شعار الموقع (Our Logo)

 

 

عرف تاريخ الإبداع الفني والأدبي منذ القدم إشكالية العلاقة بين الشعر والواقع في مختلف أنواع الإبداع الفني والأدبي. غير أن القرن العشرين والذي شهد ولادة وتطور السينما، أعطى لهذه الإشكالية أبعادا جديدة وجعلت من مسألة التأمل في العلاقة بين الشعر والسينما، وبشكل أدق “شاعرية” الفيلم السينمائي، ذات أهمية خاصة. وهي إشكالية اكتسبت بفضل السينما قيمة خاصة لأن حلها، على المستوى النظري والعملي، يساعد على فهم طبيعة وحدود وإمكانيات الروح الشعرية عندما تتغلغل في نسيج الإنتاج الإبداعي الفني والأدبي. وما يساعد في الوصول إلى أجوبة تتعلق بمسائل السينما والشعر خاصة هو المقارنة بين نمطين من التجسيد الشعري الإبداعي، أولهما يتحقق ضمن نوع أدبي محدد هو الشعر الذي يقوم على اللغة باعتبارها كلاما له معان ودلالات وأبعاد رمزية تجريدية ويعتمد في إنشائه للصورة الشعرية على المخيلة، وثانيهما فن السينما الذي يتكون من تلاحق صور وأصوات تم عكسها من الواقع مباشرة بواسطة تقنيات خاصة فيزيائية ميكانيكية وكيمائية، بحيث أن الخيال أو المجاز في السينما، من حيث المبدأ “باستثناء السينما المعاصرة المنتجة وفق التقنيات الرقمية التي يمكن أن تقوم على تصوير واقع افتراضي”، يتأسس ويستند حتما على صور الواقع الحقيقي ولا يتحقق من دونهما ويستمد وجوده منها.

في النصف الأول من القرن التاسع عشر أشار الكاتب الروائي الفرنسي “أونورويه دي بلزاك” في قصة له بعنوان “الرسالة” إلى مسألة جمالية مهمة ترتبط بالعلاقة بين الأدب والواقع، فيقول في أحد مقاطع القصة: “كثير من الأشياء الواقعية مضجرة للغاية. ولذا فإن نصف القريحة هو ان يختار من الواقع ما يمكن أن يغدو شاعريا”.

هذه “الأشياء” الواقعية التي يمكن ان تكون شاعرية فرضت نفسها كحاجة ضرورية وملحة على السينما لكي تصبح فنا، بعدما بدأت كمجرد صور متحركة تم اختراعها في أواخر القرن التاسع عشر وتأسست أولا اعتمادا على العكس المباشر لصور الواقع. بعد ما يقارب ربع القرن من انتشار السينما ظهرت الإشارة النظرية الأولى حول احتمالية العلاقة بين السينما والشعر، وذلك عندما طرح السينمائي التسجيلي “دزيغا فيرتوف” تعريفا للفيلم التسجيلي يصفه فيه بأنه “شاعرية الواقعة” أو بكلمات أخرى، شاعرية الحقيقة. والمفارقة هنا تكمن في أن هذا التعريف لم يأت على لسان سينمائي يشتغل في مجال السينما الروائية، بل على لسان سينمائي منحاز كليا للسينما التسجيلية ورافض للسينما الروائية باعتبارها لا تعكس الواقع بصدق.

لم تنتظر السينما الروائية طويلا لكي تجسد العلاقة بين السينما والشعر في تجارب فيلمية مهمة، ما جعل هذه القضية مطروحة على المستوى النظري سواء من قبل الباحثين السينمائيين أو من قبل المخرجين أنفسهم.

ونجد العديد من الأمثلة المبكرة على اهتمام المخرجين السينمائيين بأهمية العلاقة ما بين السينما والشعر عبر تصريحات أدلوا بها أو مقالات متناثرة  كتبوها، ومنها ما ذكره في مقال له قبل نحو نصف قرن المخرج والممثل السينمائي الأمريكي الشهير “أورسن ويلز” عندما أكد أنه “لا يكون الفيلم جيدا حقا إلا عندما تكون الكاميرا عينا في رأس شاعر” وأضاف “لو لم تكن السينما قد صاغها الشعر لكانت قد بقيت مجرد أعجوبة ميكانيكية”.

من بين المنظرين والمخرجين السينمائيين الذين أولوا مسألة العلاقة بين السينما والشعر عناية خاصة عبر أفلامهم واجتهاداتهم النظرية سواء بسواء، يبرز المخرج الروسي الراحل “اندري تاركوفسكي” الذي حاول تقديم سينما ذات روح شعرية خاصة في أفلامه الثلاثة الأخيرة “المرآة”، “الحنين” و”القربان”، والذي سعى، بالتوازي مع إخراج الأفلام، للتوصل إلى نظرية جديدة متكاملة حول السينما وطبيعتها صاغها عبر مجموعة مقالات صدرت بالعربية ضمن كتاب بعنوان “السينما والحياة” ترجمه المخرج باسل الخطيب ونشر ضمن سلسلة “ الفن السابع”.

يشتمل الكتاب على مقالة مهمة تحت عنوان “الزمن المسجل” تلخص الأفكار والعناصر الرئيسية لفهم “تاركوفسكي” لطبيعة الفن السينمائي وهي المقالة التي اعتبرت في حينه بمثابة بيان سينمائي. وتتضمن المقالة الكثير من الأفكار المثيرة التي تتقصى العلاقة بين  السينما والشعر. يؤكد “أندري تاركوفسكي” في هذه المقالة ان السينما قبل كل شيء زمن مسجل، وأن الشكل الذي تسجل فيه السينما الزمن شكل واقعي، وهو انطلاقا من هذا التعريف يعتبر ان عمل المخرج المؤلف في السينما هو نحت في الزمن، ويستنتج من ذلك ان السينما “هي الزمن في شكل واقعة”. ويؤكد “تاركوفسكي” أن فكرة السينما ومعناها يتلخصان في التعبير عن المواجهة القائمة بين الإنسان وبيئته الأبدية، وانه إذا كان الزمن في السينما يقدم بشكل “واقعة”، فإن الواقعة تقدم بشكل الرصد المباشر والمتواصل لها.

من هذا التعريف العام للسينما ينطلق “اندري تاركوفسكي” لتطبيق أفكاره حول مسألة السينما والشعر، ليصل إلى استنتاج مفاده ان: “الشعر أقرب الفنون إلى طبيعة السينما”. توصل “تاركوفسكي” إلى فكرته هذه  بعد التعمق في دراسة نماذج من الشعر التقليدي الياباني المسمى “هايكو” الذي تتكون كل قصيدة منه فقط من بضعة أبيات من الشعر. ويورد تاركوفسكي الأنموذج التالي من شعر “الهايكو”:

الدير القديم

صمت في الحقل

القمر البارد

طارت الفراشة

الذئب يعوي

حطت الفراشة

ويرى “تاركوفسكي” في هذا التركيب الشعري دليلا على كيف يمكن لعناصر متفرقة ان تقدم بتمازجها انتقالا إلى نوعية جديدة. وهذا بالطبع، ما يميز السينما من خلال وسيلة المونتاج. ويعترف تاركوفسكي ان هذا النوع من الشعر أثار اهتمامه بنقائه ورقته ورصده للحياة، وان دقة هذا الرصد وحذاقته تدفع حتى ذوي التلقي المتحفظ إلى الإحساس بقوة الشعر وإلى إدراك الصور الحياتية التي التقطها الشاعر المؤلف. وهذا ما ينطبق على السينما إذ يؤكد “تاركوفسكي” ان شاعرية الفيلم تولد من الرصد المباشر للحياة. لكن هذا التأكيد يثير بدوره سؤالا دقيقا حول علاقة السينما، باعتبارها تقوم على الرصد المباشر للحياة، بالمجاز عامة. وفي هذا الصدد ينطلق تاركوفسكي من اعتبار أن “من أهم الشرطيات في السينما انه يمكن للصورة السينمائية ان تتجسد فقط في الأشكال الواقعية والطبيعية للحياة المرئية والمسموعة”. ويوضح “تاركوفسكي” لاحقا فكرته هذه حول خصوصية صور السينما كانعكاس للواقع في علاقتها مع الشعر وذلك من خلال الكيفية التي تصور فيها الأحلام في السينما. وهو يعتبر ان ما يدعى “غموض وغرابة” الحلم لا يعني بالنسبة للسينما غياب الصورة الدقيقة. ومن هنا، أي من الصورة الدقيقة، يتكون الانطباع المميز الناتج عن منطق الحلم الخاص، حيث ينتج هذا الانطباع نتيجة الغرابة والمفاجأة الموجودتين في تآلف وتعارض العناصر الواقعية التي يجب رؤيتها وعرضها بشكل دقيق للغاية. والسينما، حسب “تاركوفسكي” ملتزمة بإظهار الواقع وليس بطمسه.

الخليج الإماراتية في  19 أبريل 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

شاعرية الفيلم تولد من الرصد المباشر للحياة عن السينما والشعر

عدنان مدانات