شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

مي المصري

الحرب على الإرهاب لم تكن حلم جدتي الأميركية

دمشق - فجر يعقوب

 

 

 

 

 

 

كعادتها لا تقبل المخرجة مي المصري بالتلصص على مصائر أبطالها, وهي تنشغل بالضحك عند الفلسطينيين, وتجيء إليه من موقع المنتمي والمشارك في النفاذ إلى سريرة الناس الملغزة. وهي ترى إن هذا الحس الملهم عادة في حياة أي شعب إنما يقبع (عندنا) في قيعان الذاكرة, لا يستنفذه (منّا) الألم الشديد, أو كثرة الشهداء الذين يغادرون خيمهم ومرحهم إلى ما هو مأسوي وأليم. مي المصري تصور فيلمها الجديد في فضاءين متضادين ومتواجهين - كما سيظهر لنا في حوارنا معها - لا ينفتح أحدهما على الآخر إلا باستحالة غير متوافرة الآن, وقد لا تتوافر أبداً, بل إن صعوبة ضبط الوضوح البؤري لعدسة صاحبة "أحلام المنفى" على أحدهما, أو على كليهما تزداد صعوبة وغلقاً مع هذا التجهم الشمولي الذي يعكسه الآن الفضاء الأقوى والأوحد في لعبة المرايا العملاقة, وهو يعيد إنتاج الخرافة الكلية على مستوى الكون. وإن كانت مي المصري تصور جزءاً مهماً من الكوميديا الفلسطينية هناك, فإن ميسون الأميركية من أصل فلسطيني, التي تعاني إعاقة في بلاد الكاوبوي, إنما تحتفظ بلهجتها القروية كأنما ورثتها للتو عن أهلها, وهي بطلة ملهمة على مستوى الرغبات, وتعمل على إعاقات الأطفال الفلسطينيين في مخيمات الشتات, فهي مندوبة الضحك إذ تشطرها إعاقة تتغلب عليها بتعظيم وتفخيم الحس الكوميدي الذي بدأ الفلسطينيون - عن قصد - باستعارته من الأعداء أنفسهم بوصفه السعد الذي يمجد الحياة. وفيما يظل محمد (المقلّد) للأحلام بنسختها الأصلية يقف على الحواجز الإسرائيلية المسورة بالجند والبلاهة ويستعير بطاقات مروره في وطنه من "الأعداء" ويقلد أمامهم ما يروق لهم رؤيتهم, أو الترويح به عن أنفسهم, وهم كثيراً ما يتسلون في لعبة المرايا الغبشة بتقليد ياسر عرفات وحسن نصر الله ومعمر القذافي... وصدام حسين الخ. وغاية المقلد المسكين في هذا الشطر المعزول عن الأحلام هو التنقل بين زوجتين.. واحدة قروية وأخرى مدنية بربطة عنق طرية ومشدودة بإحكام وعنوانها الهزل والضحك. الحوار مع مي المصري طويل ومعد لكتاب يصدر قريباً, فالأحلام هي معينها الذي لا ينضب في تأليف شاشتها, وكثيراً ما أجلت العمل على الفيلم الروائي الذي تعد له لأنها رأت أناساً يروقون لها وهم يؤدون أدوارهم أمام الكاميرا وينسحبون ببساطة, وكأن الواقع نفســه لا يعاد اقتباسه أو تدوينه بصرياً كما في النص الذي (ضحك لمرة واحدة), وانسحبت صوره خلف غمامة في مخيم أو وراء حاجز متكلف يقيمه الأعداء للنيل من بشاشة وجوهنا.. وضحكنا القليل.. زوادة أيامنا المقبلة. هنا جزء من الحوار:

·     ولدت لأب فلسطيني من نابلس وأم أميركية من ولاية تكساس. هل في هذا امتياز لك كمخرجة تتحدث عن طيران الفراشات في أفلامها؟

- لقد عشت طفولتي مع إخوتي الخمسة بين ثقافتين ولغتين تتعايشان أحياناً وتتداخلان وتتواجهان أحياناً أخرى. لم يكن مستغرباً البتة أن نتكلم بالعربية والإنكليزية, أو أن نأكل المقلوبة والهمبرغر, أو أن نسمع أم كلثوم والبيتلز, أو أن نحتفل بعيد الفطر وعيد الميلاد. ولقد تعلمت مبكراً التأقلم مع هاتين الثـقافتين. ولكن الثـقافة العربية كان لها التأثير الأكبر في شخصيتي, وحسم مسألة الهوية والانتماء.

وأعتقد جازمة إن معايشتي لهاتين الثـقافتين, وتنقلنا بين مدن عدة من نابلس إلى عمان إلى الجزائر وبيروت وسان فرانسيسكو (حيث أكملت دراستي الجامعية) كان له تأثير خاص فيّ كسينمائية. فمعايشتي لثقافات متعددة ولَّدت لدي حب الاكتشاف ومعرفة الآخر, كما أنها أكسبتني المقدرة على الرؤية بعين داخلية وخارجية - شرقية وغربية - وولّدت لدي اهتماماً خاصاً بمسألة الهوية والمكان والأشخاص الذين يعيشون على هامش التناقضات.

نابلس والإرث

·         إرث العائلة (المميز) هل يتبدد في كل مرة تزورين فيها نابلس؟!

- إرث العائلة لا يتناقض أبداً مع حنيني وانتمائي لمدينتي الأولى. في كل مرة أزور فيها نابلس تنتابني أحاسيس الحب والقلق والتحدي. أذكر جيداً انطباعاتي وأحاسيسي لدى عودتي للمرة الأولى خلال الانتفاضة عام 1989 من أجل تصوير فيلم "أطفال جبل النار", فقد كانت من أقوى التجارب التي عشتها وأغناها, وكان ضرورياً أن أخوض رحلة الاكتشاف بكاميرا تتجول في مدينة طفولتي وهي تتحول من حلم إلى حقيقة ملموسة أجدد حبي لها وأغرس فيها جذور هويتي المشتتة. احتضنني الناس وعاملوني بوصفي بنت البلد, وكنت أشعر من خلال الصورة أنني أستعير الوجوه والأمكنة الضائعة كلها. وكانت الكاميرا بمثابة بطاقة تعريف, أو جواز سفر لاختصار الزمن والمسافات, إذ لا يبدو التفسير مهماً أو حتى الكلام, فمن نظرة صغيرة كان يدرك الناس سبب وجودي, فنسيج نابلس الاجتماعي قوي ومميــز ولا شيء يخفى عن أنظارهم, لديهم رادار جماعي لرصد كل تحرك غريب, وبوسعهم إيصال الأخبار من زاروب إلى زاروب عبر النظرات والهمسات, فتعم المدينة خلال دقائق.

·         نابلس كما بدت لك في آخر مرة.. هل تتبدل فيها الأمكنة والناس في كل مرة تذهبين إلى هناك؟

- خلال زيارتي الأخيرة لنابلس صدمت لحجم الدمار الذي أصاب المعالم التاريخية والأثرية في البلدة القديمة, وللوهلة الأولى لم أشعر بأن الناس قد تغيروا, ولكن الزمن كما يبدو متوقفاً والحياة معلقة بانتظار المستقبل. وأنا أتساءل مع كل هذه الظروف إلى متى يصمد الناس. أخاف على مجتمعنا الفلسطيني في نابلس أن يصيبه الجمود, فينقلب على نفسه, ولكنني أتمسك بالصورة الأخرى, صورة الحياة المستمرة, وصورة الإنسان العادي الذي يرفض الاستسلام.

حلم فراشة

·         الشجرة العارفة التي تمنح أطفال أفلامك أسماءهم.. هل تسهم في فكِّ المضائق عن عزلة هؤلاء الناس؟

- في زواريب مخيم شاتيلا الموحلة تحلم منى بالفراشة, ويحلم عيسى بالعصفور والحصان الأبيض. خيال هؤلاء الناس مثل فانوس سحري يحوّل واقعهم البائس ويحملهم إلى ظلال الشجرة العارفة التي تمنحهم أحلامهم. وهؤلاء هم جيل النكبة الثالث الذي ولد في المخيمات الفلسطينية المنتشرة في لبنان وسورية والأردن, وهم حافظوا على هويتهم وأسماءهم ودفعوا أثماناً غالية مقابل هذه الهوية. العجيب أن النفاق مستمر, ففيما تتغنى الأنظمة العربية بالقضية الفلسطينية, باسمها, وباسم محاربة التوطين يُخنق الفلسطيني ويمنع من العمل والملكية والحد الأدنى من العيش الكريم.

·     تحاولين الوصول إلى الصورة الأخرى... صورة أمك في تكساس.. هل الذهاب إلى (الآخر) يمثل نوعاً من الاستحالة في محاولة فهمه بفكرته الجديدة عن الإرهاب؟

- شعرت بالحاجة الى الوصول إلى الصورة الأخرى خلال الحرب على العراق والتي تزامنت مع وفاة جدتي في تكساس. وفي هذه الأثناء كانت تشتد الحرب, وكنت منزعجة جداً من طريقة عرض الأخبار في التلفزيونات الأميركية, وكأنها سهرة منوعات أو مباراة رياضية. وكان الإعلام يلعب على عنصر الخوف لدى الجمهور ويشدد على التفاصيل المضللة مثل موضوع أسلحة الدمار الشامل والربط بين العراق وتفجيرات 11 أيلول (سبتمبر). ولقد كان مرعباً أن أكتشف مدى تأثير أفكار الكنائس التبشيرية الإنجيلية في الناس, وكيف يتم استغلال الدين من المحافظين الجدد لتبرير الحرب على العراق والاستيطان في فلسطين. وكانت بلدة جدتي في صميم الحزام الإنجيلي (بايبل بلت) الممتد من تكساس إلى بقية مناطق الوسط الغربي في أميركا. لقد أصبحت تكساس في الخطوط الأمامية لمواجهة عدمية وخطرة ليست لمصلحة الأميركيين أو العرب.. لم يكن ذلك حلم جدتي أبداً...

·         كأنك في لجّة الصورة الأخرى تتصيدين "أخطاء" أمة على أنقاض أمة أخرى... أهذا ما تريدينه من رحلتك المستحيلة إلى هناك؟

- عندما ذهبت إلى أميركا أدركت أن الكثير من انطباعاتي كانت مبنية على أفكار مسبقة ونمطية. أحسست بضرورة أن أفهم وأتعمق أكثر في تركيبة المجتمع الأميركي المكون من مزيج هائل من الثقافات والأعراق والتوجهات. ذهبت إلى هناك لأفهم صورة الآخر لأطرح أسئلة. لم أذهب لأحاكم أحداً, أو أصل إلى استنتاجات جاهزة, أنا أريد الوصول إلى "الآخر" كي أفهم نفسي وأفهم التحولات التي تعصف بالعالم.

تجربة طويلة

·     ذهابك إلى نابلس لتصوير "أطفال جبل النار" أدى في الواقع إلى انفضاض شراكتك الإبداعية مع جان شمعون (زوجها في الحياة), إذ كان يستحيل عليه الذهاب إلى فلسطين معك.. ثمة تفاصيل أدت إلى انفصالك مهنياً عنه.. ما هي؟!

- تعرفت الى جان في بيروت عندما كان يعمل متطوعاً في مؤسسة السينما الفلسطينية, فجمعتنا السينما وفلسطين. ومع جان كزوج وسينمائي عشت تجربة طويلة من العمل السينمائي المشترك التي شكلت الأساس للأعمال السينمائية التي قمنا بإخراجها في ما بعد في شكل مشترك أو منفرد. بدأنا الإخراج المشترك عام 1982 خلال حصار بيروت وكانت الحصيلة خلال عشر سنوات مجموعة من الأفلام: "تحت الأنقاض", "زهرة القندول", "بيروت جيل الحرب", "أحلام معلقة", كما قمنا بتصوير مجموعة من الأفلام القصيرة, وفي هذه الأثناء تزوجنا وأنجبنا ابنتينا نور وهنا. لقد صورنا أفلامنا في ظروف صعبة وخطرة ونجحنا بأن نكسر الطوق الإعلامي ونعرضها في العديد من محطات التلفزة العالمية. عندما ذهبت إلى فلسطين سنة 1989 لم يستطع جان المجيء معي, فصورت فيلم "أطفال جبل النار" في نابلس, وكانت تجربة صعبة وغنية ومحورية بالنسبة إليّ على الصعيدين الإنساني والسينمائي, بعد ذلك قمنا بإخراج مشترك لفيلم "أحلام معلقة" وكانت الحرب الأهلية قد أشرفت على نهايتها, وكنا في هذا الفيلم نعمل مع فريق تصوير, فوجدنا أنفسنا للمرة الأولى متفرغين كلياً للإخراج, فوقفنا جنباً إلى جنب قرب المصور وبدأ كل منا يعطيه تعليمات مختلفة..!! مسكين المصور.. لقد ضاع بيننا.

·     يبدو الجميع في "أطفال جبل النار" هدفاً للقناص.. حتى أنت كنت هدفاً له.. هل يصبح جوازك الأميركي فبركة مستحيلة لوجودك هناك؟!

- صورت الفيلم في أوج الانتفاضة الأولى, وكان جنود الاحتلال يفرضون منع التجول والحصار على نابلس من كل الجهات. كان بيت عمي الذي أقمنا فيه مشرفاً على البلدة القديمة والشارع الرئيس والمدرسة والمقبرة وكنا نصور من خلف الشبابيك, وفي بعض الأحيان نجازف ونخرج إلى الشوارع بغية التصوير وكنا نركض من زاروب إلى زاروب ونختبئ من القناصة المتمركزين على أسطح الأبنية وكنت أشعر بأنني مراقبة تماماً, فالمدينة تقع بين جبلين وكان سهلاً حصارها, وكان قلقي كبيراً على أطفال الفيلم وعلى فريق التصوير. جوازي لم يساعدني للدخول إلى المدينة عبر الحواجز, وقد حاولوا طردي من المدينة أكثر من مرة ولكنني كنت أعود كل مرة بمساعدة الأهالي وبفضلهم تم تهريب علب النيجاتيف المصورة خارج نابلس. وجودي بهذا المعنى كان رائعاً, وأحسست بأن هناك لغة مشتركة غير محكية مع أهل المدينة, فهم يريدون نجاح الفيلم ليصبح شهادة حية عن الاحتلال والمقاومة.

الحياة اللبنانية في 12 نوفمبر 2004