اشتغلت السينما العالمية في كثير من الأعمال الدرامية على شبكة الانترنت وما حملته من تغيرات كبيرة على سلوك الأفراد والجماعات كتيمة جديدة عصرنت من خلالها قصص الحب والجريمة وأعطتها طابعاً متجدداً ومواكباً للواقع المحلي والعالمي. لكن السينما العربية بجناحيها المغاربي والمشرقي ظلت بعيدة من مواكبة ذاك التوجه واستثمار ولع الشباب العربي بالانترنت ومنتديات الحوار المنفتحة على العالم، بكل ما يحمله ذلك من إمكانات بناء قصص درامية تجمع بين الكوميديا والتراجيديا والحركة وغيرها من الأنواع السينمائية المتعارف عليها. والغريب أن استعمال الشبكة العنكبوتية أصبح من «الرياضات» المفضلة لدى شريحة مهمة من أبناء المجتمعات العربية من دون أن يثير ذلك اهتمام أو فضول العاملين في قطاع السينما والتلفزيون، إلا في استثناءات اتخذت الموضوع من وجهة نظر تحذيرية تعلقت في الغالب بتأثير الولوج إلى بعض المواقع الإباحية على تربية الناشئة في تجاهل تام للبحث عن تفسير الأسباب الكامنة وراء انجذاب الشباب إلى هذا الوافد الجديد.

«عندما أفتح جهاز الحاسوب، أحس وكأنني أستنشق هواء نقياً. وغير ذلك فأنا أختنق». هذه الجملة الواردة على لسان بو زيد (فوضيل)، الشخصية الرئيسية في فيلم «باب الويب» آخر أفلام الجزائري مرزاق علواش، تلخص ببلاغة لا يرقى الشك إليها الفلسفة العامة للشريط. فبو زيد مدمن نهم على منتديات الدردشة التي تسمح له، كغيره من شباب الجزائر، بالسفر بعيداً عن مشاكل ومحبطات الواقع المعيش، ولو لساعات يحقق من خلالها لحظات متعة حقيقية من الحرية، متخطياً بخياله كل حدود التأشيرات المفروضة على دول الجنوب ومواطنيها، وبهوية وشخصية يستطيع بناء أدق تفاصيلها من دون اعتبارات مادية أو معنوية أو جمالية محددة. وهذا ما تحقق لبو زيد في شكل دفعه لتوزيع دعوات الاستضافة في الجزائر لكل فتاة لاقاها على الشبكة حتى تورط ذات مساء رتيب بقبول لورانس، المواطنة الفرنسية، لدعوته.

الحلم الواقع

هنا أصبح الحلم التخييلي أمراً واقعاً وجب التعامل معه وفق حقائق ومعطيات الأرض المختلفة تماماً عن أكاذيب المنتديات السيبرنيتيكية. فمنزل أسرة بو زيد متواضع لا يسع وافداً جديداً يزاحمه ووالدته وشقيقته وشقيقه الأكبر، وهو ما يتطلب البحث عن خطة تجعل بعضاً من أفراد البيت يغادرونه ولو لأيام تكفيه لاستضافة الضيفة الفرنسية/ الحلم المحقق أخيراً. ولأن الشقيق ممتنع كلياً عن المغادرة وجه بو زيد اهتمامه إلى الوالدة والشقيقة مضحياً بكل ما وفره من مال لتغطية مصاريف زيارة مبرمجة لبيت العائلة في الريف الجزائري، وبعدها انطلقت رحلة تهيئة فضاء البيت ليلائم متطلبات وعادات لورانس الحياتية بما يستدعيه ذلك من مصاريف لا قدرة للأخوين على تحملها. لكن الحلول عند مرزاق علواش موجودة دوماً على رغم غرائبيتها، حيث أقحم في الأحداث شخصية الحاج ميلود، أحد أباطرة الأنشطة القذرة في الجزائر، الذي يقترح على كمال (سامي الناصري)، شقيق بو زيد، إشراك كبشه (الجابوني) في مباراة لصراع الخرفان دأب على تنظيمها وتزوير نتائجها للفوز بالرهانات.

وصلت لورانس إلى الجزائر واستقبلها الشقيقان بترحاب كبير انطلقت معه بوادر علاقة غرامية بينها وبين كمال على حساب بو زيد في قصة فرعية غير مقنعة درامياً. وبوصولها بدأنا نكتشف بعضاً من طبائع شخصيات الفيلم وتناقضاتها في إشارة واضحة لما يميز العلاقات الفرنسية - الجزائرية من تجاذبات وأطماع تختلف باختلاف المنطلقات والأهداف. فالجزائريون مثلاً مغرمون بمشاهدة القنوات الفرنسية كهروب من واقع صعب إلى فضاء أحلام الهجرة والعيش في أوروبا، وتلك إشارة سبق لمرزاق علواش تناولها في شريطه «أهلاً يا ابن العم»، وكأن الشريطين جزءان لعمل واحد في حقيقة الأمر.

أما بو زيد وكمال فأكثر ما يعانيانه في صمت يبقى أزمة هوية بالأساس في اعـتـبـار اضطـرارهما لمغـادرة فرنسا والاستـقرار في الجزائر نـتيـجة لرغـبـة مجنـونة لدى والدهما أفرزت في النهاية شخصيتين مهزوزتين لم تتأقلما مع مجتمع جزائري لا يزال ينعتهما بـ «المهاجرين»، وغير قادرتين على التواصل وجدانياً مع المجتمع الفرنسي الذي افتقدا، مع مرور الوقت، قيمه وأسسه المجتمعية باستثناء لغة فرنسية لا يستعملان غيرها في اختيار غير مفهوم لدى مخرج العمل. إذ لا يمكن التحجج بالاستعانة بنجوم من طينة الناصري وفوضيل وعدم قدرتهما على التواصل بلغة أهل البلد لتفسير هذا المعطى.

نهاية مفبركة

وتتطور الأحداث بتسارع بحثاً عن نهاية مفبركة جعلت لورانس حاملة لسر بحثها عن والدها الجزائري الهارب من بيت الزوجية في فرنسا من دون أدنى إقناع درامي بدوافع ذلك التصرف، خصوصاً مع البناء المهترئ لشخصية الأب الذي أراده المخرج زعيماً لمافيا جزائرية صورها الشريط كعصابة من الهواة لا ترقى أعمالهم حتى الى صف الجرائم العادية. وكان لا بد من، كأكثر أفلام مخرجينا المغتربين، أن يأتي الفرج من الخارج على يد لورانس التي تنقذ كمال من قبضة العصابة في الوقت الذي استسلم فيه الآخرون للأمر الواقع بكل انهزامية بعد أن رفض كمال تنفيذ أوامرها صيانة لكرامة مهدرة وماض مجيد لكبش آثر الاحتفاظ به على التضحية به يوم العيد. لقد حاول مرزاق علواش في «باب الويب» الاقتراب من شريحة الشباب الجزائري، لكنه افتقد في سعيه للعمق المفروض في التناول ما جعل فيلمه يتخندق في إطار سينما مهاجرة تحاول تحليل واقع محلي لا تراه إلا من خلال كليشيهات جاهزة لا تنفذ إلى الجوهر. هكذا رأينا مجتمعاً جزائرياً لا يتكلم غير الفرنسية، مهتماً بالمظاهر كما في حال الأخت التي تلبس غطاء رأس إرضاء للآخرين ولا تجد حرجاً في الجمع بين حبيبين تلتقيهما على حدة في مقابر المسيحيين واليهود باعتبارها أكثر المناطق الهادئة في الجزائر. الهدف المعلن هو الإفصاح عن التعايش الديني الذي استعادته الجزائر بعد سنوات حرب داخلية أتت على الأخضر واليابس، لكن الطريقة كانت ساذجة لا تتلاءم وقوة الموضوع. كما أن النجاح الكبير الذي لقيه الشريط السابق لمرزاق علواش « شوشو» كانت له آثار واضحة على جنوح المخرج إلى العمل على قصة كوميدية بسيطة طمعاً في نجاح مماثل حد الاستعانة بالممثل المغربي جاد المالح في مشهد أسقط بمظلة في أحداث الشريط لمجرد الإضحاك لا غير. المشهد نفسه عرف غناء فوضيل تحقيقاً للتوابل الضرورية في فيلم اعتمد على جمع مشاهد مستقلة لا رابط بينها بدل البحث عن حبكة مقنعة ومشوقة. لكننا نسجل في المقابل تفوق فوضيل في أداء دوره مقابل أداء باهت لسامي الناصري الذي أحسسناه غير مقتنع بما يقوم به أمام الكاميرا وكأنه راغب في إنهاء مشاهده كيفما اتفق.

للمرة الثالثة عاد مرزاق علواش للتصوير بحي باب الواد في العاصمة الجزائرية. كانت المرة الأولى سنة 1975 في شريط «عمر قتلاتو الرجلة»، والثانية سنة 1993 مع «باب الواد سيتي»، وفي المناسبتين كان اختياره للموضوع وكيفية المعالجة موفقاً وحاملاً للجديد. غير أنه حضر مع «باب الويب» سائحاً متفرجاً باحثاً عن الصورة الفولكلورية أكثر من بحثه عن نقل الواقع بأمانة على رغم بعض التلميحات إلى الفيضانات الكبرى، والزلزال الذي ضرب الحي، أو الى بقايا الفكر الأصولي التي لم تمح بعد وغيرها من الخطابات التي بدت مباشرة وغير ذات موضوع.

«باب الويب» شريط ساذج وبسيط لكنه ممتع من الناحية البصرية ولا يحتاج الى كثير علم وثقافة لفهم موضوع أحداثه وتتبع تواترها.

الحياة اللبنانية في 3 مارس 2006

 

«جبل بروكباك» على قمة جوائز «بافتا» السنوية

القاهرة - أيمن يوسف 

أقيم قبل ايام توزيع جوائز الـ «بافتا» (اختصار للحروف الأولى من الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون)، التي تمنح في بدايات كل عام جديد لأفضل الافلام التي عرضت في بريطانيا في العام الفائت ولممثلي هذه الافلام وسينمائييها وفنييها الذين قدموا اسهامات ملحوظة.

قبل التعرف إلى جوائز البافتا الخاصة بالافلام السينمائية من المهم أن نلقي نظرة سريعة على ترشيحات هذه الجوائز التي تؤكد أن الافلام الجيدة دائما ما تفرض نفسها بعيداً من أي أذواق شخصية أو محلية، وبغض النظر عن أي أبعاد جغرافية أو تحيزات قومية الا في ما ندر. والدليل على هذا ان معظم المهرجانات المنوطة بترشيح افضل اعمال العام المنصرم حمل عناوين افلام بعينها وأسماء ممثلين وسينمائيين بعينهم بدءاً من ترشيحات الغولدن غلوب (الكرة الذهبية) ومروراً بترشيحات الاوسكار وعدد من جمعيات النقاد السينمائيين وصولاً الى ترشيحات الاكاديمية البريطانية.

ففيلم مثل «جبل بروكباك» الذي يعد نجم مهرجانات وجوائز العام 2005 رشح لسبع جوائز غولدن غلوب (حاز 4 منها بالفعل)، وثمانية ترشيحات للاوسكار وتسعة ترشحيات لجوائز البافتا رغم التحفظات التي أثيرت حول قصته التي تحكي عن علاقة صداقة حميمة بين رجلين من رعاة البقر في ستينات القرن الماضي ورغم ضعف ايراداته في شباك التذاكر·

والأمر نفسه لا يبتعد كثيراً عن فيلم «كراش» الذي يتعاطى مع صراع الثقافات من خلال مواجهة عنيفة تحدث بين اقليات في لوس انجيليس، رشح لست جوائز اوسكار ووصل نصيبه من ترشيحات البافتا الى تسعة ترشيحات، او «مساء سعيد وحظ سعيد» الذي يدور حول فترة «المكارثية» المظلمة في تاريخ اميركا الحديث، والذي رشح لست جوائز اوسكار وايضاً لست جوائز من البافتا، وغيرها من الافلام التي حظيت بكم متماثل من الترشيحات من هنا وهناك مثل «كابوت»، و «مذكرات فتاة جيشا»، «سوْ على الخط» و «البستاني المخلص»·

الجوائز الانكليزية

اذاً، بعد انتزاع فيلم «جبل بروكباك» اربع جوائز غولدن غلوب، حصل على اربع جوائز ايضاً من جوائز البافتا في شباط (فبراير) الماضي ليحتل بذلك قمة جوائزها، فذهبت جائزة ديفيد لين الى آنغ لي عن أفضل ممثل مساعد للاميركي الصاعد جيك جيلنهال وافضل فيلم للعام 2005. أما فيلم «مذكرات فتاة جيشا» الذي يحكي عن طفلة تولد لاسرة يابانية فقيرة فتؤخذ منها وتربى في احد بيوت الجيشا لتصبح افضل فتاة جيشا تحلم الشخصيات المرموقة بلقائها، فقد جاء في المرتبة الثانية بعد حصوله على ثلاث جوائز لأفضل تصوير وافضل ملابس وافضل موسيقى للمبدع جون ويليامز الذي حصل عن الفيلم نفسه على جائزة غولدن غلوب في كانون الثاني (يناير) الماضي.

وحصل فيلم «كراش» على افضل سيناريو كتب للشاشة مباشرة وافضل ممثلة مساعدة لثاندي نيوتن، وبذلك يتساوى مع فيلم «سوْ على الخط» الذي حاز جائزتين ايضاً هما افضل صوت وافضل ممثلة لريس ويزرسبوون، ويأتي في ذيل قائمة جوائز البافتا كل من «كابوت» الذي حاز جائزة واحدة فقط لفيليب سميور هوفمان كأفضل ممثل، و «البستاني المخلص» الذي لم يحصل سوى على جائزة المونتاج·

جائزة افضل فيلم غير ناطق باللغة الانكليزية التي كان مرشحا لها الفيلم المغربي الفرنسي «الرحلة الكبرى» للمخرج اسماعيل فروخي ذهبت للفيلم الفرنسي «الدقة التي لم يدقها قلبي» الذي يعرض حيرة شاب في ان يختار إما أن يكون مثل ابيه الذي حقق ثروته بشيء من التحايل المنحرف أو أمه عازفة البيانو الرقيقة. رشح الفيلم لعشرة من جوائز من «سيزار» الفرنسية.

ولما كان من المتوقع ان تذهب جوائز المؤثرات البصرية والملابس والمكياج والاخراج الفني للأفلام التاريخية أو الفانتازيا لما تتطلبه من بحث خاص ودؤوب وموهبة وخيال واسعين في هذه المجالات، تقاسمت هذه الجوائز افلام «هاري بوتر وكأس النار» (أفضل اخراج فني)، و «كينع كونغ» (أفضل مؤثرات بصرية)، و «سجلات نارنيا» (افضل ماكياج) واخيراً «مذكرات جيشا» (افضل ملابس).

خصصت الاكاديمية البريطانية جوائز خاصة للافلام المحلية منها جائزة الكساندر كوردا لأفضل فيلم بريطاني، وفاز بها فيلم والاس وجروميت «لعنة الارنب الذي كان» وهو فيلم كارتون كوميدي عن عالم وكلبه يبحثان عن حيوان بري وغامض يهاجم حقول الخضروات في منطقتهما. الفيلم من اخراج مايكل وينتربوتوم الذي حاز في اليوم نفسه جائزة افضل مخرج من مهرجان برلين عن فيلم «الطريق الى غوانتانامو».

أما جائزة كارل فورمان للاسهام الخاص من قبل مخرج او مؤلف او منتج بريطاني في فيلمه الروائي الاول فقد فاز بها المخرج الشاب جورايت عن فيلم «كبرياء وتحامل» المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه لجين اوستن.

الحياة اللبنانية في 13 يناير 2006

الأفلام التسجيلية تواصل مسيرتها الى الجمهور العريض...

ريمون ديباردون ورفاقه من واقع العالم الى مهرجان في بيروت

بيروت – إبراهيم العريس 

يبدو ريمون ديباردون في أيامنا هذه سعيداً. وسعادته جديدة هو الذي، خلال العقود الثلاثة الماضية، كان لا يتوقف عن الشكوى وابداء القلق ازاء مهنته، أو واحدة من مهنتيه المترابطتين أصلاً: التصوير الفوتوغرافي، وتحقيق الأفلام الطويلة، الروائية في مرات نادرة، والوثائقية بقية المرات. ما كان يقلق ديباردون هو عدم إقبال هواة السينما من الجمهور العريض على مشاهدة الجانب الوثائقي من سينماه وسينما رفاق له اختاروا بدورهم هذه الطريق.

في ذلك الحين كان ديباردون محقاً في شكواه. فالفيلم الوثائقي، المنتزع، صوراً وموضوعات، من واقع الحياة وحياة الواقع، كان لا يغري كثيراً. كان الجمهور – حتى النخبوي في معظم الأحيان – يفضل الشرائط الروائية. ولكن فجأة، خلال العقد الأخير، راحت الرياح تسير في اتجاهات أخرى، «ربما تحت وطأة الواقع الحقيقي وقسوته كما يشاهد على التلفزة، وربما بفضل وعي جديد جعل عناصر نجاح السينما الروائية متراجعة، كنظام النجوم والنهايات السعيدة... وما الى ذلك، بات أناس كثر يفضلون مشاهدة واقع، يعرفونه في ظاهره، أو لا يعرفونه على الإطلاق» ومن هنا، دائماً بحسب بعض المتابعين النبيهين، أتت فورة السينما الوثائقية – أو التسجيلية – لتعرف ازدهاراً متزايداً. وصار من حق ريمون ديباردون أن يبدو سعيداً.

وكيف لا تكون حاله كذلك، وهو يرصد، في فرنسا الآن، النجاح الذي يحالف الاسطوانات المدمجة التي نزلت الى الأسواق منذ فترة وتضم أربعة من أفلامه «الأفريقية» أي التي صورها في القارة السوداء، سابراً أغوار جمال القارة ومشكلاتها بل مآسيها! ان صدور هذه الأفلام (وهي تباعاً «كيف حال الألم؟» و «أسيرة الصحراء» و «الحي الخالي» و «صور فلاحية»، علماً أن الثالث له طابع روائي وتمثله ساندرين بونير)، يمثل انتصاراً شخصياً لديباردون، ولكن أيضاً انتصاراً – ولو متأخراً – لأساتذة كبار آمنوا بهذا الفن منذ زمن: جوريس ايفنز، كريس ماركر، جون غريسون، وعشرات غيرهم.

الجمهور اللبناني الذي ربما كان يعرف شيئاً عن ريمون ديباردون، أو لا يعرف عنه أي شيء على الاطلاق، ليس في حاجة اليوم الى انتظار وصول الاسطوانات (بأسعارها المرتفعة في شكل غير منطقي في متاجر بيروت)، يقيّض له في هذه الأيام بالذات أن يشاهد، على أي حال، عملاً أساسياً من بين الأربعة الموجودة في الاسطوانات المدمجة، وهو «صور فلاحية» بجزأيه: «الاقتراب» و «اليومي»، ويبلغ مجوع زمن عرضهما 3 ساعات، وهما يشكلان جزأين من ثلاثية شاء فيها ديباردون أن يعود الى جذوره ليصور الحياة الفلاحية في المنطقة الفرنسية التي جاء منها. وصحيح انه صور فيلمه بأسلوب صحافي، لكنه أسبغ عليه قدراً من الجمال صفق له كثيراً كل أولئك الذين شاهدوا الفيلم الثلاثي حتى الآن، بمن فيهم جمهور مهرجان برلين لدورة العام 2005.

من بعيد

غير ان الأهم من هذا هو ان الجمهور اللبناني، لن يتوقف عند سينما ديباردون وحدها. ذلك ان فيلمي هذا الأخير يعرضان ضمن اطار مهرجان، بدأ عروضه مساء أمس الخميس، وسيواصلها حتى نهاية شهر آذار (مارس) الجاري، في المركز الثقافي الفرنسي في بيروت. والمهرجان يحمل بالتحديد اسم «شاشات الواقع» وهو يقدم هنا في دورته الثانية. وكما يمكن ان تتوقع انطلاقاً من اسم المهرجان، تعرض خلاله مجموعة من أهم الانتاجات الفرنسية في هذا الاطار، والتي تحققت خلال العامين الأخيرين. ولكننا إذ نقول هنا انها انتاجات فرنسية فإن هذا لا يعني انها فقط أفلام فرنسية أو تتحدث عن فرنسا. فإذا كان ريمون ديباردون يغوص في الريف الفرنسي – لمرة نادرة في تاريخه هو الذي صور أفريقيا كثيراً، كما صور أفلاماً عن القضاء والحياة اليومية في المدن -، فإن زميله هوبير سوبيه، في فيلمه الذي بات واسع الشهرة الآن «حلم داروين»، يبعد في المكان حتى بحيرة فكتوريا ليقدم عملاً وثائقياً مدهشاً يصور تجربة فريدة في عالم الأسماك وحياتها. هذا الفيلم مرشح الآن لنيل جائزة أوسكار أحسن فيلم وثائقي. ومثله في الترشيح نفسه فيلم «مارش الامبراطور» للوك جاكيه، الذي يتوجه الى القارة المتجمدة ليصور عملاً مدهشاً عن حياة طيور البطريق وسط طبيعة شديدة الغرابة. ولنذكر هنا ان كلاً من هذين الفيلمين عرض في الصالات التجارية وحقق نجاحاً مفاجئاً يضاف الى فوز أولهما بالكثير من الجوائز الكبرى في المهرجانات العالمية.

هذان الفيلمان جديدان... لكن «ماذا رأيت في ساراييفو» قديم، يعود الى العام 1999، وهو يعرض في إطار المهرجان في حضور مخرجه باتريس بارا، الذي يصور هنا أربع سنوات من حياة سكان عاصمة البوسنة ايام الرعب والقتل، يوم كانت وعود الأمم المتحدة وحلف الأطلسي بالعون حبراً على ورق. على مدى 76 دقيقة صورت كاميرا بارا، كما يقول: «الناس الذين كنا صورناهم سابقاً أيام الحرب، يوم كانت كل كاميرات تلفزات العالم حاضرة»، فما الذي آلى اليه مصير أولئك الناس؟ ماذا وكيف يتذكرون الآن ما حدث؟ تقول صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية ان ما سعى اليه بارا من خلال فيلمه هذا إنما كان استعادة ذاكرة الصورة بوصفها ذاكرة القلب».

وليام كاريل، بفيلمه «ابنة القاضي»، فضل ان يقتبس من كتاب بدلاً من أن «يقتبس من الحياة نفسها». لكن الموضوع المقتبس واقعي: انه عن قاض انتحر ذات يوم «مطلقاً النار على حياتنا نحن أيضاً» كما تقول اليوم ابنته التي كانت حينها في الثالثة عشرة من عمرها. الفيلم هو حكاية هذه الصبية التي صارت اليوم شابة يحزنها ان احداً لا يذكر أباها، ويؤلمها ألا تنسى أبداً انها ابنة «عنف الثمانينات وانفجارات الشوارع الباريسية» ولكن يكاد يقتلها انها غير قادرة على نسيان انها وأباها وعائلتها انما كانوا ضحايا الضغوط الإعلامية التي كانت، هي، ما «قتل» والدها في الحقيقة.

التاريخ والواقع

ومن «9 أمتار مربعة لاثنين» الى «مصنع محترم» تظهر القضية الاجتماعية، مرة من خلال زيارة سجن يتراكم فيه السجناء فوق بعضهم البعض، ومرة من خلال «مطاردة» مصانع نوكيا التي تشتهر بأنها من المصانع المحترمة في العالم، فيأتي الفيلم ليقول لنا انها... ربما لا تكون كذلك! وإذ يفضل إمانويل كارير في فيلمه «العودة الى كوتنليش» (الذي عرض في دورة العام 2003 لمهرجان البندقية) ان يلاحق سجين حرب مجرياً نسيه كل الناس، في تلك القرية التي تبعد 800 كلم الى الشرق من موسكو، تلاحق سابرينا ميرفان في فيلمها (الناطق بالعربية والذي يحمل اسم لبنان كشريك في الانتاج مع فرنسا) «موكب الأسرى» سكان قرية جنوبية لبنانية صغيرة يستعدون للاحتفال بعاشوراء.

وبقي من هذه الأفلام واحد من أفضلها، وهو «سالفادور آليندي»، الذي كان عرض قبل عامين في العروض الرسمية لدورة 2004 لمهرجان «كان» السينمائي – ولكن خارج المسابقة -، وهو فيلم أخاذ حققه الشيلي باتريشيو غوزمان، عن الرئيس السابق سلفادور آليندي، الذي أطاحه انقلاب الفاشي أغوستينو بينوشيت المدعوم من الـ «سي آي إي» في العام 1973. في هذا الفيلم يقوم غوزان، الذي كان يعيش في المنفى، بإعادة تركيب سيرة آليندي وسيرة استشهاده، من خلال حكاية عودته هو، في المكان والزمان، الى الشيلي والى أحداث العام 1973، راجعاً بعد ذلك الى حكاية الهبّة الشعبية التي كانت أوصلت آليندي الى السلطة. في هذا الشريط يقدم غوزمان عملاً سياسياً بامتياز، عملاً يقول الماضي على ضوء الحاضر، ليس لكي يعطي دروساً ومواعظ، ولكن لكي يقول ما حدث حقاً، وما خلفية ما حدث. فيلم غوزمان عن آليندي فيلم كبير بقدر ما عرف فيه مخرجه كيف يربط الواقع التاريخي، بنظرته الذاتية اليه، فتحول من راصد للتاريخ الى شاهد عليه، معيداً في طريقه اختراع السينما السياسية.

مهما يكن، فإن كل فيلم من الأفلام المعروضة ضمن هذا المهرجان، يعيد على طريقته اختراع سينما ما... سينما يجمعها هم الواقع في شكل يزداد تألقاً وحضوراً في سينما اليوم.

الحياة اللبنانية في 13 يناير 2006

 

سينماتك

 

سامي الناصري وفوضيل وجاد المالح أسماء حاضرة في غياب السيناريو...

«باب الويب» لمرزاق علواش: هواء الحاسوب النقي

الرباط – طارق أوشن

 

 

 

 

سينماتك

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سينماتك