شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

في “مفكرة الدراجة”

غيفارا قابل للتصديق في اكتشاف ذاته وتاريخنا

محمد رضا

 

 

 

 

 

 

حين قرر جوزيه ريفييرا، وهو كاتب مسرحي وتلفزيوني في الأساس، كتابة سيناريو   مفكرة الموتوسيكل ، الفيلم الذي يتسلل حالياً الى العروض العالمية بعد أشهر على عرضه في مهرجان كان السينمائي، لم يكتف بمذكرات ارنستو غيفارا  بل أضاف إليها كتابا وضعه ألبرتو غرانادو  بعنوان   الترحال  مع تشي غيفارا  Travelling With Ché Guevara مؤلفا من الكتابين مادة الفيلم الذي أخرجه البرازيلي وولتر سايلس.

من العبث الحكم على الفيلم من زوايا لا يكترث الفيلم لها. مثلاً، معظم النقاد الذين قرأت لهم منذ  الربيع الى اليوم حول هذا الفيلم، غرقوا في التحليلات التاريخية والسياسية وما إذا كان الفيلم يجسّدها أفضل تجسيد.  البعض نقل عن البعض الآخر أن تشي غيفارا  لم يكن  - في العام  تاريخ وقوع أحداث الفيلم - شبيهاً بالممثل الذي أدّاه، غابيل غارسيا برنال. ولا أدري كيف يمكن أي واحد يعيش بعد أكثر من خمسين سنة على مرور أحداث الفيلم، ناهيك بأنه قد يكون هو بدوره أقل من خمسين سنة من العمر، يستطيع أن يجزم أن الممثل كان او لم يكن شبيهاً وبالتالي مناسباً للدور كما لو أن التناسب هيئة وملامح فقط. يكفي أن وولتر لم يضع محل غيفارا المعروف بطوله وكبر قامته، ممثلاً قصيرا وبدينا مثلا، او استبدله إمرأة او خلق له قصة حب مع جنية. فيلم وولتر سايلس إذ تجاوز هذا العبث، طلب من النقاد أن يتجاوزوه بدورهم، لكن الدعوة لا تبدو وصلت الى الجميع.

مفكرة الدراجة ليس فيلماً سياسياً بالمعنى الذي يحب البعض الغرق فيه فيبتعدون عن الفيلم ليظهروا فصاحتهم في التاريخ والجغرافيا والسياسة معاً. إنه سياسي من دون أن يكون خطابياً او إرشادياً و فكّر معي على هذا النحو . السياسة فيه هي في السحب التي تغطي سماءه. في تلك اللحظات التي يبدأ فيها وعي غيفارا بالتحرّك في إتجاه التساؤلات التي لم يعد في الإمكان التغاضي عن طرحها. في تلك الإكتشافات الصغيرة - الكبيرة التي تطالعه حالما يقرر، مع صديقه ألبرتو غرانادو (رودريغو ديلا سيرنا)، القيام برحلة على دراجة نارية قديمة (موديل 1939)، بالكاد تستطيع تلبية حاجة الذهاب الى سوق الخضر القريب، تشمل ثلاث دول لاتينية متقاربة. ينطلقان من بوينس آيريس، الأرجنتين، الى تشيلي، بيرو وفنزويلا. غيفارا الآتي من عائلة مرتاحة مادياً يختبر لأول مرة، وهو في سن الثالثة والعشرين من العمر، الوجه الآخر (والأكبر؟) للحياة في قارته. يهضم ما يراه ومع نهاية الفيلم يقرر أن يبقى في ذلك الوجه الى الأبد.

أكثر من ذلك، ففي حين يسرد شيئا من ذاكرة ذاتية لبطليه، ينجح في سرد الكثير من تاريخنا عموماً. ليس مطلوبا من أحدنا أن يكون مع او ضد هذا المبدأ او ذاك لكي يشاهد هذا الفيلم ويتحسّس ما يتحسسه. المشهد الذي ربما يكتنز العمل كله في هذا الصدد هو حين يتسلم تشي رسالة من صديقته تخبره فيها بأنها قررت تركه. الكاميرا على وجهه ونعلم كل شيء من ملامح الممثل غير الإنفعالية. لا يلي ذلك ما يلخص فيه الرسالة لصديقه ولا هو يقرأ بصوت عال حتى اللي ما سمع يسمع !.

حكاية دراجة

في الرابع من كانون الثاني سنة 1952 بدأت رحلة الصديقين غير مسبوقة بأي وعود سوى الوصول الى فنزويلا على ظهر تلك الدراجة، او بأي وسيلة أخرى، في الوقت المناسب للإحتفاء بعيد ميلاده الثلاثين بعد أشهر قليلة. ومن البداية يتعامل وولتر سايلس مع الموضوع كما لو أن الفيلم هو كل شيء باستثناء سيرة حياة. هناك قدر ملحوظ من المعالجة الكوميدية للمطبّات التي يقع فيها الصديقان في هذه الرحلة. الدراجة التي تشكو من حملها وسنوات عمرها، الجوع والإفلاس اللذان يدفعان ألبرتو لمحاولة تقديم صديقه تشي كطبيب متخصص لعلهما يحظيان بطعام في إحدى القرى التي توقفا فيها. علاقة تشي (يناديه الفيلم بإسمه الأصلي أرنستو طوال الوقت) بصديقة له والتي تنتهي بما يشبه التلاشي (هو يعدها بالعودة، هي ستفكر هل كانت ستنتظره ثم تبعث إليه بتلك الرسالة). هذه وغيرها حكايات مستمدة من المذكرات التي اعتمدها الفيلم إنما معالجة بحنكة من يريد أن يؤسس شخصياته بأجواء مخفّفة قبل أن تشحنها التجربة بما يزيل تلك الأجواء ويبدّلها.

الدراجة هي الشخص الثالث. مثل حصان المخرج التركي علي أوزجنتيرك في فيلمه البديع حصان (1982) او دراجة المخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا في كلاسيكيته سارق الدراجة (1948) يلعب دوراً مهماً في  تكوين الحدث. لكن دور هذا الشخص ينتهي قرب منتصف الفيلم وبعد مشهد يحاول فيه تشي مطارحة زوجة الميكانيكي الذي كان يشتغل على تلك الدراجة لكي تكمل الطريق. حين يرتاب الرجل بنيات تشي ويراه يراقص زوجته يرتفع ضغط دمه ويهاجم ثوري المستقبل ما يدفع هذا الى الهرب مع صديقه - حمداً لله أن الرجل كان انتهى من إصلاحها. ولا يمضي وقت طويل قبل أن تلفظ تلك الدراجة النفس ومعها، باختيار دقيق ناجح من المخرج، تتوارى اللمسات الكوميدية الأولى كما لو أن موت الدراجة كان بمثابة شيخ رحل بعد إتمام وصاياه.

شحنة الوعي

الإنعكاس الأول لتبلور وعي تشي غيفارا بمحيطه بيئيا واجتماعيا، وبالتالي سياسياً، يأتي بعد ذلك بقليل عندما يصل وألبرتو الى قرية في أطراف صحراء أتاكاما في تشيلي حيث يلتقيان بمزارعين تم سلب أراضيهم. إثنان من هؤلاء يخبران تشي بأنهما اقتلعا من أراضيهما لأنهما شيوعيان. المشهد التالي لتشي غيفارا يلتقط حجراً ويرمي به شاحنة تحمل عمّال مناجم تم جلبهم من خارج المنطقة. تصرّف لا يبني الفيلم عليه ردّة فعل فيزيائية، لكنه في سياق المرحلة من الفيلم التي يعايش فيها غيفارا وألبرتو غرانادو ثمار توغلهم في تلك الحياة الخشنة - القاحلة للناس، ذو أهمية كبيرة. المخرج سايلس يتوخى عبر الفيلم كله تراكم تلك الملاحظات مبعثرة ومنفردة لكي تصاحب حكايات الطريق والرفقة  وصولاً الى تشكيل الوعي السياسي الأول للثائر غيفارا مع نهاية الفيلم.

الفصل النهائي من المشاهد يقع في منطقة سان بابلو الأمازونية. هناك، وبعد أحداث تزيد من شحنة الوعي الإجتماعي التي تكوّن منها وقوفه على الحال المدقع الذي وصل إليه هنود الإنكا، يصل تشي وألبرتو الى مستشفى لعلاج حالات الجزام. كلاهما يعجب بالإستعداد المهني للمستشفى والرعاية الإنسانية للطبيب المسؤول وفريقه وممرضيه، لكن ما يثير أسى تشي أن مكان عيش الفريق الطبي يقع على جانب من نهر جارف والمستشفى بمصابيه يقع على الجانب الآخر منه. تشي يقرر أن مكانه ليس مع الأصحاء بل مع المصابين. الرمز الواضح كان يمكن أن يأتي فجاً وثقيلاً، او ساذجاً وعاطفياً، لكن صياغته، كتابة وتنفيذاً، منعته من أن يكون هذا او ذاك.

في الفيلم نرى قرار تشي غيفارا ترك حفلة أقيمت على شرفه وألبرتو في مركز إقامة الطبيب وحاشيته، مفاجئا لهؤلاء نظراً لخطورة السباحة في النهر (القارب كان في الناحية الأخرى ولن يعود قبل صباح الغد). تشي يرمي نفسه في النهر ويسبح. من غادرهم خائفون عليه ومن يتوجه إليهم كذلك، ثم مع اقترابه من الشاطىء الجانبان يصفقان له ويفرحان بسلامته. إنه تحدٍ   من ناحية لكنه بلوغ  النضج  (لتلك المرحلة على الأقل) من ناحية أخرى، ثم دلالة على كنه اختيار غيفارا  ثالثا.

كاميرا محمولة

كسيرة ذاتية هو مشحون بالإكتشاف عوض أن يحكي سرداً قصصياً من زاوية أنا أعلم بما حدث لأني عشته بالفعل . السرد مثل الرحلة ذاتها تحفّه الأحداث غير المنظورة مسبقاً. عليك أن تكون قرأت سيناريو جوزيه ريفييرا لكي تعلم ما الذي سيحدث بعد عشر دقائق او نحوها. المعالجة فنياً حيادية وسياسياً ليست كذلك، لكن الفيلم لا يعتمد الخطابة ولا يكترث لأن يؤكد لك هذا المنحى او ذاك. ما يقدّمه، تشعر ثم تقرأ فتدرك أنه كان حقيقيا، هادفاً ومستوحى من وجهة نظر ليس عليها أن تبرهن لك عن تعاطفها مع الشخصية او مع الرسالة في كل مرة تفتح بها الكاميرا على مشهد.

الحديث عن الكاميرا مثير. إنها كاميرا محمولة باليد من مقاس  مم (تم بعد ذلك نفخ الفيلم الى مقاس مم).  على عكس ما تنضح به التجارب الإيرانية طوال الوقت، لا تحاول الكاميرا أن تقف حائلاً بين المشاهد والفيلم مذكّرة بجهدها هي، الذي عادة ما يكون جهداً مزيّفاً كون كل فيلم مصوّر بكاميرا يحمل جهدا مماثلاً، ناجحاً ام فاشلاً في نتيجته.  غوتييه يواكب الحدث بإيقاعه وحساسيته ولا تفوته فرصة الإهتمام بشروط تصوير المشاهد القريبة من ممثليه (داخلية او خارجية) والإلمام بالخلفية الطبيعية الثرية والمختلفةحسب المواقع في الوقت نفسه.

نقد البعض في الغرب لأن غيفاراً كان ممتلئاً أكثر من الممثل الذي يؤديه لا يمنع من أن الممثل بارنل يؤديه جيّداً ما يجعل الصفة البدنية مجرد ...  صفة بدنية. غاييل غارسيا بارنل يعيش أحلى أوقاته ممثلاً. لقد أنطلق في فيلم ألييندرو غونزاليس الحب عاهر (2000) ثم تسلمه ألفونسو غوارون في وأمك أيضاً  (2001) ثم شاهدناه بطل فيلم جرائم الأب أمارو (). مفكرة الدراجة يقع بين هذا الفيلم الأخير لمخرجه كارلوس كاريرا وفيلم بدرو ألمادوفار تعليم سيء الذي عُرض أيضا في مهرجان كان .  

مفكرة الدراجة أفضل الفيلمين اللذين شاهدهما هذا الناقد للمخرج وولتر ساليس. لا أعرف شيئا عن فيلمه الأول أرض غريبة (1995)، لكن فيلمه الثاني سنترال ستايشن (1998) الذي قام على رحلة إمرأة وطفل في بقاع البرازيل كان لافتاً بشدّة. فيلمه الثالث خلف الشمس (2001) كان مهماً ومدّعياً في  الوقت نفسه. أما هذا فيكتنز أهمية الفكرة والموضوع الى جانب تحرر المخرج من مشاكله الفنية السابقة.

النهار اللبنانية في 7 نوفمبر 2004