شعار الموقع (Our Logo)

 

 

يثير فيلم الآم المسيح لجبسون أهم الأسئلة المصيرية في الدين المسيحي، فمن بين الأسئلة التي يوحي الينا بها جبسون مثلا ماذا يخبرنا التاريخ عن السيد المسيح، وكيف كان العصر الذي عاش به ومن أين جاءت بالضبط قصة معاداة السامية وكذلك أيضا يثير الفيلم وهو الأهم من هذا وذاك سؤال من قتل السيد المسيح ممثلا في قصة المعاناة التي عاشها المسيح على يد اليهود والرومان.

وهكذا يعيد الفيلم الى اذهان العالم المسيحي في الشرق والغرب قصة قتل المسيح بحسب شواهد انجيلية بادئا بتسليط الضوء على المسيح وهو يصلي في حديقة بمكان غير بعيد عن أصحابه النائمين. وبتكريس مشهد على هذا النحو يخبرنا الفيلم اننا من واقع السيناريو نعيش الساعات الأخيرة من حياة عيسى الناصري عام ثلاثين للميلاد في زمان عيد الفصح.

كانت فلسطين في تلك المرحلة جزءا من المستعمرات الرومانية، وكان بيلاطس البنطي يحكم المنطقة كممثل عن القيصر، فيما كانت المرحلة تعج بانتفاضات ومحاولات تمرد ضد الدولة الرومانية، وكان المسيح قد جاء من الجليل يعلم الناس وطبيبا يداوي الآم الكثيرين. علم المسيح عيسى بن مريم الناس أشياء كثيرة وكانت تعاليمه وكلماته وقتئذ تأخذه بحسب وقائع الفيلم شيئا فشيئا الى النهاية.

أكتسب المسيح شهرة وطغت شعبيته في صفوف الحشود الذين جاءوا للاحتفال بعيد الفصح، وهكذا بحسب الرؤية الدرامية لجبسون وفق مرجعياتها الانجيلية نادت به الجموع مسيحا، ولما وصل ذلك الى اليهود فهموا أن عيسى هو ملك اليهود الذي يأتي مبشرا بمملكة الرب.

غير أن هذه الفكرة كان لها من نواح سياسية معنى آخر يمهد لتألق نجم اسرائيل ويهدد وجود الدولة الرومانية.

كان اليهود متعطشين الى الحرية، وكان البعض منهم قد جاء الى السيد المسيح مهددا باستغلال الموقف الآخذ في التردي، غير أن كهنة المعبد كانوا على تفاهم مع الحكومة الرومانية بحيث يبذل الكهنة قصارى جهدهم لتهدئة الوضع مقابل أن لا ينكل بهم بيلاطس البنطي. ومن هنا تتفق روايات أن كبير كهنة المعبد أرسل مجموعة رجال بقيادة يهوذا الأسخريوطي للقبض على السيد المسيح، ولما عثروا عليه في الحديقة سألهم المسيح قائلا: ( عم تبحثون؟). فقالوا له ( اننا نبحث عن يسوع الناصري؟).

وسريعا كانت اجابة السيد المسيح: (أنا هو أمامكم).

يقول جبسون: هنا تبدأ الآم المسيح.، اذ أن كلمة ألم بمعناها اللاتيني passus هي التي تعبر عن قلب الايمان المسيحي.

ان فيلم (الآم المسيح) لجبسون يثير جدلا حول هذه النقطة، وقد قال جبسون أن الروح القدس كانت تعمل بداخله وترشده بحسب رأيه الى استلهام الصواب.

سوف يعرض الفيلم في 25 فبراير، وهو يمكن أن يثير بحسب توقعات نقدية جدلا واسعا بين من يعتقد بدافع التكريس العاطفي لألم المسيح أن اليهود مسؤولين عن قتل المسيح واخرين يعتقدون أن الفيلم يثير من غير وجه حق تحريضا ضدهم، اذ أنه من اللافت للنظر أن تلك اللحظات التي يركز عليها الفيلم هي لحظات عصيبة جدا في عقيدة كل مسيحي. ومن هنا فاعادة البناء الدرامي للكرب والضغط والاهانة التي تعرض لها المسيح وانتهت بقتله يمكن أن تثير في مشاهدين نوبات بكاء وندم وانفجار عاطفي وهم يرون الآم المسيح تتجسد أمامهم في مشاهد قال النقاد أن جبسون خدمها بمنتهى العناية المهنية لحرفة الاخراج.

ومن ناحية جبسون فقد تناول الموقف النقدي حول فيلمه وعلق عليه قائلا:
أنه من أجل التركيز على تلك اللحظات العصيبة لم يستلهم نسخة انجيلية واحدة وانما عمد الى الاقتباس من الأناجيل الأربعة مضافا الى ذلك شواهد اخرى بما يخدم اعادة اخراجه القصة في حبكة لا تضيف جديدا الى التاريخ وانما تساعد في تكثيف المعاناة ولحظات الكرب وشحنها بطابع عاطفي من القدسية.

لكن كاتبا أمريكيا يتمتع بحس نقدي كتب قبل حوالي عشرة أيام مقالا مطولا في مجلة النيوزيك عطفا على عرض الفيلم فيما يتصل بصحة المصادر التي يقتبس منها جبسون مشاهده حول الآم المسيح قائلا أن الأنجيل لا يمكن أن يكون مصدرا دقيقا خال من الاشكالات، فبرغم أن مؤمنين مسيحيين يرون فيه كلمة الله، الا أنه ليس معنى ذلك أنه يمكننا على مستوى الاقتباس الفني اعتبار ما نقتبس عنه يمثل سجلا ايمانيا صحيحا من ناحية قياس الأحداث التاريخية. وعلى هذا الأساس يقرر المحرر الناقد الذي هو عنصر في طاقم تحرير النيوزيك قائلا أن الانجيل الذي بين أيدينا هو في حقيقته نتاج انساني لمؤلفين كتبوا في أوقات معينة وبأفكار متباينة بعض الشيئ لكي يمنحو الرؤى المسيحية وثائق تنتشر بين الناس وبذلك فهي تكفل للدين المسيحي البقاء.

يتناول الناقد قصة الصلب وانعكاساته الوراثية على مدى التاريخ بتحميل مسيحيين اليهود تبعات الآم المسيح، فينفي أن يكون المسيحيين العارفين بظروف المرحلة التاريخية لمحاكمة المسيح يتهمون بقصد من خلال الاشارات الانجيلية جميع اليهود الذين كانوا أحياء في تلك المرحلةن ومن الطبيعي بحسب تدرج الموقف في سياق منطقي على هذا النحو أن المسيحيين لا يشيرون باصابع الاتهام الى اليهود الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد.

وبنحو آخر أكثر دقة يشير الناقد الأمريكي أن كتبة الأناجيل اذ كانوا يستخدمون في نصوص لهم كلمة يهود، فانما كانوا يقصدون بها من واقع المتن الانجيلي نخبة من كهنة المعبد. وعلى هذا الأساس فكلمة يهود تنحصر بها الاشارة وقفا على الفئة ممن أعتقدوا أن المسيح سوف يكون سببا في هلاكهم على يد بيلاطس البنطي، ولذلك فقد عمدوا الى تصعيد الموقف وارسل كبير الكهنة رجاله بقيادة يهوذا الاسخريوطي لكي يقبضوا على المسيح.

ومع ذلك يبقى السؤال الأكثر أهمية في قصة الفيلم هو من قتل المسيح؟؟
يقول الناقد الأمريكي جون ميشام اذا لجأنا الى استجواب التاريخ فالرومان هم الذين قتلوا المسيح ولكن من نواح دينية لدى المسيحيين فالاجابة تختلف كثيرا، اذ أن خطايا العالم هي التي دفعت بالمسيح الى الصليب. ومن وجهة نظر كاثوليكية فان الكاثوليك لا يلقون بلائمة على اليهود من نواح تاريخية، بل يعتبر الكاثوليك المسيحيين أنفسهم أيضا مسؤولين عن الكرب الذى عانى منه المسيح، وكذلك فهم لا يستثنون أحدا من مسؤولية الكرب الذي تجرعه المسيح.

وبرغم تطورات كنسية هامة واكبت الموقف الديني واسفرت ما بين عامي 1962_ 1965 عن قرار الفاتيكان بتبرئة اليهود تماما من دم المسيح، الا أن فيلم جبسون يأتي الآن في بداية الثلث الأخير لشهر فبراير الجاري لكي يفجر مجددا مشاهد انجيلية خطيرة بتركيزه من خلال السينما على كهنة اليهود وهم يقودون رعاعا غاضبين لقتل المسيح، فيما يرفض بيلاطس البنطي أن يتحمل وزر قتل المسيح.

توجد مخاوف حاليا في أوساط يهودية أن يبدد عرض الفيلم جهود عمل أثمرت في صالح تبرئة الموقف اليهودي من دم المسيح على مدى الأربعين سنة الأخيرة منذ اصدار الفاتيكان قرارا يدعو الى التسامح، غير أن المخرج جبسون قد نفى من ناحيته في أكثر من مناسبة عامة أن يكون اخراجه لهذا الفيلم موجها ضد السامية، ناهيك عن كونه قد أعلن من ناحيته صراحة أنه لا يؤمن بعقدة الذنب الوراثي مشيرا الى تعاليم الكنيسة بأن العداوة في طورها الوراثي وخطايا الانسانية جمعاء تؤدي الى الحب وقبول الآخر في النهاية. ومن هذا المنطلق فخطايا اليهود لا تعتبر استثناءا في هذه الحالة.

ولكون جبسون يمتلك عقلية مراوغة فقد قال ذات مرة في حوار له مع الشبكة العالمية للكاثوليكية حول العالم بأن اليهود مدانون بقتل المسيح، ولكن هذا لا يعتبر هدفه.
هنا فقط يعيد جبسون العبارة الكاثوليكية نفسها اذا يقول مجددا اننا جميعا جديرون باللوم، ثم يضيف قائلا: ( انني لا أريد اعدام اي يهودي من غير محاكمة)، - في اشارة له أن المسيح تألم من غير أن يلقى محاكمة عدالة طبعا - وهكذا ينهي جبسون الكلمة بقوله: ( أنني احب اليهود وانا أصلي من أجلهم أيضا).

يركز فيلم الآم المسيح على آخر ساعات عاشها المسيح، وفي الفيلم تظهر لقطات الفلاش باك لكي تضيئ وميضا من سياقات مقدسة بأثر رجعي، بحيث يتناول جبسون من خلال تلك الاضاءات مقاطع من طفولة المسيح وكيفية دخوله الى (بيت المقدس)، ناهيك عن مواعظ الجبل وقصة العشاء الأخير. وباستثناء ذلك يركز الفيلم بألق تاريخي ولغوي مرجعي على ساعات الكرب التي تجرعها المسيح الى أن يلفظ بحسب الاحالة الانجيلية نفسه الأخير فوق الصليب.

ولكي يطرح جبسون رؤيته السينمائية على نحو فريد، فقد لجأ الى عملية دمج روائي بين الأناجيل الأربعة في سردياتها عن حادثة الصلب مستوحيا رؤيتين اضافيتين يقتبسهما من راهبتين عاشت الأولى منهما ما بين عامي 1602 - 1665 في أسبانيا والثانية ما بين عامي 1824-1874 في فرنسا.

كانت الراهبتان وليدتا عصريهما، وكلاهما يحملان ندوبا تشبه الآثار التي لحقت بالمسيح أثناء وبعد صلبه، فيما تنفرد الراهبة الأخيرة بظهور أثر لمسامير على يديها في منطقة الرسغ من غير أن تكون الندبات بقايا لجروح قديمة، وكلا الراهبتين الموسومتين بما يعتقد في المنطق الكنسي أنه أرث ستيجماتيكي مقدس قدمتا شهادتين منفصلتين وغامضتين تحملان اشارة ضمنية تحمل اليهود وزر صلب المسيح.

في هذه الجزئية الأخيرة يتهم الناقد ميشام المخرج جبسون أنه يعتمد على الوهم في اثبات شيئ لا يوجد دليل مادي على قيامه. ففيما تظهر الروايات الانجيلية بيلاطس البنطي أنه رجل وديع ينأي بنفسه عن التورط في تحمل تبعات دم المسيح، يجمع مؤرخون أن بيلاطس كان عنيدا ومتجهم الوجه وغير متسامح أبدا، وقد عرف عنه من سياقات صحيحة من شواهد العقوبات أنه يعدم مثيري الشغب دون محاكمة.

هنا يظهر سؤال آخر في محاولة لتحجيم الرؤية الفنية لجبسون. وهذا السؤال هو لماذا أعتمد جبسون على روايات انجيلية بحيث يعيد طرحها على نحو تجعل يهود تلك المرحلة يبدون اواغادا وبطريقة اسوأ مما كان عليه الرومان أنفسهم.

ثم ان هناك تبقى مشكلة أخرى، فأقدم الأناجيل مكتوبة باللغة الأغريقية القديمة. ويظهر التعقيد جليا في كون المعنى الدقيق للكلمات التي تتناول اليهود، فكلمة يهودي لم تكن تعني برسمها الأغريقي انجيليا جميع الشعب اليهودي الذين تبعوا السيد المسيح على عهد كتبة الأنجيل أنفسهم. وحتى عيسى واتباعه لم يكونوا بالتأكيد يدخلون في تطاق العبارة بدلالتها التاريخية وقتئذ. وبمعنى ادق فقد كانت كلمة يهودي في السياق الانجيلي المكتوب باللغة الأعريقية القديمة تعني نخبة الكهنة الذين يمتلكون القرار الديني والاداري لتصريف الرأي نيابة عن شعب اسرائيل.

وعلى هذا الأساس فقد كان الشعب اليهودي منقسما الى جماعات باطياف فئوية وحزبية أيضا، وكانت كل طائفة ترى انها الممثل الحقيقي للايمان السلفي مما أوجد في الوسط اليهودي من الداخل مناخا موبوءا بالعراك والحزازية واتخاذ تدابير التسلط بين فئة ضد أخرى.

ومن خلال معطيات تاريخية على هذا النحو، نستطيع فهم أصول التصور الانجيلي لمؤسسة المعبد.

لقد كان كبار الكهنة يزدرون اتباع المسيح، ومن هذا المنطلق فقد صور مؤلفي العهد الجديد كبار الكهنة على نحو انتقامي انهم طائفة من الأشرار. وبنفس المنطق أيضا فذلك يفسر لنا موقف الترشيد النقدي للاناجيل في الكيل للموقف الروماني بما يدرء عنه رويدا.. رويدا درجة التخفيف تهمة الذنب في قتل المسيح.

فكيف بهم الآن اذ يذكرون العالم من خلال السينما أن الأمبراطورية التي كانت تحكم العالم وقتئذ ولا تزال الى الآن تدير منطقة البحر المتوسط في نواح منه هي التي اعدمت المسيح لأسباب سياسية بوصفه قائد ثورة كان يتطلع لتحريرهم من ظلم الرومان!!

ان فيلم الآم المسيح يفتتح مشاهده الأولى بتشخيص المسيح وهو قائم يصلي، فيما يحاول الشيطان غوايته، اذ قال الشيطان للمسيح لا يوجد انسان يستطيع تحمل تبعات خطايا العالم.

وكما هو مكتوب في الأناجيل فان ذلك يوحي الينا ان العالم في قبضة الشر، وقد جاء المسيح لكي يحرر العالم بموته وقيامه من قوى الظلام. وهكذا يكون المسيح بالمفهموم الانجيلي قد أحدث بالآمه ثورة وتغييرا في مصير العالم.

موقع "إيلاف" في  20 فبراير 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

يتناول أكثر اللحظات كرباً في عقيدة المسيحيين

"آلام المسيح"

يثير (هولوكوستا) فنياً باقتباسات من الإنجيل

عبد الله الحكيم *

* كاتب صحافي سعودي

ab_13@hotmail.com

__________________

صور أخرى من الفيلم

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة:

السؤال الأكثر جدلاً منذ سلطة الرومان إلى عهد الأمريكان؟؟

السينما تعيد قتل المسيح إلى الواجهة مرة أخرى!!