علي عكس ما نراه منها في عشرات الأفلام التي مازالت تأخذ اهتمامنا الدائم علي شاشات المحطات الفضائية بلا استثناء.. العانس التي تذوب شوقاً إلي زوج تضع عليه يديها، وهي من أجل هذا تفعل أي شيء، وتبتكر في افتعال التصرفات الكاراكتارية والعبارات اللافتة والأزياء الغريبة، مما يجعلها «مضحكة» فوق العادة.. هي حقاً عانس، لكن باختيارها، هربت بأعجوبة من زوجين، في مرحلتي الشباب ومنتصف العمر، وفضلت أن تحول عنوستها الفنية إلي واقع عايشته حتي آخر العمر. لم ألحق عالم نجيب الريحاني، ولم أدخله إلا في العامين الأخيرين من عمره، وعمر مسرحه في تلك الفترة التي كانت كوهج الشمعة التي تعطي البريق الأخير من عمرها، ومع هذا فقد كانت واعيتي تعب من كل شيء، من عبقرية ذلك الذي صنع مدرسة الكوميديا الإنسانية الاجتماعية التي تضع الإنسان الغلبان في مقدمة اهتماماتها وهمومها، وتعالج الظروف المأساوية المحيطة به في نقد اجتماعي لاذع، يكتسب أحياناً استهداف الإضحاك ولكن يؤرق ويدفع إلي التفكير في عمق.. كان الريحاني في مسرحه «منارة» تسطع أضواؤها، وتسقط في تجوالها علي كل من حوله من نجوم وما أكثرهم: ماري منيب وزوزو وميمي شكيب وعباس فارس وحسن فايق ومحمد كمال المصري «شرفنطح» ومحمد الديب وفهمي أمان وجيل شاب مثل: سعاد حسين وزينات صدقي ونجوي سالم ونبيلة السيد.. عالم الريحاني ودنيا الريحاني، دخلته بعيون أساتذة لي أفاضل مثل ولي الدين سامح أستاذ الفنون الجميلة الذي تحول إلي مخرج قدم الريحاني في أول أفلامه «لعبة الست».. ونقله إلي مساره الطبيعي ليترك تاريخاً سينمائياً بأفلام «سي عمر» و«سلامة في خير» و«أحمر شفايف» وغيرها، وميزته الأولي هي أنه كان يحرص علي أن يحيط به نجوم مسرحه وكأنه يخرج بهذا المسرح إلي السينما كاملاً غير منقوص.. المرة الوحيدة، التي أتيح لي فيها أن أعايشه وهو يعمل أمام الكاميرا كان يمثل آخر أفلامه «غزل البنات» الذي أخرجه أنور وجدي ولم يعش الريحاني حتي يراه معروضاً علي الشاشة.. وكانت تحيط به وببطلته ليلي مراد كوكبة من النجوم.. سليمان نجيب وعبدالوارث عسر ويوسف وهبي ومحمود المليجي وستيفان روستي، بل وأنور وجدي وعبدالوهاب نفسه الذي أصر أنور وجدي أن يدعم به الفيلم في لقطة يقدم فيها أغنية «عاشق الروح» أضافها بعد رحيل الريحاني. استوقفتني في «غزل البنات» زينات صدقي، علي الرغم من أنها مثلت مشهداً واحداً لم يستغرق تصويره غير ساعات، مشهد غناء ليلي مراد لأغنية «ماليش أمل في الدنيا دي.. غير إني أشوفك متهني»، وهي ترقص رقصة فالس حالمة علي ذراعي محمود المليجي الذي كان قد قادها إلي كباريه لكي يبتزها ويحصل علي أموال والدها الباشا سليمان نجيب.. كان المليجي فرداً في عصابة، وكان من أفرادها ستيفان روستي وزينات صدقي.. وطوال الرقصة والأغنية، كانت زينات تلوك بين أسنانها «لبانة» تفرغ في مضغها ثورتها، وتنفجر هذه الثورة عبارات نهارية مأثورة عنها: آه يا ناري.. كل دا بفلوسي أنا.. الشياكة دي كلها أنا اللي جايباها.. سيبوني أروح أقبض زمارة رقابته. ويمد ستيفان روستي يده إلي فكي زينات فيوقف حركتهما وهو يخاطب المليجي: «اشتغل يا أنور.. اشتغل يا أخويا اشتغل». وعلي الرغم من أن المشهد لم يكن إلا ومضات قليلة، في لقطات الأغنية، إلا أن زينات كانت علي قصره تسجل لنفسها حضوراً لا يمكن أن يخطئه أو يتخطاه من يشاهد الفيلم.. وكان أنور وجدي بفراسته وفطنته يدرك أن زينات صدقي هي الوحيدة التي يمكن أن تؤديه بتأثير كامل. بعدها أصبحت زبوناً دائماً مدمناً لرؤية زينات صدقي.. هجرت المسرح حداداً علي رحيل أستاذها الريحاني.. وبقيت تحبس نفسها سنوات بين جدران البيت، لا تخرج إلا لدور تمثله في فيلم من الأفلام، وزاملت في بعضها النجم الضاحك إسماعيل يس، الذي أصر علي أن تعود إلي المسرح عندما كون فرقته المسرحية مع أبوالسعود الإبياري، ونجح هو والإبياري بالفعل في ضمها إلي الفرقة.. لتصبح «الفلة» ذات العبير المشع أريجاً ومرحاً وابتسامة في جو أي مسرحية.. كنت، رغم فارق السن قريباً جداً من المخرج حلمي حليم، وكنت صديق دراسة لأخيه أسعد حليم، وعاصرت حلمي في بدايته في أول مؤسسة قومية للسينما وهي «ستوديو مصر».. حيث عمل مديراً لإنتاج الاستوديو، وكان حلمي يتميز بفهم عميق للدراما، وكان بحكم تطوره الفني يسير إلي طريق الإخراج، بل إنه بدأ بكتابة الفكرة السينمائية لفيلم «صراع في الوادي» الذي أخرجه يوسف شاهين، وقدم فيه لأول مرة عمر الشريف في بطولة مطلقة أمام فاتن حمامة، كانت فاتن حمامة تثق في فهم حلمي حليم للدراما إلي أبعد الحدود، وعندما قدم إليها سيناريو أول فيلم ينتجه ويخرجه وهو «أيامنا الحلوة» راهنت عليه بأجرها لدي الاستوديو وقبلت ألا تتقاضي أجراً إلا بعد عرض الفيلم.. كان حلمي قد اختار عمر الشريف ليجمع بينه وبين فاتن حمامة للمرة الثانية، وكانت هناك إرهاصة حب يطرق قلب فاتن وعمر قد بدأت تتردد في الوسط، وعندما بدأت زياراتي اليومية للبلاتوه وحلمي يخرج فيلمه.. توطدت صلتي وصداقتي بالمجموعة.. كنت أعرف عبدالحليم حافظ، وأعشق صوته وأتشيع له، رغم أن حلمي رفلة كان قد أجري له اختباراً سينمائياً بناء علي طلب عبدالوهاب، وقال إنه لا يصلح للسينما لأنه يغلق عينيه وهو يغني.. ولعبت دوراً مع الصديق الراحل مرسي جميل عزيز، في إقناع حلمي حليم بأن يعطيه دور الفلاح القادم من القرية بجوار النجم الذي قدمه لأول مرة أيضاً أحمد رمزي.. جو العمل في الفيلم كان مرحاً مليئاً بالمشاعر الحلوة، خاصة من سيدة السطوح ذات القلب الذهبي زينات صدقي، التي فرضت علي فتاة الملجأ فاتن حمامة أمومتها الدافئة منذ أجرت لها حجرة السطوح، في هذه الفترة عرفت زينات صدقي عن قرب، وخبرت كل صفاتها النادرة كفنانة وإنسانة.. كان وجهها يشع بمسحة جمال، وكانت توزع فرحها وتفاؤلها الدائم علي من حولها بلا استثناء.. لا فرق بين فاتن وزكي رستم، ولا زهرة العلا أو عزيزة حلمي.. وكانت تلعب دور الأم الحكيمة - علي الطبيعة - للثلاثة عمر الشريف وأحمد رمزي وعبد الحليم حافظ، وتثور لشقاوتهم وترقص علي نغمات عبدالحليم بالشوكة والسكين وصينية البطاطس التي أصرت علي طهوها في البيت وتأتي بها إلي البلاتوه، وكانت تلك مهمة مقدسة عند زينات تأتي إلي البلاتوه محملة بأطايب الطعام، و«أجزخانة» كاملة من الدواء، ودولاب كامل من الملابس التي تفصلها بيديها وتتفنن في لبس أنواع من القبعات تحملها بثمار الفواكه وكأنما هي بارونة إيطالية.. وتعودت علي تواجد زينات صدقي في بلاتوهات الاستوديوهات.. فبعد «أيامنا الحلوة» أصبحت زينات فاسوخة السينما المصرية، وقاسما أعظم في أفلام «شارع الحب» و«ابن حميدو» و«حلاق السيدات» و«القلب له أحكام».. وكانت كما قلت دائماً ذات قلب من ذهب، وتمارس فنها بحب وإيثار وتعيش كل حياتها داخل البلاتوه وفي أروقة الاستوديوهات. ماذا يبقي من زينات صدقي، حبيبة قلب الريحاني ـ ذات العينين الخضراوين والقلب الذهبي؟! أذكر عندما أنعم عليها الرئيس الراحل أنور السادات في أوائل السبعينيات، بوسام العلوم والفنون وبحث عنها الفنان الكبير يوسف وهبي ليبلغها بالنبأ ويعلنها بموعد الحفل، ترددت في الذهاب، فلم يكن عندها الثوب المناسب للحضور به في الحفل، وخجلت أن تقول هذا ليوسف وهبي، وكانت منذ منتصف الستينيات شبه معتزلة لا يطرق بابها طارق يدعوها لعمل فني، وشعر يوسف وهبي بما تعانيه، فتولي علاج المشكلة بكياسة. كانت زينات صدقي واسمها الحقيقي «زينب محمد سعد» مولودة في الإسكندرية عام 1912، وكانت منذ طفولتها مولعة بالتقليد ومحاكاة الأشخاص المحيطين بها، وكانت تشجعها صديقة لها هي خيرية صدقي، وذهبتا معا إلي معهد أنصار التمثيل والسينما الذي أسسه زكي طليمات في الإسكندرية، وكان المعهد يدفع مكافأة شهرية لطلابه، واعترضت أسرتها علي أن تحترف التمثيل، ولهذا لم تستمر في المعهد، بل أرغمت علي الزواج، وهي في سن السادسة عشرة من أحد أقاربها وكان طبيباً، لكن زيجتها لم تستمر طويلاً، ورحلت مع أمها وزميلتها خيرية صدقي إلي بر الشام بحثاً عن فرصة العمل كمطربة وغنت بالفعل أغنية مطلعها: أنا زينات المصرية.. أرتست لكن فنية أغني وأتسلطن يا عنيه.. ده أنا زينات المصرية وفي رحلتها تلك تعرفت إلي الفنانة بديعة مصابني، وكانت زوجة نجيب الريحاني وضمتها للعمل مع فرقتها، لكنها لم تلبث أن تركت الفرقة بعد 18 يوماً فقط، إذ لم تشعر بأنها يمكن أن تكون واحدة من مغنيات فرقة بديعة الراقصات. انتقلت «زينب»، لتلتحق بفرقة السينما، لتمثيل دور خادمة خفيفة الظل، وكانت مجرد «كومبارس» تعمل بأجر لا يتجاوز 8 جنيهات، وكانت لا تبتعد أبداً عن كواليس المسرح، تراقب الممثلات في عملهن وتحفظ أدوارهن عن ظهر قلب، وذات يوم تخلفت واحدة من ممثلات الفرقة عن الحضور، فقدمت زينات دورها كأحسن ما يكون، حتي حازت إعجاب الجمهور، وفوجئت بالريحاني يستعيدها في نهاية المسرحية «إنت هنا ومستخبية عني» وبادرته بلهجتها التي تميزت بها فيما توالي من أيام: «أنا تحت أمرك يا أستاذ». وبدأ مشوارها مع الريحاني.. هو الذي استبدل لها اسم «زينب» باسم «زينات» وأضافت هي إليه لقب صديقة طفولتها خيرية صدقي فأصبحت تحمل اسم «زينات صدقي». وعندما أصابت بعض الشهرة، تزوجت للمرة الثانية، لواء في الجيش، هذه المرة، لكنه كره أن تعيش معها أمها وطلقته لأنها تمسكت بألا تفترق عن أمها، فطوال عمرها آمنت بأن الأم هي كل شيء في حياتها، وعندما رحلت أمها عن هذا العالم، كانت تؤدي أحد أدوار البطولة في مسرحية لفرقة إسماعيل يس، وفي المساء رفضت أن يذهب رسول إلي المسرح لكي يعتذر عن ظهورها، وقالت: «ليس للجمهور ذنب، فالحزن حزني أنا».. وفي نهاية العرض، استبقي بطله إسماعيل يس الجمهور وخرج ممسكاً بيد زينات ليقول: إن هذه الفنانة الكبيرة التي أسعدتكم بفنها، فعلت هذا وقلبها يتمزق حزناً لوفاة والدتها في الصباح، وصفقت الجماهير طويلاً إلي درجة أبكت زينات علي المسرح. كان الريحاني هو أستاذها الأول، وعلي مسرحه ذاقت طعم الشهرة، وعندما رحل في أوائل الخمسينيات دفعها حزنها عليه إلي مقاطعة المسرح، إلي أن استطاع الراحل الأستاذ أبوالسعود الإبياري والفنان الضاحك إسماعيل ياسين إقناعها بالانضمام إلي فرقتهما عام 1953. ومثلت زينات صدقي، أدوار العانس الباحثة عن زوج، والخادمة خفيفة الظل، والزوجة المستبدة التي تعيدها صفقة الزوج إلي رشدها في أكثر من 150 فيلماً، وكانت تفجر نهراً من الضحك في نفوس المتفرجين، وكانت ميالة إلي الابتكار في الصورة التي تبدو فيها أمام الجمهور دائماً، بملابس غريبة الطراز تفصلها بيديها، أو قبعات مزركشة بالطيور وثمار الفاكهة ولا أنسي أول يوم لظهورها في فيلم الراحل عزالدين ذوالفقار «شارع الحب» وكانت تمثل دور صاحبة البيت والمقهي الذي تتجمع فيه فرقة «حسب الله»، وكانت تحمل اسم «ترتر» وتموت غراماً في حب حسب الله «عبدالسلام النابلسي» وتتقلب في فراشها لوعة إليه.. وفوجئ عزالدين ذوالفقار بزينات تحمل معها من البيت وسادة طرزت عليها اسم «الوسادة الخالية» لتحتضنها وهي تمثل لوعة الغرام بالنابلسي. كانت «الفاكهة» الحلوة التي يلجأ إلي تقديمها مخرجو الدراما الباكية الكبار للتخفيف من حدة الحزن وشحنته، هكذا كانت زينات صدقي منذ قدمها علي الشاشة لأول مرة العبقري كمال سليم في فيلم «وراء الستار» مع رجاء عبده وعبدالسلام النابلسي الذي أعطاها البطولة السينمائية الوحيدة في فيلم أنتجه هو «حلاق السيدات» وكان قمة أدوارها الضاحكة أمام إسماعيل يس في «الآنسة حنفي» و«دهب» و«إسماعيل يس في حديقة الحيوان» وكانت صاحبة الإطلالة الضاحكة في أفلام مثل «ظلموني الحبايب» لعماد حمدي وصباح، و«ظلموني الناس» أمام فاتن حمامة وأنور وجدي، و«إني راحلة» لمديحة يسري وعماد حمدي. جريدة القاهرة في 16 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"زينات صدقي" عانس بعينين خضراوين وقلب من ذهب! عبد النور خليل |
|