ترجع بنا قصة فيلم «ابتسامة موناليزا» نصف قرن الى الوراء، وبالتحديد الى العام 1953 في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تصطدم الأفكار التقدمية مع التمسك بالتقاليد، أما المكان فهو كلية ويلسلي للبنات، وهي كلية عريقة ومحافظة تقع في ولاية ماسا شوسيتس، حيث تجابه رياح التغيير والدعوة الى المساواة بين الجنسين معارضة التقليديين. في هذه الخلفية تقع أحداث فيلم «ابتسامة موناليزا» مع وصول الاستاذة الجامعية كاثرين واتسون «الممثلة جوليا روبرتس» المتخصصة في تاريخ الفن والمتخرجة حديثا من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، أحد المراكز الريادية الاميركية في حركة التحرر، الى حرم كلية ويلسلي الواقع في بيئة محافظة على الجانب الآخر للولايات المتحدة. ولكن هذه الاستاذة العصرية التقدمية تصاب بالصدمة حين تكتشف ان طالباتها ينظرن الى دراستهن الجامعية كما تنظر اليها ادارة الجامعة ومجتمعهن المحافظ بوصفها متطلبات للحياة الزوجية الناجحة. وتعبر الاستاذة عن مشاعرها ازاء ذلك في احد لقاءاتها حين تقول، «كنت أعتقد أنني قادمة الى مكان يخرج زعماء الغد وليس زوجاتهم». كما تقول في مناسبة أخرى ان كلية ويلسلي ليست سوى مدرسة بنات تؤكد على الدراسات الثقافية وتعد الطالبات للنشاطات الاجتماعية ولكنها تتظاهر بأنها كلية. وتؤكد إدارة الكلية انها تعتز بتميزها الاكاديمي، ولكنها تذكر طالباتها أيضا بأن «مسؤوليتكن الوحيدة بعد بضع سنوات من الآن هي العناية بأزواجكن وأطفالكن» فلا غرابة إذن ان الكلية تضم في منهاجها الدراسي مساقات في آداب المشي والجلوس والتحدث واعداد الطالبات كسيدات مجتمع وزوجات وأمهات صالحات، ونجد ان الاستاذة التي تعلم هذه المساقات «الممثلة مارشا جاي هاردين» تأخذ ذلك مأخذ الجد التام. وهكذا تجد الاستاذة الجديدة نفسها أمام تحد كبير يتمثل في محاربة المعتقدات والتقاليد القديمة لكي تفتح عقول طالباتها على آفاق جديدة وعلى مستقبل ليس من الضروري ان يكون الزواج ركنه الاساسي. وتجد أنهن مجموعة من الطلالبات اللواتي اعتدن على حفظ المواد دون النظر الى الابعاد الفنية الاساسية في عملية تقييم خروج الأعمال الفنية الى النور، حين يتعرفن في أول لقاء لها معهن في غرفة الصف على كل ما تعرضه عليهن عن تاريخ الفن، ويقمن باحراجها أمام المراقب الذي يقوم بتقييم أدائها. ويثير ذلك دهشتها ويشعرها بأنها ربما كانت لا تقدم لهن شيئا جديدا. وتذكرها ممرضة الكلية بأن هؤلاء الطالبات «يخفين مخالب حادة تحت قفازاتهن البيضاء» وعندئذ تدرك ان عليها ان تنحى منحى جديدا في المنهاج الدراسي مبنيا على إثارة الاسئلة والتفكير الناقد، مثل: ما هو الفن؟ وهل هو شيء صالح ام سيء/ وما هي المعايير الواجب استخدامها للإجابة على مثل هذه الاسئلة؟ كما تدخلهن الى عالم الفن التعبيري الحديث الذي لا يعرفن عنه الكثير. وتواجه الاستاذة المجددة معارضة مجلس امناء الجامعة الذي ينظر اليها والى الفن الحديث بعين الشك كما ينظر الى اي شيء يحمل في طياته ما يعتبره بوادر «التخريب». وتقود المعارضة ضد الاستاذة الجديدة بين طالباتها طالبة ثرية تدعي بيتي «الممثلة كيرستين دانست» التي تستمد بعض نفوذها من عضوية والدتها في مجلس الأمناء، كما تستخدم مقالاتها الافتتاحية التحريضية في صحيفة الكلية لاتهام الاستاذة الجديدة بأنها تحاول ان تسيطر على عقول طالباتها وتقودهن نحو الفكر الشيوعي والتفسخ الخلقي، ويؤدي احد مقالاتها السليطة الى طرد ممرضة الكلية «الممثلة جولييت ستيفينسون» بسبب قيامها بتوزيع حبوب منع الحمل على الطالبات قبل ان يكون ذلك قانونيا في ولاية ماساشوسيتس، وتسعى هذه الطالبة من جانبها للبحث عن الزوج المثالي بين خريجي طلاب الجامعات التقليدية العريقة وينتهي زواجها بالفشل. كما تضم قائمة الطالبات المتمردات الطالبة جون «الممثلة جوليا ستايلز» وهي طالبة متفوقة تتردد بين مواصلة دراسة الحقوق بجامعة بيل الشهيرة وبين الحياة كزوجة لطالب يواصل دراساته العليا، والطالبة جيزيل «الممثلة ماجي جايلينهال» وهي شابة متحررة تربطها علاقة غرامية بأستاذ اللغة الايطالية «الممثل دومينيك ويست»، وكوني «الممثلة جينيفر جودوين» وهي عازفة موهوبة على آلة الكمان الكبيرة تستبد بها فكرة البحث عن فتى أحلامها. وترى الطالبات الاربع في أحد المشاهد خارج غرفة الصف يتحدثن عن أستاذتهن الجديدة باستغراب لأنها ليست متزوجة، ويتحول أسلوب حياتها الى هدف للاشاعات في الكلية. ولكن رغم كل الصعوبات التي تواجهها هذه الاستاذة الجديدة، فهي تتمكن بفضل مثابرتها وتحديها لإدارة الكلية وعدم استسلامها لليأس من التأثير ايجابيا في حياة طالباتها اللاتي يستجبن في نهاية المطاف، الواحدة بعد الأخرى، في مرافقتها في رحلة البحث عن الذات. وفي النهاية، تفاجأ الاستاذة الجامعية نفسها بمدى تأثيرها على طالباتها. الا أن كاتبي قصة وسيناريو فيلم «ابتسامة موناليزا» لورنس كونر ومارك روزنثال يتجنبان تقديم حلول نهائية للقضايا التي تواجه شخصيات الفيلم، بل يتركان تلك الشخصيات تواجه مستقبلا مجهولا. ومن الأمثلة على ذلك ان بيتي الجريئة تحاول مقاومة مفهوم التغيير وحماية نفسها عن طريق زواج تقليدي من شاب من خريجي جامعة هارفارد الشهيرة، ثم تكتشف أنه رجل وغد يخونها، ثم تتحدى بيتي والدتها التي تعيش حياة زيف ونفاق في مجتمع لا يهمه سوى المظاهر وتطلق من زوجها المخادع وتبدأ حياة جديدة مع احدى زميلاتها في مدينة نيويورك، كما أنها تصبح أكثر من يتأثر بشخصية الاستاذة التي سبق ان قامت بتحديها والتشهير بها. أما جون الطالبة المتفوقة فتقرر التخلي عن فكرة مواصلة دراسة القانون بجامعة بيل رغم كل التشجيع الذي لقيته من استاذتها الوفية لتتحول الى ربة بيت وزوجة لطالب يواصل دراساته العليا. وتكتشف الاستاذة ان بإمكانها ان تقود حصانا الى النبع، ولكنها لا تستطيع ان ترغمه على الشرب. وقد استوحى الكاتبان السينمائيان لورنس كونر ومارك روزنثال قصة فيلم «ابتسامة موناليزا» من مقال نشرته هيلاري رودهام كلينتون، زوجة الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون، وعضو مجلس الشيوخ الاميركي الحالية عن ولاية نيويورك، حول خبرتها في كلية ويلسلي التي درست فيها خلال فترة الستينات من القرن الماضي، الا أن الكاتبين ارجعا عقارب الساعة في قصة الفيلم الى فترة الخمسينات. وقد استلهم الكاتبان عنوان الفيلم «ابتسامة موناليزا» من حديث جربى بين الطالبة بيتي ووالدتها يظهر تأثرها بأستاذتها حين تقارن بيتي تظاهرها بالسعادة مع زوجها الخائن بابتسامة موناليزا في لوحة ليوناردو ديفنشي الشهيرة، وتسأل والدتها عما اذا كانت موناليزا تبتسم تعبيرا عن احساسها بالبهجة والسعادة، أم لأنها كانت مطالبة ومفروض عليها إظهار مثل هذه الابتسامة. ويتميز اخراج فيلم «ابتسامة موناليزا» على يد المخرج البريطاني مايك نيويل بمساحة الأداء التي يتيحها لبطلات فيلمه النسائي. ولا يقتصر ذلك على بطلة الفيلم جوليا روبرتس، النجمة السينمائية رقم واحد في العالم، بل يشمل ايضا مجموعة الممثلات اللواتي يقمن بالأدوار المساندة في الفيلم، واللواتي يجمعن بين عدد من أقدر الممثلات الصاعدات في هوليوود، ما يتميز الاخراج بتطوير الشخصيات الرئيسية في الفيلم، وهي من سمات أفلام المخرج مايك نيويل الذي قدم عددا من الأفلام الدرامية التي تزخر بالشخصيات التي لا تخلو من العيوب، والتي يتعين عليها ان تواجه مشاكلها وتحدد أولوياتها، وتتميز أفلام هذا المخرج عادة بقوة أداء بطلات أفلامه، ويقدم فيلم «ابتسامة موناليزا» مثلا جيدا على ذلك، كما يبدو في الأداء المميز لممثلات الفيلم الرئيسيات، بدون استثناء. وينضم المخرج مايك نيويل، الذي اثبت مكانته كمخرج تلفزيوني ومسرحي ثم كسينمائي في بريطانيا، قبل إثبات وجوده في الولايات المتحدة، الى القائمة الطويلة للمخرجين الأجانب الذين نجحوا على مر السنين في تقديم أفلام اميركية الطابع بعد انتقالهم الى الولايات المتحدة. وينجح مايك نيويل في فيلم «ابتسامة موناليزا» في تقديم صورة واقعية للحياة في الولايات المتحدة كما كانت في أوائل فترة الخمسينات من القرن الماضي، يساعده في ذلك التصوير الرائع للفيلم على يد المصور أناستاس ميكوس، وتصميم الأزياء التقليدية على يد مصمم الأزياء مايكل دنيسون، واستخدام مجموعة من أجمل أغاني فترة الخمسينات في خلفية الفيلم. كما ينضم فيلم «ابتسامة موناليزا» الى عدد من المعالم السينمائية التي عالجت موضوع المعلم او المعلمة التي تغير حياة طلابها، ومن أشهر هذه الأفلام فيلما «وداعا يا مستر تشيبس» (1939) و (1969) وفيلم «آلى سيدي، مع حبي» (1967) وفيلم «ريعان الآنسة جين برودي» (1969)، وفيلم «جمعية الشعراء الموتى» (1989). والفيلم الأخير هو الأقرب الى فيلم «ابتسامة موناليزا» من حيث مضمون القصة والموقع الجغرافي والمرحلة الزمنية، وذلك رغم الفارق بين الفيلمين، كون الفيلم الثاني فيلما نسائيا يؤكد على حقوق المرأة قبل نصف قرن. وقد تحدثت النجمة السينمائية جوليا روبرتس في مقابلة أجريت معها في الآونة الأخيرة عن رسالة الفيلم المتعلقة بدور المرأة في المجتمع فقالت «ان من الممكن للمرأة ان تتزوج وتصبح ربة بيت وترزق بأطفال. ولكن ليس هذا هو خيارها الوحيد. وهذا هو ما أمل ان تفكر فيه الفتيات اللواتي يشاهدن هذا الفيلم، وهو ان يقدرن حريتهن وفرص العمل المتاحة لهن وارتداء البلو جينز، وان يقدرن الصعوبة التي واجهتها اجيال من النساء اللواتي قمن بالسير على الدرب قبلهن». ويذكر ان تكاليف فيلم «ابتسامة موناليزا» بلغت 65 مليون دولار. وقد حقق الفيلم نجاحا معتدلا نسبيا على شباك التذاكر. فقد بلغت ايراداته في صالات العرض الاميركية 64 مليون دولار، وبلغت ايراداته العالمية الاجمالية حتى الآن 108 ملايين دولار. _____________________ * ناقد سينمائي اردني الرأي الأردنية في 13 مارس 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
"ابتسامة الموناليزا" رحلة نحو إكتشاف الذات محمود الزواوي * |
|