شعار الموقع (Our Logo)

 

 

شادية.. هذا الاسم الجميل في زمن الفن الجميل.. نموذج للمرأة العاشقة التي أحبت فنها وأعطته بصدق وعرفت كيف تبحر في بحاره ومتي تبدأ ومتي تتوقف، هي واحدة من قلة نادرة من أصحاب المواهب ممن يمتلكون موهبة مزدوجة، يكاد يتلامس سقف كل منها.. فهي واحدة من أهم من عرفت الشاشة العربية من ممثلات لهن حضور طاغ وكريزما ملحوظة، وهي أيضا واحدة من أشهر وأجمل أصوات الغناء العربي وأكثرهن تميزا.

أعطت شادية في المجالين وتفوقت، بداية من لحظات الميلاد الفني وحتي لحظات ما قبل الاعتزال، وعاصفة التصفيق تلازم حضورها في المسرح وفي حفلات الغناء وأيضا في نجاحات السينما.

ومثلما أبدعت في النغم تألقت في الدراما، وإذا اعتبرنا سيدة الغناء العربي وزعيمته الراحلة أم كلثوم هي صاحبة أهم مرجعية تعود إلي آرائها وتعقيباتها في مجال سيادتها وريادتها، فإننا نجد وفي أكثر من موضع علي لسان كوكب الشرق تقديرا معلنا لغناء شادية، حيث تقول أم كلثوم «إن شادية صاحبة صوت جميل، سليم، متسق النسب والأبعاد، مشرق، لطيف الأداء يتميز بشحنة عالية من الأحاسيس، وبصوتها فيض سخي من الحنان، وشادية واحدة من أحب الأصوات إلي نفسي».

ولما كان عملاق الرواية العربية الأديب العالمي نجيب محفوظ صاحب تجربة سينمائية ممتدة سواء في أعماله الأدبية التي تحولت إلي أعمال سينمائية أو في أعماله التي كتبها في الأصل للسينما، وفي المجالين قدمت شادية عددا من شخصياته يقول عنها نجيب محفوظ: «إن شادية ممثلة عالية القدرة وقد استطاعت أن تعطي سطوري في رواياتي لحما ودما وشكلا مميزا لا أجد ما يفوقه في نقل الصورة من البنيان الأدبي إلي الشكل السينمائي، وكانت «حميدة» في «زقاق المدق» صورة لتلك القدرة الفائقة التي لا أتصور غيرها قادرا علي الإتيان بها، وهي كذلك أيضا في غير أعمالي فقد رأيتها في بداياتها في دور الأم المطحونة المضحية في فيلم «المرأة المجهولة» وتصورت أن بمقدورها أن تحصل علي جائزة «الأوسكار» العالمية في التمثيل لو تقدمت إليها.

وما قالته أم كلثوم وما قاله نجيب محفوظ قالته أيضا الجماهير العربية التي ظلت تتابع عطاء شادية في الغناء والتمثيل ومازالت تتجاوب مع تراثها الفني حتي بعد ما يقرب من 15 عاما علي قرارها الاعتزال والتوقف عن تقديم الجديد والتفرغ لحياتها الحالية، حيث الحرص علي العبادات والاشتغال بأعمال الخير.

ظلت شادية نجمة الشباك الأولي في السينما العربية ولحقبة تزيد علي ربع قرن ومنذ أفلام البدايات، وذلك وفق إحصاء دقيق قدمه الكاتب الراحل سعد الدين توفيق في كتابه «تاريخ السينما العربية» الصادر في منتصف السبعينيات الأخيرة، الأمر الذي يعني أن شادية لم تتفوق فقط علي مستوي ما قدمت من أعمال، لكنها تفوقت أيضا في حفاوة استقبال الجماهير لفنها وحتي الآن وسواء في مبيعات اسطوانات وأشرطة أغنياتها أو أفلامها ومسرحيتها الوحيدة، بل إن من يريدون التسلل إلي قلوب الناس من فناني الغناء الحالي يطرقون الأبواب إلي قلوب الجمهور من باب شادية، والدليل كثرة تقديم أعمالها في اجتهادات جديدة، ومنها ما يظهر في الفضائيات تحت عنوان شادية.. مطربة الزمن الجميل أو ما يظهر للناس من ألبومات غنائية مثل تلك المجموعة المسماة «يا شادية وحشتينا».

ومثل هذا النجاح الذي كان لـ «شادية» في أعوام العطاء وتحقيق الاستجابة، نجد له مردودا اليوم وهي في حال الاعتزال، تهجر الأضواء بإرادتها وتتحرر من قيود ممارسة الفن، بينما جمهورها لم يزل محبا لها، يحرص علي فنها ويتابعه ويتخذ من نفسه محاميا عنها إذا ما امتدت سهام طائشة لهذا العطاء الجميل وبعدما قررت شادية الصوم عن الكلام المباح وغير المباح وتركت الفن رافضة كل الإغراءات بالعودة أو حتي لحديث الذكريات!

  • ما السر في تلك العلاقة الحميمة بين هذه النجمة وعشاق فنها؟

إن في شادية.. الاسم والمعني والتجربة والعطاء الإجابة عن تساؤلنا، لأن تفاعل الفنان مع عصره يفرض عليه أن يوائم بين شخصه كفرد، يعبر بعطائه الفني عن نفسه في المجتمع الذي يعيش فيه أصدق تعبير علي المستوي الفردي، وبين شخصه كفنان يعبر بإنتاجه عن المجتمع الذي يعيش فيه أصدق تعبير اجتماعي، وهكذا كان السلوك الإنساني والفني لـ «شادية»، وبحيث يستحيل الفصل بين المدلول الفردي والمدلول الاجتماعي، وبمعني أعمق المدلول الإنساني لتعبير الفنان عن عطائه وما يصدر عنه من فن.

عاشت شادية فيما قدمت من فن جميل احتضنته الأسماع وعشقته العيون، وكأنها تعي مقولة الأديب الكبير تولستوي، فالفن عندها يبعث في النفس السرور والبهجة لأنه وسيلة لاتحاد الناس بعضهم ببعض، فهو الذي يجمع بينهم في مشاعر موحدة، ولا غني عنه للحياة والتقدم ونحو هناء الأفراد وسعادة الإنسانية، وهكذا وصفنا شادية في سطور عنها في كتاب «أشهر مائة في الغناء العربي» بأنها استطاعت أن تقيم علاقتها مع الفن كونه حاجة للذات مثلما هو حاجة للمجتمع، وقد تميزت بإتقان مهارة الحضور وأوجدت بذكائها الفطري وحسها الاجتماعي وثقافتها وإخلاصها وصدقها مع نفسها، ومع من يتعاملون معها ومع من يستقبلون فنها، فأوجدت بذلك نوعا من التوازن المأمول لكي يتحول الفنان إلي رمز.

النشأة والتكوين

نشأت شادية أو السيدة فاطمة أحمد كمال شاكر في أسرة مصرية متوسطة، وكان ميلاد شادية في وسط مدينة القاهرة في 8 فبراير 1934 في أسرة مكونة من الأب المهندس أحمد كمال شاكر، وكان يعمل وقتها مهندسا زراعيا في الأملاك الأميرية في أنشاص بمحافظة الشرقية، والأم السيدة خديجة طاهر جودت التي تعود أصولها العائلية إلي واحدة من الأسر ذات الجذور المصرية التي استقرت في مدينة استانبول في وقت كانت فيه المدينة عاصمة للدولة الإسلامية، وكانت مصر ومعظم الأقطار العربية ضمن ولاياتها العديدة.

كانت شادية أصغر الأشقاء والشقيقات بين محمد وعفاف وسعاد وطاهر، وكانت هي فاطمة أو فتوش بتدليل الأسرة لها طفلة تمتلئ بالحيوية والحبور وخفة الظل، عاشت طفولتها وصباها مع الأسرة في مروج أنشاص الخضراء وفي حي عابدين في وسط القاهرة وأيضا في كورنيش النيل في حي شبرا، وحتي كان آخر عهد لها مع أسرتها في التنقل بين أحياء القاهرة السكني في حي الزمالك.

ولأن شادية فنانة وإنسانة لها تأثير ملحوظ علي كل من عرفوها عن قرب، فقد كان من الضروري أن نتعرف علي العناصر والمقومات التي دعمت موهبة وإنسانية شادية، وأثر علاقات التأثير والتأثر في حياتها.. قالت لنا شادية: البداية في البيت لأن الأسرة مثلما يقولون الخلية الأولي في المجتمع، ولهذا علمتني أمي ـ يرحمها الله ـ النظام والدقة والطاعة المسئولة وعدم التذمر والشكوي، وقد تفتحت عيناي علي الدنيا وأنا أتابع أمي تؤدي دورها كربة بيت مسئولة بكل الصدق والإخلاص، وكانت تحرص علي الصلاة في أوقاتها، وأذكر لها أيضا حرصها علي التقاليد العربية في المودة والتراحم، وحيث كانت تنتظم في تبادل الزيارات مع الأهل والجيران والأصدقاء فيما كان يعرف في كل بيت بيوم «المقابلة»، ومازلت أذكر أن اليوم المخصص لاستقبال الأهل في بيتنا كان بالنسبة لأمي ولكل أفراد الأسرة بمثابة يوم العيد في بهجته وخروجه علي المألوف.

ولأم شادية فضل كبير علي تكوينها كفنانة، فقد كانت الأم شديدة الحنان والطيبة توزع مشاعرها بالعدل علي كل أفراد الأسرة، لكنها كانت تخص شادية بقدر أكبر من الحنان لأنها عرفت الحياة العامة والعمل الفني والشهرة، وهي لم تزل صغيرة في أولي سنوات المراهقة. كانت الأم تذهب مع صغيرتها ـ 12 سنة ـ إلي الاستوديو صباحا وعندما ينتهي الأب من عمله في وزارة الزراعة، كانت الأم تعود إلي البيت ويتناوب الأب رعاية الابنة في الاستوديو أو في موقع التصوير بعد ذلك.

ومكانة الأم عند شادية لا حدود لوصفها وقد أقامت شادية مسجدا كبيرا ومكتبة للأطفال ومستوصفا خيريا في مسجد أسمته مسجد الرحمن عند تقاطع شارع الهرم مع ترعة المريوطية، أقامت هذا الصرح ترحما علي والدتها الحاجة خديجة طاهر.

أما والد شادية المهندس أحمد كمال شاكر فقد كان مهندسا زراعيا يعشق الطبيعة وتنسيق المساحات الخضراء، وعبر هذا الوالد كثير التأمل والمحب للقراءة عرفت شادية فن الغناء، فقد كان الأب صاحب صوت جميل، يجيد العزف علي آلتي العود والبيانو لكنه كان يحجب موهبته عن أفراد أسرته لخجله لكنه يتخلي عن هذا الخجل في المناسبات العائلية وفي صحبة الأهل والأصدقاء، وكثيرا ما وصل صوت الأب المعبر للابنة الصغيرة وهو يدندن بعض أدوار سيد درويش ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش.

أحبت الابنة الغناء عبر الأب دون أن يلحظ الأب ذلك وكثيرا ما كان يحلو للصغيرة الانفراد بنفسها في غرفتها وترديد الأغنيات الشهيرة للمطربة ليلي مراد وأسمهان ونجاة علي ورجاء عبده.. كانت تعشق أم كلثوم لكنها كانت تراها في وضوح الشمس وبعدها عن الكائنات، ولهذا لم تتجاوز حدودها ولم تجد في نفسها شجاعة التحليق في آفاق العبقرية العالية لسيدة الغناء وزعيمته.

وعندما علم والد شادية بحبها للغناء وأن كل من استمعوا إليها، أشادوا بصوتها لم يغضب الأب ولم يعاملها بقسوة لكنه سعي إلي تلقينها أصول الموسيقي وقواعد الغناء من خلال أساتذة معهد الموسيقي العربية ممن دربوها علي غناء الموشحات والأدوار المعروفة، وكذلك عرفت المقامات الموسيقية وخضعت لتدريبات «السوليفيج» الصوتية المعروفة.

في صباها وحتي وهي موهبة لم تكتشف بعد تلقت علوم الموسيقي علي يد الملحن القدير فريد غصن والموسيقي التربوي محمد الناصر وكذلك دربت علي الإلقاء والتعبير الصوتي وتنويع الأداء علي يد الفنان الكبير عبدالوارث عسر.

نصيحة أم كلثوم

ولأن المهندس أحمد كمال شاكر والد شادية من المؤمنين بالمقولة الشهيرة «لا يفتي ومالك في المدينة»، فقد اختار أن يذهب بصغيرته إلي سيدة الغناء العربي أم كلثوم يسألها المشورة، وبالفعل رتب لها الوالد زيارة لبيت السيدة أم كلثوم التي تربت شادية علي سماعها والإحساس بما تغنيه.. كان اسم أم كلثوم عند الصبية شادية يرادف الماء والهواء وضرورات الحياة وبعدما رحبت بها أم كلثوم سمعتها تغني لحن محمد القصبجي «بتبص لي كده ليه» فقالت لها إنت موهوبة، لديك خامة طيبة وبالاجتهاد والإخلاص ستنجحين، لكن عليك أن ترعي فنك مثلما ترعين نفسك، وأن احترامك لفنك يلي تقديسك وعبادتك لله عز وجل لأن حب العمل طاعة للخالق.

مهدتها أم كلثوم معنويا للإقبال علي العمل الفني، ومن هنا كان علي شادية أن تصارح مدرستها بحبها للغناء فكان اختيارها لأداء الأناشيد المدرسية ونجاحاتها في الحفلات المدرسية، وكان التقدير غالبا ما يكون من نصيب شادية عندما كانت تقدم في المدرسة نشيد «الجامعة» للسيدة أم كلثوم وغير ذلك من الأناشيد الوطنية المقررة علي طلاب المدارس وعبر كلمات لكبار الشعراء أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي ومصطفي صادق الرافعي وعبر ألحان نجوم التربية الموسيقية والتذوق الفني في المدارس أمثال صفر علي وعبدالحميد عبدالرحمن وعبدالحميد توفيق زكي وأحمد خيرت وغيرهم.

كانت نصيحة أم كلثوم لـ«شادية» بمثابة ضياء منار أعانها علي اكتشاف الطريق من بداياته والتنبؤ بما سيكون عليه في أخرياته. ساعد شادية علي التعرف علي الواقع الفني وهي صبية صغيرة أن شقيقتها الكبري عفاف والمقيمة الآن في الغرب الأمريكي، كانت تعشق التمثيل والغناء وأنها جربت حظها في هذا المجال قبل أن تفصح شادية عن موهبتها، ولعلنا نذكر من علامات بدايات عفاف شاكر، والتي لم يكتمل مشوارها مع الفن، ذلك الدور الذي لعبته في فيلم «أحمر شفايف» مع نجيب الريحاني وسامية جمال وزوزو شكيب، حيث لعبت دور ابنة نجيب الريحاني في هذا الفيلم المعروف الذي أخرجه ولي الدين سامح.

تأتي الفرصة الأولي لـ«شادية» عندما يعلنون في استوديو مصر عن الحاجة لفتيات صغيرات من هواة التمثيل والغناء للمشاركة في عمل جديد كان يحضر له المخرج الكبير أحمد بدرخان، وتخضع شادية لاختبار الكاميرا وتنجح وسط حفاوة رأي المخرج ومدير التصوير ومعظم أسرة الاستوديو في ذلك الوقت.

ويقود اختبار الكاميرا إلي أول النجاحات عندما يشاهد المخرج حلمي رفلة هذه اللقطات، وكان يبحث مع المطرب والملحن محمد فوزي عن صبية في عمر المراهقة تشارك محمد فوزي بطولة أول فيلم من إنتاجه وبعد نجاحه كمطرب وممثل في عدد من الأفلام التي سبقت فيلم «العقل في إجازة» أول بطولة لـ«شادية» في السينما وبعد تجارب صغيرة في الوقوف أمام الكاميرا قبل بدء تصوير هذا الفيلم بعدة شهور فقط.

تنجح شادية في تقديم الدور المسند إليها في فيلم «العقل في إجازة» حيث تلعب شخصية فتاة صغيرة ساذجة وتغني في هذا الفيلم ألحانا جميلة وضعها محمد فوزي لـ«شادية»، وكانت هذه الألحان أولي لبنات تعرف الناس علي صوت شادية وإمكاناته بعدما قدم محمد فوزي لها ألحانا جميلة بسيطة وسلسة تتناسب مع طبيعة صوتها في هذا العمر المبكر، وينجح الفيلم نجاحا كبيرا ويردد الناس أغنياته، وتتكرر لقاءات شادية مع أول من أعطاها الفرصة الموسيقار محمد فوزي في عدة أفلام دعمت نجاحات البدايات، ومنها أفلام «الروح والجسد» إخراج حلمي رفلة وفيلم «صاحبة الملاليم» إخراج عز الدين ذو الفقار، وفيلم «الزوجة السابعة» إخراج إبراهيم عمارة، وفيلم «بنات حواء» إخراج نيازي مصطفي، ويردد الناس من أغنيات شادية في تلك الفترة المبكرة في أواخر الأربعينيات، أغنيات جميلة لحنها محمد فوزي ومنها «إسكندرية يا غرامي» «لقيته وهويته» ـ «أنا بنت حلوة» ـ «صباح الخير» ـ «بيتهيألي أنك تهواني» ـ «الحب له أيام» وغيرها.

تنطلق الصبية المليحة من نجاح إلي نجاح وتقف أمام علامات فارقة في تجربة فتاة مثلها في مقتبل العمر، وحيث يحقق فيلمها «ليلة الحنة» إخراج أنور وجدي، وفيلمها «ليلة العيد» إخراج حلمي رفلة في أول الخمسينيات نجاحات غير مسبوقة في الإيرادات، وفي استمرارية أسابيع العرض لم تعرفها السينما العربية إلا مع نجمات معدودات من الجيل السابق علي ظهورها.

وتمضي موجات النجاح متلاحقة وترحب الأوساط السينمائية والغنائية بالقادمة الجديدة، وتلعب الصحافة دورا معاونا في الاقتراب من هذه الموهوبة الجميلة التي كانت تغني بصوت مليح يمزج حلاوة الأداء برقة الإحساس وعبر صورتها اللطيفة وملامحها الدقيقة وابتسامتها الصبوح.

يتدعم نجاح شادية بالتجاوب الجماهيري الذي أعطاها صفات عروس السينما، وكانت في موقع الابنة والأخت لكل من انحازوا إلي حضورها السينمائي المحبب ومنذ نجحت في تحقق للمتلقي المعادلة السلسة بين عناصر حياء العذراء الصغيرة وعناصر التعبير عن كبرياء الأنوثة المتفجرة. إلي جانب أنها تمتلك أيضا صوتا جميلا رقيقا تميزه النبرة الجديدة والأداء الجديد الذي لم يقلد أحدا، فكانت شادية الإضافة الجديدة أيضا إلي عالم الأداء الغنائي، ومثلما قال الموسيقار الراحل محمود الشريف إن الغناء العريق عرف مئات الأسماء من أصحاب الأصوات الجميلة لكن من بين هذه الأسماء كانت أهم صاحبات طرائق الغناء في الزمن الحديث أربعا فقط هن أم كلثوم وليلي مراد وفيروز وشادية وتحت طريقة أداء كل واحدة منهن تندرج عشرات الأسماء الأخري حتي لأكبر الأصوات شهرة وجماهيرية.

استفادت السينما من شادية وأفادتها فقدمتها في أدوار البنت البريئة والجريئة والشابة الصغيرة التي يحب الآخرون تدليلها، وكانت في تلك الأدوار طبيعية، بسيطة لم تعرف الانتقال ولم تسلك مسلك الاستظراف، وحققت شادية بهذه الأدوار صدارة الشباك الذي ظلت تحتفظ به أيضا وهي تهجر هذا اللون إلي لون آخر أكثر نضجا وأعمق أثرا.

بحثت شادية عن شخصيات فنية تشكل لاستمراريتها إضافة تزيد من قدراتها وفي مصداقيتها لدي جمهورها فتنتقل من أدوار البدايات، حيث الأداء البسيط السهل الممتنع والمقنع لدور البنت الشقية والمراهقة اليانعة إلي أدوار أخري مركبة ومرسومة بعناية وهي تنقل شريحة من الواقع يتجسد بإجادة علي الشاشة أيضا.

تتأكد خطواتها في مرحلتها التالية وفي إصرارها علي تجديد العطاء في أدوارها التي سبقت خطوتها العبقرية في فيلم «المرأة المجهولة» إخراج محمود ذو الفقار.

وجاء الفيلم الذي يعد نقطة تحول مهمة في مسيرة شادية السينمائية، وهو فيلم «المرأة المجهولة» ولم تكن شادية مرشحة لبطولته لصغر سنها في ذلك الوقت (1959)، وطبيعة أدوارها الشابة، ولم يكن المخرج محمود ذو الفقار أيضا المرشح لإخراج هذا الفيلم المأخوذ عن القصة الفرنسية «مدام اكس» سيناريو وحوار محمد عثمان، ولهذا كان نجاح الفيلم ورسوخ أقدام بطلته مفاجأة السينما في تلك السنوات.

وعبر هذا الفيلم جاء اعتراف النقاد والسينمائيين وأيضا تقدير جائزة أحسن ممثلة بعظمة قدرات الممثلة الجميلة، التي لم يخذلها جمهورها وهي تتمرد علي ما اشتهرت به من أدوار خفيفة لتنطلق في الأدوار الصعبة والمركبة، وحيث اعتبرها النقاد خطوة جريئة من ممثلة شابة تلعب دور أم ممثل يكبرها في العمر.

وبعد المرأة المجهولة تجد شادية في نفسها الشجاعة علي خوض امتحانات صعبة أخري نجحت فيها أيضا بامتياز، خاصة عندما جسدت شخصيات بطلات روايات نجيب محفوظ، وكانت البداية في فيلم تفرغت فيه للتمثيل دون غناء لأول مرة، وهو فيلم «اللص والكلاب» إخراج كمال الشيخ بعده قدمت دور حميدة في «زقاق المدق» سيناريو وحوار سعد الدين وهبة، وكان فيلم «الطريق» ثالث عمل روائي لـ «نجيب محفوظ» تقدمه شادية في دور كريمة التي تمثل الغواية التي انحرفت بدعوة صابر سيد الرحيمي ووقفت أمام مبتغاه، وبعد فيلم «الطريق» إخراج حسام الدين مصطفي قدمت شادية دور «زهرة» في رائعة نجيب محفوظ «ميرامار».

ومع هذا التألق في الأدوار المتباينة الاهتمامات، متعددة الاتجاهات من عاطفي إلي واقعي إلي انتقادي وإلي غير ذلك من الأعمال تواتي شادية الفرصة للبحث الدءوب عن الجديد مستعينة بقراءاتها وأيضا بما تتمتع به من رؤية ثقافية، تتمكن من العثور علي ما تبحث عنه وهناك العديد من الأمثلة ومنها تقديم شخصية «فؤادة» التي تحدت سطوة عتريس في فيلم «شيء من الخوف» إخراج حسين كمال، وأيضا شخصية «سيدة» التي جاءت من القاع لتبحث عن أنبل المعاني في رحلة مليئة بالأشواك والصعاب في فيلم «نحن لا نزرع الشوك» إخراج حسين كمال أيضا.

ويمضي مشوار التفرد عند شادية فتقدم في السبعينيات والثمانينيات أدوارا جديدة عليها وعلي جمهورها ومثلما كان في فيلم «الهارب» إخراج كمال الشيخ ـ «امرأة عاشقة» ـ «أمواج بلا شاطئ» ـ «لا تسألني من أنا» إخراج أشرف فهمي.

وخلال رصيد شادية في السينما نلحظ وجود الفيلم الياباني المصري المشترك «علي ضفاف النيل» الذي لعبت شادية بطولته أمام نجم اليابان الأول يوشاهيروا يشيهارا والممثلة اليابانية مي كيتار ومن إخراج ماناجاوا، وفي هذا الفيلم الذي يدور مضمونه حول سرقة الآثار المصرية القديمة وبيعها لمحترفي شراء الآثار المسروقة في اليابان وأوروبا والولايات المتحدة وهي قضية لاتزال تحدث للآن وتشغل متابعاتها الصحف والشبكات التليفزيونية لليوم.

وقد سيطر علي كاتب هذه السطور سؤال ولماذا اختيرت شادية دون غيرها لتكون بطلة لهذا الفيلم الذي صورت مشاهده الخارجية في طوكيو وأوزاكا وكيوتو ونارا في اليابان وبين القاهرة والإسكندرية والأقصر في مصر، وقد وجدت الإجابة عن هذا السؤال خلال زيارتي الأولي لـ«اليابان» في عام 1983 عند النجم الياباني ايشيهارا وأيضا عند المنتج كواساكو فقد قالا لي لقد اخترناها بعد ما شاهدنا مشاهد سينمائية من عشرات الأفلام لكل نجمات التمثيل في مصر، واتفقت الآراء عليها قبل أن نرتب إنتاجيا للقاء بها، وقد أجمعنا علي أنها تمتلك تعبيرا إنسانيا عاليا وملامح جميلة تفصح عن ملامح الشخصية المصرية العربية الشرقية، إلي جانب قدرتها الممتازة علي إتقان الأداء.

وتتويجا لقدرات شادية كانت جرأتها في الوقوف علي خشبة المسرح في عام 1984 ولأول مرة بعد أن أصبحت راسخة القدم في العطاء السينمائي، وحيث لعبت بطولة مسرحية «ريا وسكينة» تأليف بهجت قمر وموسيقي بليغ حمدي وإخراج حسين كمال، وظلت تقدمها بنجاح لمدة ثلاث أعوام وستة مواسم شتوية وصيفية بين القاهرة والإسكندرية وعدد آخر من العواصم العربية.

نجحت هذه المسرحية نجاحا مذكورا سواء في إقبال الجمهور عليها أو في مبيعات أشرطة الفيديو وأيضا عند العرض في القنوات الفضائية والأرضية، وتألقت شادية مع نجوم المسرحية وهي تقدم شخصية «ريا» في المسرحية التي قدمت قصة أشهر قاتلتين في تاريخ الإجرام من خلال تناول يمزج الكوميديا بالمأساة.

لقد جربت شادية العطاء في كل ألوان التعبير فأجادت وفي هذه الوسائل التعبير.. نجحت في الإذاعة وهي تقدم مسلسلات شهيرة مثلما «صابرين» و«نحن لا نزرع الشوك» و«جفت الدموع» و«سقطت في بحر العسل» و«عاشق الموال» و«سنة أولي حب» و«الشك يا حبيبي» وغيرها ونجحت في مائة دور ومائة شخصية عبر شاشة الفن السابع، وأقدمت علي العمل في المسرح لكنها لم تقترب من دراما التليفزيون، ولم تقدم أيا من مسلسلاته، واقتصر حضورها التليفزيوني علي نقل حفلاتها الغنائية علي الهواء أو من خلال تسجيل تلك الحفلات.

القيثارة الذهبية

ومثلما كانت في التمثيل مراحل وارتفاعات في منحني الإبداع، كان لها أيضا في الغناء مراحل متتالية ومسارات متنوعة ومختلفة.

كانت المرحلة الأولي في غناء شادية المطربة من خلال البدايات التي وضعها محمد فوزي وتلتها نجاحات ملحوظة مع ثلاثة من نجوم التلحين الكبار، وقد بدأت مع محمود الشريف وهو موسيقار شديد الالتصاق بالتعبير العربي الشرقي وهو عاشق للتراث، يستوعب عبقرية فنان الشعب سيد درويش، وتمثل ألحان الشريف النبت الأصيل للأرض التي عاش عليها ومن خلال هذا الانتماء القوي جاءت ألحانه لـ«شادية» قوية، عميقة التفكير ومن هنا يختلط علي البعض الأمر، وهل تعدو هذه الألحان من التراث الفولكلوري أم من إبداعات محمود الشريف النابعة من موهبته ومن التصاقه بالوجدان النغمي الأصيل. قدمت شادية من ألحان محمود الشريف «حسن يا خولي الجنينة» ـ «ليالي العمر معدودة» ـ «حبينا بعضنا» ـ «شبكت قلبي والقلب غالي» ـ «يا بنت بلدي زعيمنا قال قومي وجاهدي ويا الرجال».

ومع الملحن الكبير منير مراد كان لـ«شادية» نجاحات صريحة مثلت لونا فريدا في غناء السينما فقد تميزت ألحانه بسرعة الإيقاعات وخفة الظل وجودة التكوين، لأنه يمزج أجمل ما في اللحن العربي الشرقي بأقرب ما في الأشكال العالمية الحديثة من ملامسة للشجن الغنائي العربي ومن بين ما قدمه منير مراد لـ«شادية» ثنائياتها مع عبدالحليم حافظ «تعالي أقولك» ـ «حاجة غريبة» ـ «إحنا كنا فين»، وأيضا ما قدمته من أغنيات مرحة متفائلة مثل «واحد.. اثنين» ـ «يا سارق من عيني النوم» ـ «النجاح.. آلو.. آلو» ـ «القلب معاك» ـ «حبيبي أهه» ـ «وعد ومكتوب»، وحتي الأغنية الناضجة المعبرة «إن راح منك يا عين».

وكان هناك خط لحني آخر في بدايات شادية مع الملحن الكبير أحمد صدقي الذي تميزت جملته اللحنية بالنعومة والحرص علي الأوزان والضروبات العربية الشرقية، وكان من أشهر ما قدمه لها أغنيات فيلم «بنت الجيران» وهي «إحنا في جنينة» ـ «اسم الله عليك» ـ «الشمس بانت من بعيد»، وفي عدد غير قليل آخر من أفلام البدايات قدمت العديد من ألحانه الجميلة.

وتأتي النجاحات التالية مع أهم فرسان اللحن العربي كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي، والبداية مع الموسيقار كمال الطويل الذي لحن لها في السينما أغنيات «قل ادعو الله» ـ «الظلم حرام» ـ «ماليش حد» ـ «ما أحلي الأمل» ـ «عجباني واحشته» ـ «وحياة عنيك وفداها عنيه»، ومن أجمل ما غنت في الحفلات العامة آخر ما قدمت من أغنيات عاطفية رائعة «رحلة العمر ابتدت».

أما الموسيقار محمد الموجي فقدمت شادية من ألحانه «شباكنا ستايره حرير» ـ «يا قلبي سيبك» ـ «انت أول حب» ـ «التليفون» ـ «مين قالك» ـ «قاللي الوداع» ـ «غاب القمر يا ابن عمي» ـ «أحلف ما كلمته».

وقبل أن تلتقي شادية بألحان بليغ حمدي الذي يعود إليه الفضل في إقناعها للعودة للغناء بعد فترة انقطاع استمرت نحو خمس سنوات تفرغت فيها للتمثيل دون غناء في السينما، وقدمت خلالها باقة من أروع أفلام سينما الستينيات غنت شادية للموسيقار العملاق رياض السنباطي ألحان أفلامها «ليلة من عمري» ـ «أقوي من الحب» ـ «لحن الوفاء» ومن ألحانه قدمت «غني لي لحن الوفاء» ـ «تلات شهور ويومين اتنين» ـ «سبحان الله» ـ «أحب الوشوشة» ـ «إحنا في الدنيا ولا في الجنة» ـ «سبع سواقي» ـ «الله أكبر»، ثم كان تتويج اللقاءات المشتركة بين حنجرة شادية الذهبية وأنغام المبدع الكبير رياض السنباطي في قصيدة «أغلي شعاع» شعر محمود حسن إسماعيل.

وتعد أغنية «آه يا أسمراني اللون» التي لحنها بليغ حمدي من كلمات الشاعر عبدالرحمن الأبنودي نقطة تحول مهمة في مشوار شادية الغنائي مهدت للتطور الذي طرأ علي صوتها والنضج الذي صحبه بعدما فارق صوتها رنة التعبير الطفولي وحدة صوت الصبايا ليصبح الصوت أكثر تركيزا وأعمق إحساسا وأكثر قدرة علي خوض آفاق الأداء الصعب، بعدها جاءت الأغنية أو العلامة الفارقة «قولوا لعين الشمس»، من كلمات شاعر العامية مجدي نجيب، والتي لحنها بليغ حمدي مستلهما هذه الجملة الفولكورية البديعة وبها مد الجسور بين الغناء الحديث والموروث الجميل.

تنوعت لقاءات شادية مع بليغ حمدي وكان من بينها أغنيات «مكسوفة» ـ «أنا عندي مشكلة» ـ «خدني معاك» ـ «عالي.. عالي» ـ «أحلي ليلة» ـ «ليلة سهر»، وهذا الفيض الغزير من أغنيات حب الوطن التي تمتزج فيها المشاعر العامة بالمشاعر الخاصة وتقدم أنبل أغنيات حب الوطن مثل أغنية «يا حبيبتي يا مصر» تأليف محمد حمزة ـ «يا أم الصابرين» كلمات عبدالرحيم منصور، الذي كتب أيضا كلمات أغنية «عبرنا الهزيمة» وأغنية «ادخلوها سالمين» كلمات إبراهيم موسي، ومن خلال هذه الأغنيات قدمت شادية الغناء القومي في إطار من التوازن والاعتدال وعمق المشاعر، وبعيدا عن الصراخ والزعيق والعويل ورفع الشعارات التي ربما كانت نكبة علي الغناء مثلما كانت نكبة علي الوطن أيضا.

غنت شادية لأهم فرسان اللحن العربي وأيضا لأهم كتاب الأغنية أمثال مرسي جميل عزيز ومأمون الشناوي وفتحي قورة وحسين السيد ومحمد علي أحمد وعبدالفتاح مصطفي وعبدالوهاب محمد وعبدالرحمن الأبنودي ومجدي نجيب وصلاح فايز وسيد مرسي ومحمد حمزة وعبدالرحيم منصور ومحسن الخياط، وأبو السعود الإبياري وكمال منصور وغيرهم، كما قدمت أغنيات لشعراء الفصحي أمثال محمود حسن إسماعيل «النور الخالد».

ظلت شادية ولم تزل صاحبة اسم جميل وتاريخ فني مشرف وسمعة طيبة، وصحبة حلوة فلم يعرف عنها يوما أنها دخلت في خصومة فنية أو غير فنية مع غيرها وصدق فيها وصف الشاعر الكبير كامل الشناوي «إنها أطيب من عرفت ممن عملوا بالفن».

ورغم النجاح الكبير ورغم الحب الجارف للناس تجاهها لم تكن مسيرة شادية خالية من بعض الصعوبات والآلام، فالنجاح عندها لازمه بعض الألم، وهذه سنة الحياة ممتعة أحيانا وعذاب في أحيان أخري، وقد كانت جرعات الألم التي تجرعتها شادية، فقد تمنت الاستقرار في حياة زوجية لكن هذا الحلم اصطدم بتناقضات الواقع وصخور الإحباط فتناثرت أشلاؤه، وتمنت أن تكون أما ولكن هذا الأمل كان يقترب من التحقيق، ومن ثم يبتعد وعلي طريق اللاعودة، لكن شادية كان لها إصرارها علي تعويض أبناء شقيقها الراحل حنان الأم الغائبة عنهم، فكانت لهم نعم الأم ونعم المربي أيضا.

صنعت شادية بالتغلب علي جرعات الألم التي واجهتها بالإيمان وبالإرادة عملا طيبا باقيا. لقد لازمت شادية خلال رحلتها مع الفن شائعات عارية تماما من المصداقية، وهي شائعات يغرم بإطلاقها البعض من مشوهي المشاعر مممن يستكثرون علي هذه النجمة المحبوبة والعاشقة للعطاء والمخلصة لفنها والمؤمنة بجماليات روح الزمالة، هذا النجاح وذاك التألق الذي لم يأت في غير موضعه لأنه نجاح الموهبة والمعاناة والثقافة والصدق، وحتي اليوم وحتي بعدما هجرت الأضواء بإرادتها تودعها عواصف التصفيق والإعجاب، نجد من لا يرحمون شادية ولا عشاق فنها من الشائعات، ويستكثرون عليها أن تعيش حياتها الجديدة في رضا ووداعة وراحة بال.

ولأن العمل الطيب لا ينقطع ولا يغيب، فإن لـ «شادية» مكانة ولم تزل في سويداء قلوب من يحبون الفن ومن يقدرون أصحابه.

جريدة القاهرة في  16 مارس 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

مي المصري.. اطفال المخيمات اصبحوا يحلمون بالحب والسينما

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

"معبودة الجماهير"

شادية.. دائماً

محمد سعيد