الانتشار الجماهيري للسينما وضعها في بؤرة الاهتمام؛ لكونها إحدى وسائل التعبير الأيديولوجي (الفكري) الذي يمكن أن يُطرح من خلال الصورة الفيلمية بمنتهى القوة والفاعلية، فقد اقتحمت حياة البشر كفَنٍّ بشكل لم يسبق له مثيل. فمنذ ظهور أول الأفلام في نهاية القرن الـ19 وحتى الآن، ظلت تمثل "مصنع الأحلام" لدى المتلقين لها، فقد أصبحت مكونًا أساسيًّا في حياة البشر، ومن هذا المنطلق كان الاهتمام بها؛ فهي تتخطى كونها أداة تسلية فقط، إلى كونها أداة توجيه وبث فكري للآراء والمعتقدات. فالصورة السينمائية هي تعبير واضح، كما أنها سهلة الإدراك من حيث سرعة الاستيعاب الإنساني لها، وذلك في مقابل الكلمة المكتوبة التي تعتمد على قدرة المتلقي على القراءة، بالإضافة إلى درجة تعلمه. إنها بديل بصري للواقع، وهي اقتطاع لجزء منه ووضعه أمام المتلقي؛ أي أنها تجعل العالم مرئيًّا ويمكن استحضاره، بل والإمساك بأدق تفاصيله!. ويوضح "جورج بالانديبه" [i][1] ذلك بقوله: "إن الصورة هي جد مألوفة الآن وجد قريبة؛ بحيث إنها لا تكون معروفة حقًّا!. إنها تفعل فعلها، وفي معظم الأحيان يدعها كل إنسان تعمل ويعاني من آثارها". السينما تتخطى كونها أداة تسلية فقط، إلى كونها أداة توجيه وبث فكري للآراء والمعتقدات فتغير السلوك الاجتماعي والمفاهيم الفكرية أيضًا. فالصورة اليوم تحاصر الإنسان بشكل لم يسبق له مثيل؛ فهو محاط بعالم من الصور (إعلانات ـ أغانٍ مصورة ـ سينما ـ تلفزيون)، وهو -في الوقت ذاته- قد لا يعي تأثيرها الفاعل في حياته من حيث تعديل السلوك، والقيم، وأيضًا الموروثات؛ فنحن في عصر يرتكن بشكل كلي وجزئي على "الصورة" في تلقي المعلومات والإدراك والمعرفة؛ فالسينما اليوم أصبحت أحد أهم "المراجع البصرية" التي يعتمد عليها الأفراد العاديون في شئون حياتهم كافة (التاريخ ـ الدين ـ الحياة ـ السياسة) [ii][2]. وقد أتى هذا التضخم لدور الصورة السينمائية/ التلفزيونية نتيجة لالتهاميتها الشديدة لكل شيء في حياة البشر، بل وقدرتها على عرضه، وأيضًا مصداقيتها كوجود بصري متحقق أمام الأعين على الشاشة، يقدم نفسه كمرجعية وحيدة صادقة، ولا مجال للإفلات منه. السينما والصراع الأيديولوجي لقد كانت فاعلية السينما وانتشارها وسط التجمعات الإنسانية -فضلا عن الإقبال الجماهيري عليها- سببًا في محاولة كل من المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في توجيه هذا الفن الوافد في (بداية القرن العشرين)، ومن هذا المنطلق كانت مقولة "لينين" عن السينما: "السينما أهم الفنون بالنسبة لنا" [iii][3]، فقد كانت السينما آنذاك هي أسرع وسيلة لنقل ونشر أخبار وأحداث الثورة البولشيفية 1917م؛ لأنها تعتمد على الصورة، وهو ما يجعلها تصل إلى أكبر قدر من المواطنين السوفيت الذين يجهلون القراءة، بالإضافة إلى أن مشاهدة الفيلم ستصل لأكبر عدد من المتلقين، فضلاً عن أنه يمكن عمل أكثر من نسخة من الفيلم لكي تعرض في أماكن متباعدة ونائية في التوقيت نفسه. ويؤكد "تروتسكي" ذلك[iv][4] معتبرًا أن "هذه الوسيلة التي بين أيدينا هي أفضل وسيلة للدعاية، سواء كانت هذه الدعاية تقنية، أم ثقافية، أو مناهضة للإدمان على الكحول، أو صحية، أو سياسية. إنها تيسر القيام بدعاية هي في متناول فهم الجميع وجاذبة لاهتمام الجميع، ودعاية تستحوذ على المخيلة"، فقد طُرحت أفكار الثورة في العديد من الأفلام وقتذاك، التي تدعم وتبرز أهدافها. الإعلام الجماهيري وفر للدولة فرصة تعزيز قوالب ذهنية عن الجنس والنوع ليس التعليم على استعداد لتقديمها؛ فالسينما تقدم صورة ذات وعي، وهذا المعنى يكون إما ظاهرًا أو مستترًا. بل إن تروتسكي اعتبر أن السينما يمكن أن تنافس الكنيسة في السيطرة على جموع الشعب قائلاً [5]: "إن السينما تنافس الخمارة، بل وتنافس الكنيسة أيضًا، وقد تكون هذه المنافسة قاضية إذا ما أكملنا فصل الكنيسة عن الدولة بقران هذه الدولة الاشتراكية والسينما". إن الرغبة في الإمساك بتلابيب السينما وجعلها مقترنة بالدولة الاشتراكية -آنذاك- إنما تعود إلى أهمية السينما وفاعليتها في التأثير على المتلقين لها من حيث تغير السلوك الاجتماعي والمفاهيم الفكرية أيضًا. وفي المعسكر الرأسمالي لم يختلف الأمر كثيرًا، إلا أن الاعتراف بسيطرة الدولة أو حتى بتوجيهها للفنون، كان منفيًّا رغم وجوده على أرض الواقع، وهذا ما يرصده "بيتر جران" قائلاً عن الإدارة الأمريكية [v][6]: "إن النفوذ الحكومي في المجالات الثقافية ربما كان أكثر تغلغلا مما يعترف به عادة، بل حتى الموضوع لم يدرس جيدًا". فدائمًا يكون الترويج في المجتمعات الرأسمالية لفكرة السوق والحرية في الاختيار، على الرغم من أن تلك (الاحتياجات والصناعات) الموجودة في الأسواق قد تم الترويج لها عبر حملات إعلانية (مصورة) من أجل إيجاد مبررات لضرورة وجودها وشرائها!. بل إن السلوك الاجتماعي قد تم إعادة تشكيله عبر الصورة السينمائية وذلك ما يقره "بيترجران" في كتابه السابق: "هناك شكل أخير ومهم للتدخل الحكومي في تنظيم الثقافة جاء من خلال تنظيم الإعلام الجماهيري (الميديا).. وبشكل أكثر عمومية نقول: إن الإعلام الجماهيري وفر للدولة فرصة تعزيز قوالب ذهنية عن الجنس والنوع ليس التعليم على استعداد لتقديمها".. فالسينما تقدم صورة ذات وعي، وهذا المعنى يكون إما ظاهرًا أو مستترًا. وتحت مقولة أفلام التسلية أو الترويح عن النفس ادعى المعسكر الرأسمالي أن السينما لديه خالية من القيمة الفكرية أو التوجيه الأيديولوجي كما في المعسكر الاشتراكي، وهذا ما ينفيه "هربرت شيللر" الذي يرفض مثل هذه الفكرة القائلة: إن هناك أعمالاً فنية تخلو من وجهة نظر؛ كونها عملاً فنيًّا ترفيهيًّا مطلقًا، وذلك لأن هذه الأعمال الفنية هي مشكِّلة لوعي المتلقين، ويوضح ذلك قائلاً [7]: "يستعين جهاز تشكيل الوعي الشديد التنوع والذي يستخدم كافة الأشكال المألوفة للثقافة الشعبية (الكتب الهزلية، الرسوم المتحركة، الأفلام السينمائية، برامج المذياع والتلفاز، الأحداث الرياضية، الصحف والمجلات) يستفيد لأقصى حد من هذا المفهوم الخاطئ". فتحت عنوان "لا أفكار"، تمر الآراء والمفاهيم بشكل لا شعوري إلى جموع المشاهدين، والسينما كأحد عناصر الثقافة الشعبية ذات النطاق الواسع في التأثير تلعب دورها في ذلك؛ ففيلم "يوم الاستقلال" (إخراج رونالد أيمريش) يطرح فكرة غزو كائنات فضائية للأرض وكيفية القضاء عليها، إلا أنه يبعث بعدة رسائل أهمها: إن الولايات المتحدة هي القوة الوحيدة المؤهلة للقضاء على أي غزو للأرض؛ فهي المسيطرة على العالم، إعادة تقديم شخصية الزنجي في إطار المساواة مع الأبيض بعد أحداث شغب لوس أنجلوس عام 1992، الدعاية لـ "بيل كلينتون" إبان إعادة الانتخاب الثانية له؛ فقد أظهرت شخصية رئيس الولايات المتحدة بالفيلم في صورة شبيهة له من حيث السن والابنة الواحدة، وأنه رجل الأقليات، وقدمت شخصية اليهودي الأمريكي "النابغ" في تلك الحضارة. إن كل الأفلام -كوميدية، مأسوية، خيال علمي، مطاردات عنف، رعب- تحمل "وجهة نظر ما"، تحمل فكرًا محددًا، وليست خالية كما قد يدعي البعض، ويؤكد تلك المقولة المخرج الأمريكي "كوبولا" فيقول: "إن أكثر الأفلام سياسة في العالم يمكن أن نجدها لا تحتوي على أي موضوع سياسي"[vi][8]. السينما بين الحلال والحرام مقابل هذه المكانة والأهمية التي تتبوأها السينما نجد أن كثيرًا -أو بعضًا على الأقل- من المفتين يصمون السينما بكونها حرامًا شرعًا، وبشكل مطلق دون تكلف الخوض في تفصيلاتها[vii][9]، ويأتي الإطلاق في إطار رؤية محصورة في حدود "السلوك الفردي": من العمل فيها، والذهاب إليها، والجو المحيط بالحضور، ونحو ذلك. وما يؤخذ على أصحاب هذه الرؤية / الحكم أن وعيها بالسينما سطحي لا يكاد يفرق مثلاً بين الأفلام التسجيلية أو الروائية أو حتى التعليمية، فضلاً عن أن انحصار زاوية نظر ذلك المفتي الذي يبني حكمه بالتحريم المطلق بناء على هاجس "الفتن" (اختلاط، عورات...) لا يسمح له بإدراك المعاني السابقة في تأثير السينما، فضلاً عن إمكانية التفكير بكيفية "الإفادة" منها كأداة لمقارعة "الباطل" على الأقل من وجهة نظره. بل إن ذلك التعميم التبسيطي المخل من شأنه أن يورط ذلك المفتي بتحريم الأفلام التسجيلية مثلاً كالتي تقدم صورة عن أحوال وعيشة المسلمين في أيٍّ من بلدان العالم، وكذلك الأفلام التعليمية. بل يمكن التساؤل بإلحاح إزاء مثل تلك الفتاوى (لبعضهم): كيف يكون الحال إزاء أفلام المقاومة في الشيشان (كسلسلة أفلام جحيم الروس) أو في فلسطين أو في العراق؟ ومع ذلك فإن بعضًا آخر من المفتين[viii][10] اعتبر السينما مجرد وعاء لا أكثر؛ أي أنها لا تتخطى كونها مجرد وسيلة يمكن تحميلها بالجيد أو الرديء، وهم يستندون في ذلك إلى القاعدة الفقهية: "الأصل في الأشياء الإباحة" حيث تحدد هذه القاعدة نقطة الأساس التي ينطلق منها مبدأ الحلال كمنطلق أساسي أولي. إن السينما تحمل صورًا قد تكون جيدة أو رديئة، وفقًا للضوابط الشرعية، وعليه يمكن اعتبارها مجرد وسيلة حاملة، فهي قد تُستخدم كوسيلة دعوية لا مناص من استخدامها [ix][11]، فالإنسان عامة -والمسلم خاصة- محاط بزخم وفيض كثيف من الصورة، سواء أكانت فوتوغرافية، أم تلفزيونية، أو سينمائية، وهذا النبض الكثيف لا مجال للهروب منه؛ لأن الصورة لديها القدرة على تشكيل الوعي، أو إعادة تشكيله، وليس هذا فقط، بل إن التاريخ يعاد تقديمه بشكل مرئي. وإذا نظرنا إلى فيلم "عمر المختار" أسد الصحراء للمخرج السوري مصطفى العقاد فسنجد أن شخصية عمر المختار قد خرجت من كونها أحد شخصيات كتب التاريخ التي ندرسها / نقرؤها، إلى كونها شخصية مجسدة فاعلة، وبعد عرض الفيلم في أوائل الثمانينيات، أصبح عمر المختار حديث العالم العربي، وأصبحت تلك الحقبة التاريخية محط الأنظار ومركز الاهتمام، وما يزال الفيلم حتى يومنا هذا يحظى بأكبر قدر من المشاهدة لدى عرضه على الشاشات التلفزيونية. لنتأمل في دوافع مصطفى العقاد في اختيار شخصية عمر المختار كمحور لفيلمه إذ يقول[x][12]: "اخترت (عمر المختار)؛ لأنه موضوع معاصر، موضوع يهم العالم العربي الآن. (عمر المختار) هو عن الجهاد والاستشهاد، فهذا الرجل -عمر- كان في السبعين من عمره، وكان ما يزال يكافح مع إدراكه في كثير من الأحيان أنه لن يتمكن من التغلب على القوة الفاشية.. أعتقد أن في الفيلم ما يفيد التذكير بأوضاعنا الحالية التي هي أحط فترات تاريخنا الحديث، ولهذا اخترت (عمر المختار)". كان هذا الحديث عام 1981، وأعتقد أننا كنا أفضل حالاً مما نحن فيه الآن! إن فيلم عمر المختار -بغض النظر عن الملاحظات الخاصة به- يمثل إحدى وجهات النظر التي يجب أن نتعامل معها حيال السينما، فالفيلم يبدأ بعمر المختار المعلم الذي يعلم الأطفال ويعلمهم أول ما يعلم القرآن، وكانت أهم اعتراضاته على الشروط الإيطالية في جزء آخر من الفيلم أن الإيطاليين كانوا يرغبون في السيطرة (الإشراف) على المدارس الدينية (الزوايا) فقال: أنتم تريدون أن تعلمونا ديننا؟!". واليوم في الألفية الجديدة بعد مرور أكثر من عشرين عامًا على الفيلم، نجد أن المقولات نفسها تعود لتطلقها الإدارة الأمريكية في تعاملها مع العالم الإسلامي والعالم العربي! إن التساؤل عن ماهية التاريخ يفجر الكثير من القضايا، منها ما يتعلق بضرورته، ومنها ما يتعلق بكيفية كتابته، ولكن ما يعنينا هنا -في مجال السينما كفن بصري- هو التاريخ المصور؛ فالتاريخ قد خرج من سيطرة الكلمات (الكتابة/ التدوين) إلى دائرة التحقق البصري، إلى كونه متعينًا، متحققًا كصورة أمام أعيننا. وهذا التحقق يدفع للتساؤل، للبحث عن أجوبة؛ فحيال عرض فيلم عمر المختار في إحدى دور العرض بالقاهرة 1981، كان المتلقون في حالة من الغضب والانفعال؛ بل إنهم كانوا يصرخون حيال قتل الإيطاليين للمجاهدين الليبيين، كانت حالة توحد بين المتفرجين وشاشة العرض، فهذا الفيلم من النوعية التحريضية التي عندما تراها لا يمكن أن تعود كما كنت من قبل، فهي تحرك المشاعر والفكر والتساؤل. إن الوعي بدور السينما وفِعالها فينا وفي الآخرين من شأنه أن يُوْدي بذلك التبسيط المخل الذي يقف من السينما - كلها - موقف التحريم. إن الوعي بدور السينما وفِعالها فينا وفي الآخرين من شأنه أن يُودي بذلك التبسيط المخل الذي يقف من السينما كلها موقف التحريم، بل إن التفكير بمنطق "درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة" يمكن أن يجرَّ إلى أن استخدام السينما والإمساك بزمامها سيكون له القدرة على درء مفاسد كثيرة! فلنأخذ مثلاً كيف أن سيل الصورة التلفزيونية التي تصور عمليات المقاومة العراقية أو نتائج تلك العمليات، والتي يتم بثها يوميا عبر القنوات التلفزيونية والفضائية حطمت صورة الخنوع، والاستسلام لمفهوم الركون إلى عدم القدرة على مقاومة المحتل أيا كان، التي يتم الترويج لها عبر السينما التي يطلقها الإعلام الغربي، بالإضافة إلى ترسيخ روح الانهزامية أمام "قوة الصورة" المبالغ فيها عن الآلة الحربية الأمريكية ومنعة الجندي الأمريكي، لكن هل سيبقى الأمر مقصورًا على ما تسوقه لنا الأقدار، حين نكون في بؤرة الصراع دون إرادتنا؟! ولكن استخدام الصورة السينمائية / التلفزيونية إسلاميًّا لا يعني إطلاق يد صانعيها إطلاقا تامًّا، وإنما يجب أن يتم هذا وفق ضوابط ومعايير، أهمها عدم تجسيد الأنبياء والرسل ومن هم منهي عن ظهورهم بشكل تجسيدي [xi][13]، أما ما عدا هذه الشخصيات فيجب إظهاره، وهذا التحفظ نورده هنا؛ لأن بعض الكتاب والنقاد انبروا إلى المطالبة برفع أي محاذير دينية عن السينما، وذلك في تعرضهم للحديث عن فيلم "آلام المسيح" للمخرج ميل جييسون -وهو ما سنتعرض له لاحقًا- وهذه الآراء تتحرك وفق عدم فهم للعقيدة الإسلامية ومنطلقاتها الأساسية، وهذا نتاج تبني الرؤى والتصورات الغربية عند التعامل مع الدين. وإذا اكتفينا بدولة واحدة -وهي الولايات المتحدة- فسنجد أن الإعلام الديني التلفزيوني يشغل حيزًا ضخمًا لا يمكن إغفال دوره في تشكيل وعي الملتقين له على المستوى السياسي والاجتماعي، فالرابطة الوطنية للإنجيليين -وهي تضم الكنائس البروتستانتية الأصولية- تعتمد على ما يسمى بالكنائس المرئية. "وكشفت استطلاعات جالوب عن أن 70 مليون من الأمريكيين يشاهدون الشبكات التليفزيونية الإنجيلية (الكنائس المرئية) التي بلغ عددها 104 محطات تليفزيونية، بالإضافة إلى 1006 قنوات تليفزيونية بنظام الشفرة (الكابل)" [14]. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما عدد القنوات والمحطات التلفزيونية الإسلامية الموجودة بالعالم الإسلامي وليس في دولة واحدة؟ وما فاعليتها؟ وما دورها؟ إلا أن هذا سيقودنا نحو مزيد من الأسئلة وهي لماذا لم تقم منظمة المؤتمر الإسلامي بتفعيل دور الصورة (السينما / التلفزيون) على الرغم من الدورات العديدة التي عقدت؟ أعتقد أن الأمر الآن يدعو إلى التفكير في كيفية الخروج من قيد التفكير في حدود حكم "تلقي الصورة السينمائية" إلى حدود صناعتها دون أن يعني ذلك خروجًا على مسلَّمات الدين وحقائقه، ودون المبالغة في التخوف إزاءها على السلوكيات الفردية فجمهور المتلقين المسلمين يتحرك خارج حدود فتوى المفتي؛ ما يستلزم إعادة التفكير في أسباب ذلك، وكيفية إدارته بوعي بدل أن نظل مغيبين عنه. "آلام المسيح" بين السياسة والدين إن أي فيلم يحمل رؤى صانعيه السياسية والفكرية، سواء أعلنوا ذلك أم أخفوه، وتأكيدًا على ما سبق شرحه من أفكار حول دور السينما في الواقع والإعلام الديني في أمريكا، يمكن قراءة الفيلم الديني "آلام المسيح" ودوره في تشكيل الوعي الديني والسياسي للجمهور الغربي. والسؤال الذي يبدو مفتاحيًّا عند الحديث عن فيلم "آلام المسيح" هو ما هي أسباب إنتاج هذا الفيلم؟ إن أحداث 11 سبتمبر 2001 تظل لحظة فارقة تاريخيًّا وسياسيًّا على مستوى العالم أجمع، فعندما حدثت هجمة سبتمبر على برجي التجارة وأماكن أخرى، انفجر سيل هائل من الرسائل الإعلامية الأمريكية عمن صنع هذا؟ ولماذا يكرهوننا؟ وكانت الإجابة دائمًا تتعلق بالمسلمين، إلا أن الرسائل الإعلامية الموجهة كانت تهدف إلى وضع الإسلام والمسلمين في خانة الإرهاب، ولكن الذي لم يكن في حسبان صانعي هذه الرسائل أن الإنسان الغربي -سواء أكان في أوربا أم الولايات المتحدة- سوف يتساءل عن كنه وطبيعة هذا الدين ومن يدينون به. ومن هذا المنطلق سعى الكثير من أجل مزيد من المعرفة عن طريق قراءة الكتب التي تتعرض للإسلام، بل وقراءة ترجمة معاني القرآن الكريم. وعلى عكس المتوقع؛ فلقد أعلن الآلاف من الأمريكيين إسلامهم، وكان هذا أحد الألغاز التي لم يتم حلها حتى الآن، ولم يقتصر هذا عليهم فقط، بل امتد إلى الأوربيين. يجب التفكير في كيفية الخروج من قيد التفكير في حدود حكم "تلقي الصورة السينمائية" إلى حدود صناعتها دون أن يعني ذلك خروجًا على مسلّمات الدين وحقائقه. وعلى أثر ذلك كان لا بد من إيجاد وسيلة فاعلة ومؤثرة في تثبيت المشاعر الدينية لدى رعايا الكنائس الغربية (الكاثوليكية والبروتستانتية) وما كان يمكن أن يؤثر في الجماهير العريضة والممتدة سوى السينما. ففيلم "آلام المسيح" للمخرج ميل جيبسون هو محاولة في هذا المجال؛ حيث إنه يحدد أحداث فيلمه في الـ12 ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح، وهي تتعلق بواقعة المحاكمة لمن قام بدور المسيح، وأيضًا بواقعة صلْبِهِ (المزعومتين)، وهاتان الواقعتان تكشفان عن تمسك من قام بدور المسيح بمقولاته حتى النهاية، كما أنهما يقدمان عملية الإهانة والتعذيب بشكل بصري مجسد؛ وبالتالي سوف يكون أكثر تأثيرًا فيمن يشاهده من مجرد قراءة تلك الأحداث بالكتب والأناجيل، وهذا التجسيد يحدد الدور المنوط به في إحياء التمسك بالعقيدة المسيحية مهما تعرض أي من أبنائها للضغوط التي قد تخرجه منها، وإذا كان مما تعرض له من قام بدور المسيح (المسيح حسب المعتقد المسيحي) من تعذيب يفوق القدرة على الاحتمال، فكيف يتخلى المسيحي عن دينه بعد ذلك؟! وهذا يؤكد على فاعلية السينما كأداة للبث العقائدي والفكري في شتى مجالاته. وهذا الفيلم يأتي بعد أن صدرت العديد من الروايات الأدبية للعديد من الكتاب الغربيين، والتي تتناول حياة المسيح، بل والأناجيل أيضًا، ومنها "الإنجيل يرويه المسيح" للكاتب البرتغالي خوسيه ساراما جو، الذي يتعرض بالتشكيك في عذرية السيدة مريم و"إنجيل الابن" للكاتب الأمريكي نورمان ميلر الذي يكتب هذه الرواية بضمير "الأنا"، إذ يقول: "وإنجيل مرقس ليس بالكاذب، لكن فيه مبالغة كثيرة، وأكثر منها في أناجيل متى، ولوقا، ويوحنا، إذ وضعوا على فمي كلمات لم أنطق بها يومًا، ووصفوني أنني وديع ولطيف فيما كنت غضوبًا ومغتاظًا"، وبذلك فإن ميلر يشكك في الأناجيل، بل ويطالب بأن يكتب الروائيون الأناجيل مرة أخرى! وهناك أيضا رواية "الإغواء الأخير للمسيح" للكاتب اليوناني نيقوس كازانتزاكس والذي يقدم فيها شخصية المسيح بصورة مهتزة ضعيفة، بل ويختلق واقعة زواجه!! وهذه الرواية قد تم تحويلها إلى فيلم سينمائي من إخراج مارتن سكورسيزي. إن فيلم "آلام المسيح" قد أتى في ذلك التوقيت لكي يحدَّ من تأثيرات سياسية وأدبية وسينمائية عديدة ومتراكمة عبر سنوات، إلا أنها قد تفاقمت في السنوات الأخيرة، متزامنة في ذلك مع ورود الألفية الجديدة، والتي كانت أحد الأسباب لوجود هذا الفيلم، وكما يعرفها ديتر تسمر لنغ[xii][15]: "تعني الألفية ميلينيار يسموسي باللاتينية وخيليا سموس بالإغريقية، غير أن لها معنى آخر هو عودة المسيح الذي سيقيم ملكوت السلام والعدل على الأرض، وسيحكمها مع القديسين طوال ألف عام"، وهذا التعريف يعني لدى المسيحيين أن اليهود سوف يدخلون حظيرة المسيحية لدى عودة المسيح، وأنهم سوف ينتصرون على البرابرة. وقد أتى الفيلم وسط هذا الخضم المتلاحق من الأحداث والأفكار ليؤكد على مرجعية الأناجيل والرؤى المسيحية. ولذا فإن الكتَّاب العرب الذين تناولوا الفيلم بالنقد قد انساقوا وفق مقولة: إن الفيلم يعادي اليهود!! وهذا الأمر غير وارد على الإطلاق لدى صانعه، فالفيلم يقدم سياقًا تاريخيًّا (وفق الرؤية المسيحية)، كان اليهود القدامى -وأكرر (القدامى)- هم المسئولون عن القضاء على المسيح، وهذا الأمر لا يمكن لأي مسيحي أن ينكره؛ حيث إن صك البراءة الذي أعطته الكنيسة الكاثوليكية لليهود، هو في حقيقة الأمر ينصب على اليهود الحاليين، أو من أتوا بعد واقعة الصلب المزعومة، وإذا نفيت واقعة الدور اليهودي فهذا يعني انهيار العقيدة المسيحية، فالكتاب المقدس هو المرجعية الأساسية والتي لا يمكن إنكارها. ويرصد ذلك بيتر جران[xiii][16] عند الكنيسة المعمدانية الجنوبية (الأمريكية): "إن الكتاب المقدس في عقيدة المعمدانيين هو الوحي، والوحي -الذي هو كلمة الرب- ليس فقط حقيقيا، بل هو الحقيقة نفسها.. فبعض القسيسين يرون أن العصمة تشمل كل جوانب الكتاب المقدس بما في ذلك الإشارات التاريخية والعلمية الواردة فيه..."، فإذا أتى أحد ليبرئ اليهود المعاصرين من دم المسيح (طبقا للرؤية المسيحية) فإنه بذلك قد حرَّف في الكتاب المقدس! كما أن الفيلم قد قدم في مشهد المحاكمة عددًا من أحبار اليهود المعترضين على المحاكمة، أي أنه قد قدم صك تبرئة لبعض اليهود المعاصرين للمسيح، ولكن النقاد العرب يرون الفيلم من زاوية رؤية ضيقة؛ لأنهم لم يستوعبوا أن الفيلم موجه في الأساس للجمهور المسيحي الغربي وليس للعرب والمسلمين؛ بل وحتى المسيحيين الأرثوذكس، فالخلاف حول طبيعة المسيح شاسع فيما بينهم، فالكنيسة الأرثوذكسية تعتبر المسيح إلهًا وابن الإله؛ حيث دخل الناسوت في اللاهوت (والناسوت هو الجزء البشري واللاهوت هو الجزء الإلهي)، أما الكنيسة الكاثوليكية فتعتبره ابن الإله. ولكن النقاد العرب قد انساقوا في ترديد واقعة صلب المسيح من أجل إدانة اليهود المتخيلة في أذهانهم، دون أن يدركوا أن الأمر يخرج في هذا الترديد عن التصور الإسلامي لعدم قتل أو صلب المسيح عليه السلام، فهم لم يروا إلا المستوى الأول فقط من الطرح الذي يقدمه الفيلم، وتصوروا أن آراءهم النقدية قد تحقق مكاسب سياسية!! إلا أنهم أخضعوا الدين لمكاسب السياسة الساذجة والتي لا يقرؤها أحد في الغرب ونسوا أن هناك الكثير من القراء من الشبان والمراهقين يقرءون ما يكتبون، وقد يتأثرون بهذه الكتابات التي تشوش على عقيدتهم الإسلامية. وعرض الفيلم في بعض البلدان الإسلامية قد أحدث نوعًا من البلبلة الفكرية بين ممانع وموافق، وأعتقد أن فرنسا عندما منعت الحجاب قد استندت في ذلك إلى خوفها على "العلمانية" وهي ليست عقيدة؛ بل إن فيلم "الإغواء الأخير للمسيح" قد منع من أستراليا وحرقت دار العرض التي عرضته في باريس! ولا يسعنا إلا أن نذكر أن فيلم "آلام المسيح" قد قام بدور مهم في خدمة عقيدته وهذا أمر لا يمكن إغفاله أو تناسيه؛ ولذا فإنني أعتقد أن الوقت قد حان لإعادة النظر في الموقف من السينما وكيفية إدارة الموقف منها، وتقنين ذلك وفق رؤى اجتهادية جديدة، وهذه المقالة تأتي لتثوير التفكير والمساءلة في هذا الموقف. __________________________ [1]** مدرس مساعد بالمعهد العالي للسينما، بأكاديمية الفنون - مصر.
موقع "إسلام أنلاين" في 19 أبريل 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
السينما والبحث عن دور إسلامي علاء عبدالعزيز |
|