برتولوتشي: لقاء |
مان يوظف السرد الهوليوودي في خدمة التفكيرالفلسفي يصنع مايكل مان من فيلمه الجديد "متحاذ" قصيدة سينمائية مؤثرة صلاح هاشم |
من ابرز الأفلام التي خرجت للعرض حديثا في فرنسا، فيلم "متحاذ" (Collateral) للمخرج الأمريكي الكبير مايكل مان، مخرج أفلام "محمد علي" و"اكتشافات" و "نظرية المؤامرة" و HEAT وغيرها، ويضطلع ببطولته النجم المعروف توم كروز، في صحبة الممثل الأمريكي الزنجي الصاعد جامي فوكس، ونعتبره من أقوي الأفلام الأمريكية التي خرجت للعرض، في أعقاب حادثة 11 سبتمبر2002، وتأثيراتها علي صناعة السينما في هوليوود، والشرخ الدامي الذي استحدثته في الكيانات الأمريكية، ثقافيا وسياسيا وحضاريا ونفسيا. والحاجة الي سينما أمريكية جديدة مغايرة، حيث يبرز الفيلم من جهة، واقع المجتمع الأمريكي الآن بعد الحادث، وذلك من خلال تصويره لمدينة لوس انجلوس العملاقة في الليل، بميادينها الواسعة الموحشة، وملاهيها الصاخبة بموسيقي التكنو وأنغام الجاز، ويعرض لحياة سائق تاكسي في تلك المدينة التي تلتهم البشر، وظروف ليلة مهببة سوداء مرعبة عاش أحداثها، وهو لا يصدق أن ما يحدث له، يمكن ان يكون واقعيا وحقيقيا. ويالها حقا من ليلة رهيبة ومجنونة، عاشها هذا السائق الأمريكي الحالم الساذج، ليلة انتزعته من عش الأوهام، بدفئه وخيالاته وورديته، لكي تلقي به علي صخرة الواقع ودمويته، ولا يتمناها أي أحد لأي إنسان.يحكي الفيلم عن سائق تاكسي زنجي وديع حالم ( بالحلم الأمريكي طبعا) في لوس انجلوس، وذات ليلة، تصعد إلي سيارته قاضية زنجية شابة، بدرجة نائب عام، تستريح له، فتروح تشكو له ظروف عملها، و تحكي له عن طبيعته وخطورته، حيث تقف قاضيتنا الشابة، ولا تخلو من جمال، تقف بالمرصاد لعصابات الأوغاد والمجرمين في المدينة، الذين يشترون ضمائر الناس بأموالهم، ويوكلون للدفاع عنهم أشهر المحامين، إلا أنها تنجح دوما في العثور علي الأدلة التي تفضحهم، وتفضح جرائمهم، وتقودهم بالتالي إلي الحبس، لذلك يريد البعض منهم، أن يتخلصوا منها، وقتلها بأية طريقة. وينصت سائق التاكسي إلي حديثها، وينجذب نحوها، فهاهي امرأة زنجية، متعلمة ومثقفة، لكنها وحيدة مثله في لوس انجلوس، ومعرضة أكثر منه ويا للغرابة، معرضة لخطر الموت، برصاصة من قاتل مأجور، لكن هاهي حين تهبط من تاكسيه، تتردد قليلا، ثم تعود إليه وتمنحه ورقة سجلت فيها له رقم تليفونها، ويستطيع إذن من الآن فصاعدا أن يخابرها في أي وقت، فقد استراحت إليه علي ما يبدو، وتريد لاشك أن ترتبط معه بعلاقة.بعدها بقليل يصعد إلي تاكسيه شاب أنيق، في مهمة في لوس انجلوس، ويعرض عليه صفقة لا يستطيع صاحبنا سائق التاكسي أن يرفضها: أن يوصله في الليل إلي خمسة أماكن في المدينة، وحالما ينتهي من مهمته فيها، عليه أن يوصله إلي المطار، ليأخذ أول طائرة تغادره في الصباح الباكر، نظير مكافأة محترمة، تصل إلي سبعمائة دولار، و تدفع له عند المغادرة. وبالطبع يوافق سائق التاكسي، ويظن أن مبلغا كهذا، سوف يساعده في تحقيق حلمه " الأمريكي " الذي سوف ينتشله من هوة الفقر، حلمه في إنشاء منتجع سياحي للأغنياء فقط، وليس للفقراء المفلسين المعدمين من أمثاله، في احدي جزر المالديف، التي يحتفظ لها بصورة في تاكسيه، تظهر فيها شواطئها الرائعة، فينطلق بصاحبنا إلي أول عنوان في القائمة، ويقف بسيارته ينتظره، لكنه يفاجأ بجثة تسقط من حالق علي مقدمة التاكسي فتهشم زجاجه، ويتناثر دمها في كل مكان، وإذا بصاحبنا الشاب الأنيق الغريب، يطل من نافذة في الدور العلوي في العمارة، النافذة التي سقط منها القتيل، ثم يهبط مسرعا، و يخرج من العمارة، وهو يلوح بمسدس في يده، ويطلب منه أن يكف عن الصراخ إن يا الهي ماذا يحدث لي، في وسط الشارع، ويأمره أن ينطلق به إلي العنوان التالي، حسب الصفقة المتفق عليها، كما يهدده بالقتل إن رفض، بعدما صار الآن متورطا معه في الجريمة التي ارتكبها، بل وفي بقية سلسلة الجرائم، التي سوف يرتكبها تباعا في الفيلم. ويدور حديث داخل التاكسي بين السائق ماكس، الذي يلعب دوره الممثل الزنجي القدير جامي فوكس، والراكب الغريب المجهول، الذي يدعي " فانسان " ويلعب دوره توم كروز، ونتعرف عليه، و ندرك أن حظ سائق التاكسي التعس، قاد اليه عزرائيل ذاته، في صورة هذا القاتل المأجور البارد الذي لا يرحم ضحاياه، والذي يجهل سائق التاكسي، ونحن معه، وحتى هذه اللحظة، أن من ضمنهم القاضية الشابة الحسناء التي التقي بها في أول الفيلم.فيلم "متحاذ" COLLATERAL هو من أجمل وأذكي الأفلام التي خرجت حديثا من مصنع الأفلام في هوليوود، وسنعرض لبعض ابرز نماذجها تباعا علي شاشة "إيلاف"، وهو يستحق المشاهدة عن جدارة، إذ يحقق بقوة السرد في السينما الأمريكية، بعد تشكيلها بحس عال مرهف في الإخراج، وإدارة ماهرة للمثلين، وتطعيم الفيلم بأجواء مشبعة بروح موسيقي البلوز الحزينة وأنغام الجاز، يحقق فيلما قويا وبديعا، أشبه ما يكون بقصيدة شعر سينمائية، تشدنا إليها بقوة عنصر التشويق، في تطور أحداث وسيناريو الفيلم وحبكته، حتي انها تجعلنا نتساءل باستمرار، كيف ستنتهي تلك الرحلة الجهنمية الدموية لسائق التاكسي، التي هي أشبه ما تكون برحلة الشاعر الإيطالي دانتي اليجيري في الجحيم، وهل سيستطيع يا تري أن يتخلص، وكيف، من تلك المصيبة، أو بالا حري تلك أللعنة التي حلت عليه في صورة عزرائيل، بحلول ذلك القاتل المأجور في تاكسيه، و نروح نرسم للفيلم ونهايته في أذهاننا، عدة احتمالات و سيناريوهات، ونحن نتابع أحداثه بشغف، كما تابعنا بالمثل أحداث فيلم " سائق التاكسي" للامريكي مارتين سكورسيزي.. لوس انجلوس في الليل: خلاء اصطناعي عبثي و موحش كما يشدنا الفيلم إليه، بقوة "المواجهة" بين القاتل المحترف وسائق التاكسي (مبارزة في التمثيل، يتألق فيها جامي فوكس أكثر ويخطف الاضواء من توم كروز) في رحلتهما عبر طرقات لوس انجلوس في الليل، وبصحبة موسيقي البلوز الحزينة، لأداء مهمة القاتل المأجور، في التخلص من خمسة أشخاص في ليلة واحدة، وهو لا يعرف حتى من هم، ولم يلتق بهم قط في حياته، أجل انه قاتل عدمي، لا يهتم، يتذرع باللامبالاة، ولا يتورع عن قتل من يقف في طريقه، لكنه حين يحكي عن طفولته وحياته لسائق التاكسي ماكس في الفيلم، نكتشف أنه كان أيضا نتاجا لهذا المجتمع الأمريكي الأناني الفردي وعنفه، و يرسم الفيلم، كخلفية لتلك المواجهة الإنسانية التي تدفع سائق التاكسي الزنجي في النهاية إلي التحول METAMORPHOSE يرسم صورة بانورامية رائعة لمدينة لوس انجلوس في الليل، فتبدو كما لو كانت مدينة خيالية افتراضية VIRTUELغير واقعية، مدينة باردة وعقيمة، غير إنسانية وهشة ( صورة مصغرة للمجتمع الأمريكي ومدنه العملاقة التي يضيع فيها البشر ) كما ثلاجة ضخمة في مشرحة لحفظ جثث ألموتي،.. مدينة جميلة فقط في الصورة السينمائية، وذلك الفراغ الأمريكي الموحش الذي تجسده، والممتد إلي ما لا نهاية مثل صحراء جميلة لكن بلا روح، وقد ذكرتنا صورة المدينة هنا في الفيلم، ذكرتنا بصورة المدينة، نيويورك أو لوس انجلوس، لم أعد أتذكر، في فيلم BLADE RUNNER، من أفلام الخيال العلمي للمخرج البريطاني ريدلي سكوت، وذلك عبر هذا الخلاء العبثي الاصطناعي الموحش البارد، ومن دون عابر طريق تسأله في تلك الصحراء الجرداء يا مؤمن عن وجهتك، فيدلك علي طريقك. فيلم " ملازم " هو فيلم فلسفي وجودي ممتع، متخفي في جعبة فيلم بوليسي حركي من أفلام الإثارة، وهو من هذه الزاوية، يحيد عن أفلام هوليوود، التي تنتمي إلي هذا النوع، حيث تتدخل حسابات خبراء "التسويق"، التي تفرضها الشركات المنتجة، وتضع عليه بصمتها، وتفرض علي المخرج النهاية التي تريد، وعليه في كل مرة، أن يقاوم ويحارب، حتى يصنع فيلمه، ويحافظ علي وجهة نظره ورؤيته، ولولا أن الفيلم، ينتهي نهاية " هوليودية " مؤسفة، لم نرض عنها مطلقا، ولا نريد أن نكشف عنها، لوضعناه في خانة " سينما المؤلف "، التي توظف السينما كأداة تفكير، وتأمل وتدبير في مشاكل وقضايا عصرنا. لكن يحسب لمايكل مان مخرجه، وعلي الرغم من تحفظاتنا علي نهاية الفيلم، يحسب له انه مازال يقاوم مع جملة من المخرجين المتميزين المستقلين في هوليوود، للخروج بالسينما الأمريكية التجارية النمطية من النفق المظلم الذي صارت إليه، في أعقاب الحادث المشئوم، والاقتراب بها أكثر من نبض الواقع، وأحلام البسطاء المقهورين المنسيين ( مثل سائق التاكسي الزنجي في الفيلم وأمه التعسة المريضة العجوز التي ترقد في المستشفي ) في حضارات الاستهلاك ألكبري الأمريكية، ويحسب له أيضا انه استطاع في فيلمه هذا باقتدار ومعلمة، أن يصالح مابين سينما المؤلف، من حيث هي "اختراع "للنظرة"، والفيلم البوليسي الذي يعتمد علي التشويق والمتعة والإثارة، كما صالح في فيلمه السابق عن محمد علي كلاي، صالح ما بين سينما السيرة الذاتية من ناحية، والدراما الاجتماعية المرتبطة بحركة التاريخ والواقع من ناحية أخري، بقصد تقديم "كشف" سينمائي متميز، لمتناقضات المجتمع الأمريكي، وطرح تساؤلات فلسفية جد عميقة، كما في هذا الفيلم، عن معاني الحياة في لوس انجلوس، بتلك المباني التي تبدو رغم جبروتها في الفيلم، عقيمة وهشة، وجدواها.. موقع "إيلاف" في 16 نوفمبر 2004 |