شعار الموقع (Our Logo)

 

 

في كل مرحلة من تاريخ السينما ثمة اسئلة على السطح وتطرح نفسها بقوة في وجه هذه الصناعة السينمائية او تلك, ولعل احد ابرز الاسئلة الملحة في بداية الألفية الثالثة تتعلق بامكان استمرار السينمات الوطنية في العديد من الدول امام المنـافـسة الحـادة من السينما الاميـركية التي تكاد تقصيها تماماً من الوجـود. لذلك ليس عبثاً ان يستعر الجدل بين الباحثـين والمتخصصين في غير مكان من العالم في السينما الواجب على الدولة دعمها. وفي روسيا كانت لذلك الجدل نكهة خاصة فرضتها الظروف الاستثنائية التي عاشتها البلاد في التسعينات ومعها السينما.

خارج الرعاية

وشهدت هذه المرحلة تحولات جذرية ليس فقط في الواقع السينمائي, بل ايضاً في البنية الطبقية والثقافيـة والنفسيـة لجمهور المشـاهـدين كذلك. اذ وجـدت احـدى اضـخم وأعــرق الصنـاعـات السينمائية في العالم نفسها لأول مرة خارج رعاية الدولة ودعمها, ما ادى الى تراجع وتيرة الانتاج بصورة ملحوظة, وتوقف العمل في الكثير من الاستوديوات وانتشار البطالة بين السينمائيين والفنيين العاملين فيها وإفلاس عدد كبير من دور السينما وإغلاقها, او بيعها وتحويلها الى منشآت ترفيهية (كازينوات وديسكوتيك) او تجارية (صالونات عرض وبيع للسيارات او الموبيليا ومخازن), لتفرض الافلام الاميركية في الدور المتبقية سيطرتـها بصـورة شبه مطلقة. كما انحـدرت تـقاليـد الفـرجة على نحو مريع وشهدت نسبة الحضور في الصالات تراجعاً غير مسبـوق نتيجة تدهـور متـوسط الدخل لدى السكان والانتشار المتزايد لأجهزة الفيديو ومزاحمة التلفزيون بقنواته وعروضه الجديدة والجذابة, التي كانت تلتقـط لحظـة بلحظة المشاهد المتدفقة والديناميكية لما يجري في البلاد من اضطرابات ومواجهات واغتيالات وفضائح, وكأننا امام مسلسل من دون نهاية لا ينقصه التشويق او الحركة او الرومانسية, مسلسل لا تضاهيه سوى الميلودرامات المكسيكية ومسلسلات السوب - اوبرا الاميركية التي اقتحمت بيوت المشاهدين الروس لأول مرة وسحرت انظارهم وقلوبهم الى درجة يصعب تصديقها.

كل ذلك افضى الى تغييرات بنيوية في نتاجات السينما الروسية وتركيبة افلامها, فاتجه معظم مخرجيها الى محاكاة النموذج الهوليوودي لأفلام العصابات بكل ما تحويه من عنف وقتل وابتزاز ومطاردات, وان كان ثمة بالفعل معادل ومبرر لذلك في الواقع, يتمثل بالمافيا الروسية وتشعباتها وعلاقاتها وسلوكياتها.

غير ان معظم هذه الافلام لم يستطع التوغل الى عمق الحالة الروسية وخاصيتها الذاتية, ولم تكن حالها بأفضل من ناحية اللغة والوسائل التعبيرية, اذ بدت هذه الافلام كتقليد سيئ للأصل الاميركي, لا يؤهلها للتنافس معه في صالات السينما المتاحة له بسهولة. ويشير احد النقاد الى ان خلال العشرة اعوام الماضية لم يستطع سوى فيلمين تحقيق ارباح في شباك التذاـكر هما: "حلاق سيبيريا" لنيكيتا ميخالكوف و"الأخ 2" لسيرغي بالابانوف. سبب آخر زاد من اتساع الفجوة بين السينما بتوجهها العـام والجمهور, ألا وهو ابتعادها عن ملامسة العديد من جوانب الواقع المعاصر بافرازاته وتناقضاته وصراعاته واشكالياته على كل المستويـات والصعـد, وتقولبها ضمن اشكال فنية وأجناس فيلمية بعينها لدرجة اختفت معها تقريباً الاعمال الكوميدية والاستعراضية والتاريخية والاقتباسات الأدبية وتلك الموجهة للأطفال. لكل ذلك لم يعد اصحاب الصالات انفسهم يستقبلون افلام مواطنيهم, ليكتفي الكثير من المنتجين بعرضها على القنوات التلفزيونية, بل وأصبحت تصنع خصيصاً لهذه الغاية, بينما فضل آخرون التحول نحو انتاج المسلسلات التلفزيونية, التي وصلت في بعض السنوات الاخيرة الى اكثر من 35 عملاً.

الرأسمال يدخل

جميع هذه التحولات استمرت بفرض تأثيرها حتى بعدما اخذت الصورة تتغير تدريجاً في نهاية التسعينات وبدأ الرأسمال الخاص يتوجه الى السينما ويضع ثقله فيها, لتشييد او إعادة تحديث مئات الصالات. وتظهر لأول مرة شبكات من دور العرض مثل "كارو - فيلم" و"امبيريا كينو" المدعومة بشركات توزيع ضخمة تضخ ثلاثة افلام اسبوعياً, وتتأسس شركات جادة تساهم بصورة فعالة في الانتاج السينمائي مثل "اس كي في", "إن تي في بروفيت", "سلوفا" "بيغماليون" "يونايتد ملتيميديا بروجيكت", "أرك فيلم", "ريكون كينو", "تريتي" وغيرها.

الدولة عادت هي الاخرى لتتحمل مسؤولياتها تجاه السينما, فزادت من حصتها في الموازنة العامة, لتصل عام 2002 الى 5,1 بليون روبل, وتتخطى هذا العام البليونين (نحو 67 مليون دولار). وقد ساهم في هذه الزيادة الى حد بعيد برنامج الدولة المسمى "سينما روسيا" والذي يتضمن بالاضـافة الى دعم البنى التحتـيـة للسيـنما في البـلاد تمويل 100 فيـلم تمثيلي طـويل و330 فيلماً تسجيلياً و65 فيلم رسوم متحركة سنوياً, كي تحقق السينما الروسية حتى عـام 2005 نسبـة لا تقـل عن 20 في المئـة مـن مجمل العروض التي تـراوح في الوقـت الحـالي من 3 الى 7 في المئـة فحـسب. وتـرى وزارة الثـقـافة ان دون هذا الرقم لن تستطيع السينما الروسية ان تمثل ظاهرة اجتماعية وثقافية في المستقبل.

ولعل الصبغة المبالغ في تفاؤلها للبرنامج كانت السبب وراء النقاشات الطويلة فيه والتي لم تتوقف حتى اللحظة, وانما تزايدت مع فشله في تحقيق غايته هذا العام. فالمسألة من وجهة نظر البعض لا تتعلق بامكان انتاج هذا العدد من الافلام او لا, وانما في الغاية من ذلك, فما معنى انتاج هذا الكم طالما ان معظم الافلام عاجز عن الوصول الى الشاشة الكبيرة, وحتى تلك التي تعرض بالكاد تستطيع تغطية موازنتها, لتنحصر الاعمال الناجحة بأسماء مجموعة محدودة من المخرجين فحسب مثل الكسي بالابانوف ونيقولاي ليبيدوف ودينيس يفستغنييف والكسندر روكوجكين وفاليري تودوروفسكي ودميتري استراخان وإيغور كونتشالوفسكي. لذلك يدعو هؤلاء الى التركيز على دعم اكبر لعدد اقل من الافلام (10-15) بغية تحقيق مستوى فني وحرفي عال يؤهلها للمنافسة في السوق. الامر الذي لا تساعد الموازنة المرصودة في البرنامج على تحقيقه, فإذا ما توقفنا عند موازنات بعض الانتاجات البارزة للمقارنة نجد ان "الشرق - الغرب" تكلف 12 مليون دولار, "انتي كيلر" 5 ملايين و"الحرب" 4 ملايين, هذا من دون التكلم عن "حلاق سيبيريا" الذي وصلت موازنته الى 45 مليون دولار, او مقارنتها بنظيرتها الاميركية. على الجانب الآخر لا تبدو القدرة التنافسية للأفلام هي ما يشغل بال الكثير من النقاد الذين يشكون التراجع المريع في سوية السينما الروسية عموماً, وانجابها المتزايد لأفلام ميتة لن يشاهدها احد بعد بضع سنوات, ما يجعل التخوف مبرراً من مساهمة برنامج الدعم في تفاقم الازمة بدلاً من حلها.

بالطبع ان مفهومي القدرة التنافسية والسوية الفنية قد يلتقيان ولكن ليس بالضرورة, ولعل المثال الاكثر تداولاً اليوم في هذا الصدد يتعلق بالمخرج الكسندر سوكوروف وأعماله, التي على رغم نجاحها في المهرجانات لا تجد الاقبال نفسه من المشاهدين, لكن قدرتها الضعيفة على المنافسة ليست مبرراً على الاطلاق لعدم دعمها طالما ان المشهد السينمائي لا يمكن ان يكتمل من دونها بصفته "ظاهرة اجتماعية ثقافية", بل لعله يكتسب مشروعيته وغناه تحديداً بوجودها.

والحقيقة ان تصريحات وزارة الثقافة عن طبيعة الافلام التي تضع لها الاولوية في الدعم تبدو اكثر انسجاماً مع هذه النوعية من الاعمال, اذ من المستبعد ان تحقق سينما الاطفال والاعمال الاولى للمخرجين والافلام التاريخية وتلك ذات الصبغة الوطنية ضمن المبالغ المرصودة لها قدرة تنافسية, ولا يمكن كذلك تجاهل اهميتها بأي حال من الاحوال.

الجمهور المنقسم

وهنا تجدر الاشارة الى مسألة في غاية الاهمية تتعلق بجمهور السينما في روسيا, الذي تبلور انقسامه بصورة شديدة الوضوح في السنوات الاخيرة, بين اقلية محدودة معظمها من الجيل الشاب ذي الدخل المرتفع والقادر على دخول الصالات الحديثة الفاخرة بعروضها القوية (الاميركية غالباً) وأسعارها الباهظة, والتي تضخ القسم الاكبر من الارباح (نحو 70 في المئة) على المنتجين والموزعين, وتتمركز بصورة رئيسة في موسكو وسان بيترسبورغ, وبين الغالبية التي ابتعدت عن السينما او ترتاد الصالات الاقل كلفة والمنتشرة في انحاء البلاد. هذا الواقع دفع البعض الى الاستنتاج ان على المخرجين الروس اذا ما ارادوا المنافسة حقاً التوجه بصورة اساسية الى الفئة الاولى المؤهلة لدر الاموال على السينما, بصناعة افلام تلامس مشكلاتها وواقعها الحياتي.

والحقيقة ان بغض النظر عن عدم توافق استراتيجية الدولة للدعم مع هذا الاتجاه, لكنه قد يفرض نفسه تدريجاً على الصناعة السينمائية, وذلك لسببين: اولاً ان اصحاب شركات الانتاج وشبكات التوزيع ينتمون الى هذه الفئة بالذات, وبالتالي هم قادرون على إدراك احتياجاتها بسهولة, وثانياً ان ابسط قوانين السوق ستفرض عليهم تصنيع بضاعتهم وفق المواصفات المطلوبة من المستهلكين.

علّ كل ذلك مجرد افتراض, والسينما الروسية لم تخرج من ازمتها بعد على رغم جميع العقبات التي تجاوزتها في الاعوام الاخيرة وتقديمها العديد من الافلام المثيرة التي نذكر منها: "قبلة الدب" لسيرغي بودروف, "منزل الحمقى" لأندريه كونتشالوفسكي, "كوكوشكا" لأكسندر روكوجكين, "الفلك الروسي" لألكسندر سوكوروف, "لنمارس الحب" لدينيس يفستغنييف, "النجمة" لنيقولاي ليبدوف, "الحرب" لألكسي بالابانوف, "لا تفكر بذلك حتى" لروسلان بالتسير, "البذلة" لباختير خودوينازاروف, "مواضيع تشيخوفية" لكيرا موراتوفا, "سماء طائرة. فتاة" لفيرا ستوروجيفا, "كوبيك" لإيفان ديخوفيتشني, "العاشق" لفاليري تودوروفسكي و"في حراك" لفيليب يانكوفسكي من انتاج 2002.

اما من ابرز اعمال هذه السنة فنذكر "الأب والابن" لالكسندر سوكوروف, "مع الحب ليليا" للاريسا ساديلوفا, "النزهة" لألكسي اوتشيتل, "العجزة" لغاينادي سيدوروف, "بابوسيا" لليديا بوبروفا, "كوكتيبل" لبوريس خليبنيكوف, و"العودة" للمخرج اندريه زفياغينتسوف الذي نال عنه الاسد الذهبي في مهرجان فينيسيا هذا العام. وعلى رغم انه من الصعب التكهن بما ستقدمه في السنوات المقبلة والى اين ستصل, لكن المؤكد ان هذه السينما تمتلك الكثير من مقومات النهضة, ولعل السينما الروسية الجديدة لا تزال في طور المخاض ولم تقل كلمتها بعد في الألفية الجديدة, ومنذ الآن ثمة من يهمس بـ"الموجة الجديدة" في روسيا التي ستترك تأثيرها في السينما الاوروبية بأكملها.

جريدة الحياة في  20 فبراير 2004

كتبوا في السينما

 

مقالات مختارة

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

بسام الذوادي ـ لقاء

      مهرجان البندقية.. يكرم عمر الشريف

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

آسيا جبّار عبّرت عن الهواجس الدفينة للمرأة

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

 

 

فجوة تتسع بين السينما وجمهورها

وتنفذ منها السينما الأمريكية ببساطة

نوار جلاحج

المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف