي رميت بالشوارع خلال ست سنوات، او على أمي التي شلّت في غيابي، أو على نظري الذي فقدت معظمه من التعذيب في السجن. على أي شيء أتأسف. أنا دفعت عمري ثمناً!".  

كيف سقطتْ كيف نُهبتْ وكيف قُتلوا

ودائماً في مدينة اللد وفي واحد من اقوى مشاهد الفيلم، تدخل الكاميرا الى صالون للحلاقة في الحي العربي وتستعيد مع زبائنه الكهول قصة غيتو اللد الذي سجن فيه سكان المدينة حتى العام .1956 واثناء قصه شعر زبونه، يروي الحلاق بصوت هادئ وبعيداً عن أي إثارة، كيف سقطت المدينة ونهبت وكيف حوصر حوالى 300 شخص في الجامع وقُتلوا بدم بارد وبقيت جثثهم ملقاة هناك لمدة اسبوعين، حتى سمح لمن بقي من اهالي المدينة، وبينهم الحلاق، بنقل الجثث المتعفنة الى المقبرة حيث تم حرقها. نكتشف مرة اخرى مع هذا المشهد كم ان الذاكرة الشفهية الفلسطينية لا تزال حية، وكم من الضروري تسجيلها قبل فوات الاوان.

تستمر رحلة الكاميرا في وسط فلسطين وفي كل مرة يسأل فيها أحد الاسرائيليين عن القرى العربية المهدمة بجوار مسكنه وعن مصير سكانها الاصليين، تظهر الريبة في عين المتحدث ويأتي الجواب حازماً بعدم الرغبة في التكلم في السياسة. عند هذا الحد يصبح سؤال الذاكرة في بعدها الاخلاقي ذا عواقب سياسية وبالتالي يجب تجنبه. لكن هذا لم يمنع المسؤول في أحد الكيبوتزات عندما سئل عن السكان الاصليين وبعدما أشار الى عدم رغبته في الكلام بالسياسة، من أن يضيف الآتي: "كان من الأجدى لو اننا فعلنا في العام 1948 مع الفلسطينيين ما فعله البيض بالهنود في اميركا، عندها لن يكون هناك اليوم ناس تثير هذه المشاكل وكنا نحن سنعيش بطمأنينة أكبر".

تصل الكاميرا الى مشارف القدس وتبدأ حواجز الجيش الاسرائيلي بالظهور والى جانبها طوابير الفلسطينيين الذين ينتظرون السماح لهم بالعبور، ويتغير المشهد فنرى مدينة في حالة حرب ويبدأ حائط الفصل بالظهور داخل المشهد. وفي حوار ساخن مع جندي على أحد الحواجز حاول منعهم من التصوير، يقول له أيال سيفان: "لو كان لديك دماغ تحت هذه الخوذة لرفضت أن تمضي عاماً كاملاً على هذا الحاجز". يجيبه الجندي الشاب: "أنا هنا لأنني أخدم بلدي". فيسخر منه أيال قائلاً: "هذا بالضبط ما يقوله كل جندي يرتكب الفظائع". فيرد الجندي بغضب: "أنا لم أسىء اليك. أنا هنا لحماية بلدي من العمليات الانتحارية". ويكون رد أيال سيفان: "وجودك هنا أكبر اساءة لي. العمليات الانتحارية سببها الاحتلال وأنت تمثل الاحتلال".

ومن مشهد الحاجز تنتقل الكاميرا لتصوير وقائع محاكمة شبان فلسطينيين متهمين بالتخطيط لعمليات انتحارية. ونرى كيف يمنع الجنود الاسرائيليون أحد الشبان المعتقلين من لمس والدته وأخيه الصغير. ولا يستطيع المعتقل الفلسطيني ان يمسك دموعه، في حين تحاول أمه أن ترفع معنوياته وتطالبه بأن يظل عالي الجبين.  

تفاهة الشرّ

تنتقل الكاميرا الى احدى ضواحي القدس في اتجاه منزل عائلة احد الاستشهاديين الذي دمره الاحتلال قبل ساعات. تلتقط مشاهد وحوارات مع بعض افراد العائلة تصلح لأن تكون درسا عميقا للأقنية العربية عن كيفية صنع الروبورتاجات التلفزيونية في مثل هذه الظروف. يقول احد اقارب العائلة: "هل تصدقون ان ابننا استشهد من اجل المصاري؟ جميع بترول السعودية لا يساوي شعرة من رأس الولد الذي راح. ابن الواحد، موته كارثة". تضيف سيدة من العائلة: "مين يهون عليه ابنه يعمل عملية. انت عندك ولد بيهون عليك يروح يموت؟ ما بيهون. لكن الاهانة هي التي تدفع الشباب غصبا عنهم لتنفيذ عمليات كهذه. انا، انا لو صحّ لي من قهري في بعض الاحيان لكنت نفذت عملية انتحارية".

من ضاحية ابو ديس حيث يشرح الاهالي للمخرجين كيف صادرت سلطات الاحتلال معظم اراضيهم الزراعية الميري ينتقل فريق التصوير الى مشارف رام الله حيث يوقفهم حاجز عسكري ويمنعهم من دخول المدينة بحجة حظر التجول. وفي الانتظار على الحاجز، يتبادل المخرجان اطراف الحديث مع جندي اسرائيلي يعتبر ان كل صهيوني هو بالضرورة جندي. لكنه في الوقت نفسه يحب روايات كافكا ويهوى قراءة كتب الفلسفة لمؤلفين يعدد بعضا منهم من مثل ابن ميمون وديكارت وليفيناس وبوبر. وحين يسأله ايان سيفان هل يعرف "تفاهة الشر" في اشارة الى كتاب حنة ارندت "هايشمن في جيروزالم - تفاهة الشر" الذي لم يترجم حتى اليوم الى العبرية يجيبه الجندي مستفسرا هل "تفاهة الشر" مصطلح ام عنوان كتاب؟ فيقول له سيفان: " تفاهة الشر هي ان يرتكب اناس عاديون، يقرأون الفلسفة افعالا بسيطة تتراكم مع الايام لتصنع امراً كارثياً".

في الطريق الى بيت لحم يلتقي  فريق التصوير بطوابير من المدعوين الى عرس يجتازون بهندامهم الكامل طرقا ترابية وعرة تجنبا للحاجز الاسرائيلي من اجل الوصول الى مكان الحفل. نرى كيف تنقل الاطعمة والمشروبات وحتى الورود سيرا على الاقدام من مكان الى آخر.  

أم الصبيّ في الشمال

ومن مكان الى آخر داخل فلسطين ينتقل ايان سيفان وميشال خليفي لتتبع مسار خط التقسيم في الشمال بالقرب من قلقيلية ومن مشاهد بقايا القرى العربية المدمرة في .1948 تصوّر الكاميرا  المراحل النهائية لبناء الحائط الفاصل في تلك المنطقة. ويتوقف فريق التصوير امام احدى ورشات بناء الحائط لنكتشف ان معظم العمال هم من الفلسطينيين الباحثين عن لقمة العيش. وفي هذه المرة يكون المقاول المسؤول عن الورشة من مناصري اليسار الصهيوني، لكنه كمعظم من سبقه وامام خريطة التقسيم يكرر على المخرجين الفكرة التي طالما سمعناها على مدار الفيلم: "لو ان العرب قبلوا بقرار التقسيم لكان هناك الدولة دولة فلسطينية". فيسأله ايال سيفان: اتعرف ما هو حكم الملك سليمان في التوراة ومن هي السيدة التي رفضت ان تقسم الطفل قسمين، وفضلت التخلي عنه للسيدة التي تنازعتها امومته"، فيجيبه المقاول بقليل من التردد: "نعم، الام الحقيقية هي التي رفضت قسمة الطفل وفضلت التخلي عنه للام الكاذية لكي لا يموت". وبعد فترة من الصمت يكمل حديثه: "اه لقد نلت مني هنا... ولكن لحظة! الموضوع مختلف في حالتنا هذه. لأن الذي رفض التقسيم لم ينل شيئا، والذي وافق عليه نال في النهاية كل شيء". من بعيد نسمع احد العمال الفلسطينيين يردد: "لكن الطفل لا يزال حيا". فيجيبه المقاول: "ولكن الارض ليست شيئا حيا".

تكمل الكاميرا رحلتها بجانب الحائط من الجهة الاسرائيلية، وتلتقي عند احد الحواجز بتظاهرة لناشطي السلام الاسرائيليين تحتج على بناء الحائط وعلى الحصار المفروض على مدن الضفة.

نرى المتظاهرين يطرقون علب الحليب في ايديهم ويرددون: "لا رصاص ولا دموع، انزع عنك البذلة العسكرية". وتصل الكاميرا في رحلتها الى احد بساتين الزيتون المعمرة في الجانب الاسرائيلي من الحدود، ومن بين أشجار الزيتون يظهر عجوز فلسطيني باللباس التقليدي ويعرّف عن نفسه بأنه صاحب الارض، وبعد تبادل الحديث عن واقع الاحتلال والانتفاضة، نكتشف انه كان له من العمر 22 عاما عند تقسيم فلسطين وانه خدم في الجيش الاردني. ثم تبدو على ملامحه علامات "الطفل الشيطان" فيروي كيف استطاع ان يخدع منطق الدول وقرار التقسيم ويحتفظ بأرضه كاملة. ففي احد الايام من العام 1948 وبعد صدور قرار التقسيم جاء ضابط من الجيش الاردني مزودا خرائط ووضع علامات الحدود من خلال حجارة سكب عليها الكلس الابيض فاكتشف المزارع الفلسطيني ان البيت بقي في الجانب الاسرائيلي وبستان الزيتون في الجانب الاردني. حاول المزارع عبثا وبكل الوسائل اقناع الضابط بضم البيت الى البستان والحاقهما بهذا الجانب او ذاك، لكنه رفض بشدة لأنه مضطر الى التقيد بالخرائط التي بين يديه. وفي المساء تسلل الرجل الى بستانه واطاح الحجارة البيضاء واعاد بناءها معدلا الحدود بشكل يضمن له بقاء البيت وبستان الزيتون معا. وفي اليوم التالي قدم ضابطا ارتباط اسرائيلي وأردني على حصانيهما وسألاه إن كان يعرف اين هي الحجارة البيضاء التي وضعها الضابط الاردني، وبعد تردد وخوف من ان ينكشف امره دلهما على المكان الجديد وانطلت عليهما الحيلة واحتفظ المزارع بأرضه وإن كان، كما يقول، قد كبّر ارض الدولة الاسرائيلية الوليدة بضعة هكتارات.

تنتقل الكاميرا في رحلتها الى شمال فلسطين وتزور الكيبوتزات المنتشرة في كل مكان، فنرى كيف يتعلم الاطفال تاريخ هذه الكيبوتزات مع كل اساطيرها المؤسسة من حول الرواد الاوائل الذين انشأوا المزارع الجماعية من لا شيء وبنوا اقتصادا مكتفيا ذاتيا وعملوا صبحا ومساء في الحقول. وكيف يعيش فلاحو الجليل الفلسطيني في قرى مستحدثة انشأوها بالقرب من قراهم المهدمة في العام 1948 والتي لا يزال ممنوعا عليهم العودة اليها.

في احد الكيبوتزات تلتقي الكاميرا بأحد الاسرائيليين الاوائل الذين سكنوا الجليل وشاركوا في معارك 1948 في تلك المنطقة. يروي العجوز الجالس على كرسيه كيف كان من المتعذر عليهم اثناء تحضيرهم للمعركة مع الجيوش الاردنية والسورية وجيش الانقاد، ان يتركوا في صفوفهم الخلفية طابورا خامسا من الاعداء وكيف كان من الضروري طرد الفلسطينيين وراء خطوط القتال وخلق استمرارية في الاراضي التي يسيطر عليها اليهود. ويخبرنا كيف كانت فرقته المؤلفة من 1500 مقاتل تشكل سلسلة بشرية تقترب من القرى الفلسطينية وتبدأ باطلاق النار في الهواء لاخافة السكان ودفعهم للهرب. ف"الخوف البسيكولوجي افظع خوف، خوفهم من ان نقتلهم كان يدفعهم الى الهرب". وعندها يسأله المخرج ألم تقتلوا في حينها؟ يجيبه العجوز: "قتلنا الكثيرين، كانت حربا وكنا منظمين وكانت هناك اوامر". ويتذكر العجوز ان اولى المعارك التي دخلها كان اسمها "معركة المكنسة". ولماذا اسمها مكنسة؟ يسأله المخرج، فيجيب: "المكنسة لتنظيف الارض وفي حالتنا لتنظيف المنطقة من العرب".

وسئل هل شعر يوماً بالشفقة حيال اللاجئين؟ اجابه المحارب القديم بالنفي طالباً تغيير الموضوع، قبل أن يعود ويقول بتردد: "نحن نظل بشراً، وكنا نشعر بالشفقة، ولكن ماذا بعد! نحن صنعنا ما صنعنا لنحيا ونبقى على هذه الارض". يسأله المخرج: "حسناً، ولكن النساء والاطفال الذين هجّرتموهم؟". يعود الرجل العجوز فجأة عن يقظة ضميره العابرة ويقول مبتسماً: "لم نكن نريد أن نفصل الاطفال عن أهلهم. هذه هي الشفقة".

في احدى البلدات الصغيرة الضائعة بين مساحات شاسعة من الهضاب الخضراء، يلتقي المخرجان صدفة بسيدة في العقد الخامس من العمر ولدت في المغرب وهاجرت الى اسرائيل في العام .1961 يتم التعارف وتدعو السيدة المخرجين الى منزلها وامام الكاميرا تروي لهما ذكرياتها في المغرب وكيف كانت عضواً في حركة شبابية تنشط بين اليهود المغاربة لإقناعهم بالهجرة الى اسرائيل حيث العمل والمال والحلم الجديد. تقول: "كان هناك مشرفون يأتون خفية من اوروبا حاملين اسماء مزدوجة ويقومون بتأطيرنا. هم كانوا الرؤساء يعطون الاوامر، ونحن كنا نقوم بالعمل الميداني القذر في البحث عن الناس ودفعهم الى الهجرة. كان هذا العمل غير قانوني لأن المغرب كان يريد إبقاء اليهود، فكان الناس يضطرون للسفر خفية في الليل ومن دون اي اوراق شخصية. والدي ترك وراءه المنزل والسيارة وحتى مفتاح المحل ولم يأخذ معه الا حقيبتين. والغريب ان والدي كان سعيداً جداً في المغرب وكانت حالته المادية جيدة، لكن أنا الذي أقنعته بالهجرة وأرسلته قبلي الى اسرائيل. وأتى الى هنا ولم يجد عملاً. لم يكن اليهود المغاربة معتادين على العمل كمزارعين، وعندما أتوا تم رميهم في مناطق نائية من الريف. الذي افتقده اليهود المغاربة هنا شديد القسوة والمرارة. كنت شابة وكنت أصدّق الكلام الخلاب الذي كانوا يلقنوننا اياه وكنا نردده من بعدهم. اليوم، وبعد الذي رأيته وعشته، لم أعد أصدّق شيئاً. وعودهم كلها ذهبت مع الريح".

فجأة، تدمع السيدة المغربية وتطلب من المخرج أن يشيح بالكاميرا عن وجهها ويصوّر الشجرة الشاهقة بجانبها. ثم تضيف: "قد أكون قلت اشياء كثيرة، لكن هناك اموراً من المستحيل عليّ البوح بها".

بين "معركة المكنسة" التي كنست الفلسينيين من الجليل و"عملية المكنسة" التي كنست اليهود المغاربة من بلدهم، يتابع المخرجان رحلتهما في الذاكرة  المكان، وعلى إحدى الطرق في محاذاة الحدود اللبنانية، يلتقيان برجل ستيني فيتحاوران معه وهما داخل السيارة. نكتشف أنه هو الآخر ولد في المغرب وهاجر الى اسرائيل قبل اربعين عاماً. ويسرّ اليهما بشوقه الشديد للمغرب وعجزه عن زيارته لكونه من دون اولاد وبلا امكانات مادية. وفي مواجهة الكاميرا وبعد تردد يقول بالعربية: "مشتاق لبلدي". وفجأة يأتي شاب اسرائيلي من معارفه ويسأله عما يتحدث، فيجيبه: "أتكلم عن بلدي"، فيرد الشاب عليه: "دعك من هذا. بلدك هو هنا. اسرائيل. أنت هنا منذ خمسين سنة. المغرب جيد لرحلة سياحة. أنت هنا يهودي جديد". ويسأله العجوز: "ألا ترغب أنت بترك هذا البلد؟". يجيبه الشاب: "هذا بلدي، أتركه لماذا؟ أنا ولدت هنا، وليس لي بلد آخر"، فما كان من العجوز الا ان أجابه مازحاً: "دعك من هذا. عد الى تونس، فكما أني أتيت من المغرب، أمك أتت من تونس".

ينتقل المخرجان برفقة العجوز الى حديقة احد المنازل حيث مجموعة من ذوي الاصول المغربية.  نعرف ان سيدة في الجلسة متزوجة من يهودي مغربي وهاجرت من تونس الى اسرائيل في العام .1954 روت في مواجهة الكاميرا كيف فقدت ابنها الثامن الأصغر في حرب لبنان: "لم أعد أحتمل اسرائيل وشارون. أنا أم فقدت ابنها. لا يمكن أن نلعب بهذه المشاعر. كان بالنسبة لي كل شيء; الصديق والأخ والابن. مات قبل خمسة اشهر من نهاية خدمته العسكرية". وتضيف الأم الثكلى: "اسرائيل بلد غني ولا ينقصنا الا شيء واحد: متعة الحياة. لسنا سعداء هنا، ففي كل يوم تنقل الاخبار موت أحدهم في غزة او في لبنان. كلنا اولاد آدم ويجب أن نصنع السلام". وحين يسألها المخرج اذا كانت تعتقد فعلاً بامكان ان يعيش العرب واليهود بسلام، تجيبه السيدة التونسية: "بالتأكيد، يجب أن نعيش كما كنا نعيش في تونس. هناك كان العرب جيراننا وكنا نعيش ببساطة وسعادة  ونحتسي الشاي معاً. وليس كما هي عليه الحال هنا. هذه ليست حياة، أن تفتقد كل شيء في وقت تملك كل شيء. اين هي متعة الحياة؟ لو كان في امكاني أن أعيد الكرّة لكنت هاجرت الى كندا او بقيت في تونس. كان خطأ أن نصدّق ما تقوله لنا الوكالة اليهودية".

تغادر الكاميرا منزل السيدة التونسية وتواصل رحلتها على الطريق 181 وتقترب رويداً رويداً من علم لبناني يلوح في الأفق. وتتوقف السيارة امام لوحة موضوعة في منتصف الطريق كتب عليها "توقف. منطقة حدود امامك".  

ماذا بعد

قد يقول القارئ ان هذا الفيلم لا يأتي بجديد للذاكرة الفلسطينية التي خبرت العنصرية الصهيونية ومنطق القوة الاسرائيلي. لكن مشاهدة هذا الفيلم كفيلة أن تبيّن كيف ان لا شيء أكثر قدرة على كشف خواء ماضي الرواية الصهيونية وحاضرها، من مجابهتها بالرواية الفلسطينية. فأخلاقية المشروع الصهيوني المزعومة تتفكك من الداخل وتنقلب عليه، لدى دخوله في أي حوار جدي مع اخلاقية القضية الفلسطينية. لكن من اجل ذلك، تظهر اليوم الحاجة الماسة لأن يكون للذاكرة الفلسطينية صوت واضح وصريح قادر على إيصال رسالته ليس فقط الى الرأي العام العالمي، ولكن ايضاً الى الرأي العام الاسرائيلي.

ولنغامر بالقول ان لا شيء يقوّي الفكرة الصهيونية ويخدمها، اكثر من خطاب الكراهية الذي يرفض أن يرى ويعترف بأي صوت "منشق" داخل المجتمع الاسرائيلي. وبالتأكيد، فإن إيال سيفان وأمثاله هم اقلية الاقلية داخل اسرائيل. ولكن حتى لو لم يكن لهم اي وجود فاعل، فإن من مصلحة المشروع الفلسطيني ان يبحث عنهم ويساعدهم في الوجود. إنهم، في شكل ما، البعد الآخر، الانساني والاخلاقي، للقضية الفلسطينية. وهم الأمل في أن نكون قادرين في المستقبل البعيد على تجاوز المشروع الصهيوني وجوهره الدولة القومية لليهود. لكن الاقتراب من هذا الأمل المستقبلي يفترض متطلبات اخرى لا تزال بعيدة المنال، بينها بالتأكيد نتجاوز عقدة النقص والخوف من الآخر. واول النقص والخوف هو شيطنته بالمطلق.

ملحق النهار الثقافي في  ....

كتبوا في السينما

 

 

مقالات مختارة

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: لقاء صحفي

فيلليني الميت وبرلوسكوني الحي
صوفيا لورين

 

 

الطريق 181

لميشيل خليفي وإيال سيفان

ذاكرة سينمائية للمستقبل

بقلم: محمد علي الأتاسي

 

مقالات ذات صلة:

"طريق 181": تعاون سينمائي فلسطيني/ إسرائيلي مشترك

_______________