شعار الموقع (Our Logo)

 

 

سواء صور فيلم "الساموراي الأخير" في نيوزيلندا ام في اي اصقاع أخرى من هذا العالم الممتد والمترامي الاطراف, فإن المكان الذي يقصده ادوارد زويك - مخرج الفيلم, وتوم كروز - بطل ومنتج مساهم في الفيلم - ليس اليابان (البلاد التي شيدت بالسيف), كما يخبرنا صوت الراوي اللجوج في مطلع هذا الفيلم الذي يفتقد الى ملحميته, وان بدا ظاهرياً كذلك.

الفيلم - عرض في صالة الشام في دمشق - وعلى رغم الادعاء بالاسم, لا يعرف شيئاً عن حقبة ميدجي (الحقبة التي بدأ مقاتلو الساموراي بالاندثار فيها) ليس لأنه لا يريد ان يعرف, فأصحابه اساتذة في مجال امتصاص ثقافة هؤلاء الناس, ولأن مصّ الاصابع هو الهدف من الترويج المعكوس لبطل ساموراي اميركي يغير من قواعد الشكل والمضمون في حال تصادم ثقافتين, هي ما يبلّغ عنها هذا الفيلم, لذلك فإن المعرفة قاعدة اساسية في صنع هذا النوع من الافلام. عن هذه الحقبة يقول اكيرا كوروساوا ان الناس كانوا يعيشون فيها ونظراتهم معلقة في الغيوم. وفي تلك الايام كانت الاصوات طبيعية, والنداءات حزينة كما يرد وصفها في اشعار الهايكو.

ما الذي يعرفه آخر ساموراي في آخر قرية تقع في نهاية العالم ربما؟!! النقيب ناثان آلغرين (توم كروز) مروج اسلحة عند شركة ونشستر, وهو مخمور دائماً, ومخروب روحياً (على طريقة كل الاميركيين المنشقين) بسبب مجازر ارتكبت بحق الهنود الحمر في معركة غيتسبورغ, وكان هو شارك فيها تحت إمرة ضابط في الجيش الاميركي.

يعيش ناثان خرابه الروحي على شاكلة كوابيس مؤرقة تقض مضجعه, فيتحول الى سكير وقح يتجشأ (آلامه) أمام الرعاع ويتطلع الى المزيد من الكحول, فلا شيء في الأفق ينقذه من (ورطة) الروح... قبل ان تكون ورطة جسد, طالما هو يتنقل بين تجار السلاح بقامته المتوسطة الطول... من اجل الدولارات فقط...

حقبة عاصفة

في تلك الفترة (1876), ومع انتهاء حقبة ميدجي, وهي حقبة عاصفة في التاريخ الياباني يطل الرأسماليون اليابانيون الجدد على انجازات العالم المتحضر (...) من منافذ التقانة وبداهة الغرب وانحطاطه, فنحن لا نرى في الفيلم سوى صفقات الاسلحة بين الطرفين. ويأخذ هؤلاء الرأسماليون على عاتقهم - من باب الربح - تحديث جيش الامبراطور للقضاء على آخر تمرد لمقاتلي الساموراي, وهو تمرد حقيقي كما يروي توم كروز نفسه في لقاء معه, فقد استمدت احداث الرواية - كتب السيناريو جون لوغان - من كتاب نبل الاخلاق لإيفان موريس, وفيه يتناول حياة سايغو تاكاموري الذي عمل على وضع حكومة جديدة, ومن ثم قاد تمرداً هو نفسه ضدها.

يقع اختيار طرفي الصفقة (الياباني والأميركي) على النقيب السكير ناثان, ليتولى زمام تحديث الجيش الامبراطوري الجديد وتدريبه, ويمضي هو في رحلته الملفقة تسبقه اخباره الاسطورية في معركة تيرموبولي, وأول ما تطأ قدماه هو ميناء بيرل هاربر في يوكوهاما (...).

يبدأ ناثان عمله الجديد بدأب, لكن استعجال اومورا الرأسمالي الياباني المتنفذ لدى الامبراطور الشاب القضاء على آخر رهط من مقاتلي الساموراي بقيادة كازوموتو (لا نعرف ما اذا كان الاسم يشي بشيء له علاقة بكوزوموتو عضو الجيش الاحمر الياباني المعروف)! والذين يجيئون على مهل, على متن افراس طائرة, فهكذا توحي قوة هذا المشهد الآسر, يجيئون وعلى رؤوسهم القرون المخيفة ودروع الساموراي (اشتغلت عليها مصممة الأزياء انجيلا ديكسون ثمانية اشهر, وكان يمكن استخدام الدروع الحقيقية وهي متوافرة في المتاحف اليابانية, كما فعل كوروساوا نفسه في افلامه عن الساموراي).

تبدأ المعركة المتطيرة بعد ان تظهر قدرة ناثان على فتنة "الأعداء" من حوله, واذ تحاصره ثلة من المقاتلين الاشداء في حومته, فإنه يتمكن من قتل تارو هيتو زوج شقيقة كوزوموتو (لعب دوره باقتدار الممثل الياباني كن واتانابي), والتي ستغرم بناثان لاحقاً وتسامحه على قتل زوجها (...) وكأن الاميركي لا يتطهر إلا بأن يولغ بدم زوج من ستكون حبيبته, فهي كي تحبه يجب ان تتعذب, ذلك ان طهرانية الاميركي لا تتحقق إلا بتعذيب الآخرين, الذي لم يعودوا انقياء على رغم بساطتهم الظاهرية وانكفائهم على حياة حسيرة ومتقشفة.

أفكار بالسيف

من الآن, فصاعداً, اي بعد وقوع ناثان في أسر مقاتلي الساموراي, سيظهر المخرج ادوارد زويك قدرة على حشِّ افكار هؤلاء المقاتلين بالسيف الاميركي. السيف الذي لا يعرف اخلاق الساموراي ونبلهم (على رغم ادعاء كروز وزويك بأنهما مغرمان بالساموراي السبعة لأكيرا كوروساوا), ولا ينتمي اليهم, فما في جعبة اصحاب هذا الفيلم سوى ملحمية زائفة ومتعطشة للغدر بثقافات الآخرين وتعيد اعكارها ان وجدت, بهدف تنظيفها وغسلها من ادران الخلق وآثار التقويم, فهنا, في هذا الفيلم يقوم ناثان, وهو سكير تؤرقه الكوابيس, بفك رموز الثقافة اليابانية الحيّة, وهي عبارة عن جشتالت مركب, وتبسيطها الى مجرد همهمات, وسيدرب نفسه على قتال الساموراي انفسهم, بعد ان يلتقط السر الكامن في التركيز فقط, وهو ما يبوح له به ابن القتيل تارو هيتو (لاحظوا ذلك). وسيدخل ناثان في حوار مع كوزوموتو عن اشعار البوتشيدو التي يكتبها قائد الساموراي في لحظات استراحاته وتعبده. على ان ناثان سيبدي معرفة تلقائية بهذا النوع من الشعر المعقد, وسيطلق احكاماً نقدية ملفقة عن (الحياة في كل نَفَس).

ولا تتحقق ملحمة اليابان, او لا تكتمل, الا بإدمانه على شراب (الساكي) وكأنها لا تكمل دورتها إلا بثمالته فوق ثمالة من طين عاشها في سهدب الولايات المتحدة قبل ان يقنع نفسه بالقدوم الى بلاد (ليست هي اليابان) شيدت بالسيف الأميركي, وليس بسيف الساموراي المثقف والنبيل والعصي على الفهم, كما بدا لنا في أفلام كوروساوا وكاجيرو ياماموتو وياما سان.

المهم, ان الاحداث لا تتعقد في "الساموراي الاخير" فقد تسلل ناثان الى عقول اليابانيين وقلوبهم, كما يصح للأميركي ان يتسلل في هجعته الى قلوب كل الاشقياء والاتقياء معاً, ومن بعدهم الى قلب الحسناء المعذبة (كويوكي), ارملة تاروهيتو, التي ستحبه بصمت حتى وان كانت رائحته مثل خنزير فطِس, وستتعذب على رغم انه قاتل زوجها, لاحظوا انها تستبدل مقاتل ساموراي شهم ونبيل بأميركي عته وفاجر وسكير وتطارده الكوابيس في محنته (المزورة) ويصبح قائداً لقائدهم, فتضيع علينا طاسة من هو الاخير (الاميركي ام الياباني)؟ والذي يشاهـد السامـوراي السبعـة لكوروساوا (على اعتبار انه ملهم كروز وزويك) ينفي مباشرة ان ينتمي فيلمهما الى هذه الطائفة من الافلام, فهو موغل في سطحية متعمدة وادعاء طالما اشتهرت به هذه الافلام من هذا النوع (جون سترجز أفلم الساموراي السبعة عام 1961 بعنوان السبعة العظام).

ستار مسدل على الثقافة

فيلم ماكر, ففي منازلة ناثان لمساعد كوزوموتو (المتجهم حتى لحظة موته) نرى مجموعة من الساموراي يقامرون على الفائز بطريقة الكاوبوي المدلل, المقرف, وفيما يفتقد هذا الاميركي في مراسلته لذنوب الساموراي التي غسلتها الاقمار قبيل انقراضهم بقليل, فإنه يفتقد الى حنكة الانسان المدرب على نبل الهايكو, وليس نبل الاخفاق المتصدع, ولا يقوى على حمل السيف البتار, السيف الذي لا يشهر إلا في معركة الحق (كما في الفيلم الملهم لهما على الاقل)... وكوزوموتو المتمرد الثائر الذي يظهر تابعاً لأميركي اخرق, يظهر بتمرده وانشغاله بمراقبة ناثان (معجباً به طبعاً), وكأنه يسلم بمعنى القطيعة في ملامح الثقافة اليابانية الحية التي قامت على مد الجسور, وليس تقطيعها. وهنا يغير الأميركي المحبوب من قواعد اللعب. حتى انتحار الجنرال الياباني في معركته الخاسرة مع الساموراي ينتهي بطريقة الها-اكيري (وهي طريقة شق البطن من اليسار الى اليمين ثم الى الاعلى), فيما لا يحظى (من اسف) كوزوموتو بميتة مثلها, كما يريد كل مقاتل ساموراي نبيل (وهذا من دواعي ثقافتهم وفلسفتهم). نحن لا نرى من فوقه سوى نظرات اميركي شقي لا يموت, بل يعود الى قرية في نهاية العالم خلت تماماً من رجال الساموراي, ومن ذكرهم, وبقي فيها نساؤهم وأطفالهم وزرعهم وضرعهم... ليملكها هو... ناثان, مروج ثقافة ونشستر ووكلائها!!

فيلم "الساموراي الأخير", فيلم على ضخامة مشهدية آسرة, كأنه يسدل الستار على ثقافة بلد عريق بمعاونة قاطعي طرق (لم يكونوا ساموراي على الاطلاق), حتى يبدو ان الساموراي المعني بالاسم (الاخير), كأنه ولد للتو في سهوب الولايات المتحدة الاميركية على يد ادوارد زويك وشركائه!!

جريدة الحياة في  19 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

الأميركي يعود وحيداً إلى قرية في نهاية العالم

فجر يعقوب