شعار الموقع (Our Logo)

 

مقالات مختارة

حوار صريح مع المخرج السينمائي المصري محمد خان

عمر الشريف يفوز بـ"سيزار" أفضل ممثل

جوسلين صعب:السينما التسجيلية تمنح رؤية نافذة للاحداث

ناصر خمير: أفلامي حلم... وعندما تحلم تكون وحدك

      برتولوتشي: لقاء

رندة الشهال: أهل البندقية يحبونني

تاركو فسكي: بريق خافت في قاع البئر

كتبوا في السينما

 

 

 

 

 

 

130 رئيساً في عشرات الأفلام أقواهم جون كنيدي ... أما "البهدلة" فمن نصيب نيكسون

ابراهيم العريس

 

 

 

 

 

 

كل الرؤساء والزعماء في افلام وسيهانوك وراء الكاميرا

اذا كانت السينما الأميركية بدت, دائماً, من اكثر سينمات العالم اهتماماً بالرؤساء, الى درجة ان في الإمكان احصاء عدد مدهش من الأفلام الهوليوودية التي تتخذ من شخصية الرئيس محوراً لها, فإن الكثير من السينمات الأخرى في العالم, تناولت بدورها الرؤساء... بل ان هذا التناول كان سمة اساسية من سمات الفن السابع منذ بداياته, إذ انه يمكن القول ان كل الزعماء والرؤساء, من ابناء عصر السينما - القرن العشرين - كما من اولئك الذين ظهروا على مدى التاريخ, فراعنة وملوكاً وسلاطين وغيرهم, ثمة افلام تحاول ان تتحدث عنهم, ناجحة في ذلك احياناً, فاشلة في احيان اخرى, وبين بين في احوال ثالثة.

وفي القرن العشرين, تناولت السينما معظم الرؤساء وكبار القادة... خصوصاً ان بعض هؤلاء, بمن فيهم لينين وهتلر, وحتى فرنسوا ميتران الذي أنجز في فرنسا اخيراً فيلم يستعرض ايامه الأخيرة, سيعرض, وسط سجال صاخب, خلال الشهرين المقبلين - ادركوا باكراً, وكل على طريقته اهمية فن السينما. ونعرف في هذا الإطار ان ثمة افلاماً حققت عن لينين, ثم عن ستالين في حياتهما. كما ان هتلر ظهر في الكثير من الأفلام... لكننا نعرف ان الأفلام التي حققت ضد الديكتاتور النازي كانت اكثر بكثير من الأفلام التي حققت بشكل ايجابي عنه. وإذا كان آخر فيلم ألماني عن هتلر حقق حتى الآن, أثار خلال الشهور السابقة جدلاً كبيراً, فإن الفيلم الأفضل عن الزعيم النازي, يظل واحداً حقق خلال حياته, ولم يشر إليه بالاسم, وهو طبعاً فيلم "الديكتاتور" لتشارلي شابلن, الذي سخر من هتلر سخرية حادة, ولا يزال يعتبر الى اليوم مرجعاً في مجاله وواحداً من افضل افلام السينما العالمية. ولا بد من ان نشير هنا الى غرابة تتعلق بهذا الفيلم, حيث انه هوجم في اميركا, قبل هزيمة النازيين, اكثر مما هوجم في اي مكان في العالم, وطالب كثر بمنع عرضه اواخر سنوات الأربعين بحجة انه فيلم... مناصر للشيوعية. والحال ان هذه الواقعة تكشف استشراء النازية في الكثير من الأوساط الأميركية, اكثر مما تكشف "شيوعية" شابلن المزعومة!

وستالين بدوره حققت عنه افلام عدة جلّها مناصر له ممجد لسجاياه. ولكن بعض ما حقق عنه كان قاسياً في انتقاده لا سيما بعد رحيله ثم بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.

طبعاً ليس من السهل هنا احصاء كل الأفلام التي حققتها السينما عن كل الرؤساء والزعماء. من اللندي الى كاسترو وغيفارا, ومن شارل ديغول الى فرانكو ومانديلا وغيرهم. ولكن يمكن التوقف عربياً عند ظاهرة تمثل في شبه غياب هذا النوع من السينما, اللهم إلا في مصر حين حقق فيلمان عن جمال عبدالناصر وفيلم عن أنور السادات, وطبعاً بعد رحيلهما بسنوات... كما لوحظ ظهور خاطف لبعض الرؤساء والزعماء في افلام قليلة اخرى (عرفات في فيلم لأوليفر ستون, مثلاً) وإذا كان لنا ان نختتم هذا الكلام, فإنما نختمه في اشارة الى علاقة من نوع آخر بين واحد من قياديي القرن العشرين, هو ملك كمبوديا, المتنازل عن العرش قبل ايام لابنه, نورودون سيهانوك. فهو يشكل حالاً فريدة, إذ انه لم يظهر على الشاشة كممثل, او كشخصية في فيلم يحكي عن حياته, بل وقف, وعشرات المرات خلف الكاميرا... مخرجاً لأفلام كمبودية كتب لها السيناريو بنفسه, ونالت حظوة لدى شعبه. وغالبها يتألف من حكايات حب وميلودرامات مدرة للدموع.

كما نختتم هذا الكلام اخيراً بالإشارة الى ان الديكتاتور العراقي المخلوع صدام حسين, آمن بدوره بالدور الدعائي والدوغمائي للسينما, ما جعله ينفق ملايين الدولارات على إقامة صناعة سينمائية في بغداد, وصلت الى "ذروتها" في فيلم يحكي جانباً اسطورياً من حكاية حياته بعنوان "الأيام الطويلة" وهو من اخراج المصري توفيق صالح ومثل دور صدام حسين فيه صدام آخر قريب له, التقطه توفيق صالح في شوارع تكريت وأسند إليه الدور... ليصبح بعد ذلك بسنوات, صهر الديكتاتور وأحد ضحاياه, إذ استدعاه مع شقيقه من عمان وأعدمهما. والغريب ان اهل الفن العربي يومها لم يوقعوا على اي بيان ينددون فيه بقتل "ممثل" عراقي شاب, غدراً.

الحياة اللبنانية

5 نوفمبر 2004

 

في مجرى حوار تلفزيوني في إحدى محطات التلفزة الفضائية العربية, كان مخصصاً للحديث عن اهتمام السينما الأميركية بحياة سادة البيت الأبيض المتعاقبين, سألت مقدمة البرنامج ضيفها الناقد عما اذا كان يعتقد أن ثمة امكانات, لاحقاً, لتحقيق أفلام أميركية عن الرئيس السابق بيل كلينتون, فرد بالايجاب مبتسماً بما يعني أن ثمة, على الأقل, في تصرفات كلينتون الحميمة ما يمكن أن يجعل منه بطلاً درامياً اشكالياً, استخدم لفترة قاعات البيت الأبيض لغايات غير رئاسية. وإذ ابتسمت المقدمة وقد فهمت ما بين السطور, استطردت سائلة: "وماذا عن جورج بوش... هل يمكن للسينما يوماً أن تدنو منه؟". وكانت المقدمة تعني بالطبع بوش الابن, لا بوش الأب... فكان جواب الضيف الناقد: "لا... لا أعتقد, إذ ليس في حياته أو في ولايته ما يشكل عنصراً درامياً أو اشكالياً يمكنه أن يحمل ثقل فيلم بكامله". كان الحديث عند منتصف الولاية الأولى... ورأى الناقد هذا الرأي على رغم الأحداث الكبيرة التي ملأت ولاية جورج دبليو, من العمليات الإرهابية في أيلول (سبتمبر) 2001, الى حرب أفغانستان, الى حرب الخليج الثانية واسقاط نظام صدام حسين, غير المأسوف عليه, وصولاً الى غرق الأميركيين وحلفائهم في الرمال العراقية المتحركة من دون أمل واضح بالخروج منها.

ليس شخصية درامية

واليوم, إذ يبدو حتى كتابة هذه السطور, ان جورج بوش في طريقه الى أن يحكم ولاية ثانية, إلا اذا حدث ما ليس في الحسبان. من الواضح ان الناقد يمكنه أن يظل عند رأيه: لا يمكن لجـورج دبليـو وحكمه ان يشكلا اية مـادة درامية حقيقية. وهو أمر أكده الفيلم الذي ظهر فيه جورج دبليو بوش, شخصياً, في دور تمثيلي لم يكن هو قد حسب حساباً لظهوره فيه: "فهرنهايت 11/9" لمايكل مور. الفيلم الوثائقي عن السنوات الأولى من ولاية بوش, والذي الى استخدام مخرجه مشاهد عدة مصورة يظهر فيها الرئيس الأميركي في مراحل مختلفة من ولايته الأولى, صوره فعلاً وهو يتحدث اليه, أي الى مايكل مور: في المشهد يتقدم مور من الرئيس شخصياً ويعرفه بنفسه, فيبتسم هذا بشيء من البلاهة والسخرية ويقول له: "مور... لماذا تراك لا تبحث لنفسك عن مهنة حقيقية؟". هذه العـبارة, كما نعرف, أثارت اعجاب مؤيدي جورج دبليو, من الذين شاهدوا الفيلم, لكنها كشفت للآخرين كم ان الرئيس الأميركي ممثل سيئ.

المهم, ان كل مشاهد جورج بوش في "فهرنهايت 11/9"... وكل المشاهد التي صورته في نصف دزينة من أفلام اخرى تناولت المواضيع نفسها تقريباً, لم تكشف أبداً ان في حياة هذا الرجل وشخصيته ما يؤهله لأن يكون شخصية سينمائية ذات يوم... إلا في أفلام خيالية كوميدية. وهو أمر تنبهت له احدى محطات التلفزة الأميركية باكراً, فعرضت حلقات عدة متخيلة عن آل بوش في البيت الأبيض وحياتهم. لكن الفارق كبير طبعاً بين أن يتحدث الفن السينمائي أو التلفزيوني عن شخصية رئيس وأن يسخر منه محولاً اياه الى شخصية كوميدية. ومن هنا يمكن أن نقول منذ الآن ان الرئيس الأميركي المنتهية ولايته الأولى لتبدأ - على الأرجح - ولايته الثانية, لن يجد من السينما الهوليوودية "الحقيقية" - أي الاستعراضية التجارية - أي اهتمام حقيقي. ومع هذا, نعرف ان هوليوود, اهتمت ومنذ بداياتها بحياة الكثير من الرؤساء الأميركيين, بدءاً من أبراهام لنكولن وجورج واشنطن, وصولاً الى نيكسون وكنيدي و... كلينتون وإن في طريقة مواربة.

من الموتى الى الأحياء

غير ان ما يجب أن يلفت النظر هنا هو أن اهتمام السينما بـ"شاغل البيت الأبيض" بحسب التعبير المتعارف عليه, كان في الغالبية العظمى من الحالات, يتناول رؤساء ميتين. بمعنى ان الصالح ليكون شخصية درامية في فيلم أميركي - بحسب تعريف هوليوود - هو دائماً رئيس ميت. ولنضف الى هذا, هنا, ان معظم الأفلام الأميركية, وحتى سنوات السبعين, كانت حريصة على أن تقدم الرئيس, الحقيقي أو المتخيل, في صورة ايجابية في أحسن الأحوال, وإشكالية تحمل شيئاً من الالتباس في أسوئها. ومن المؤكد أن هذا العرف لم ينبع من أية ضغوطات رقابية أو من أية قوانين معمول بها, أو مواثيق متعارف عليها. بل من واقع تعرفه هوليوود جيداً: يقول ان الرئيس الأميركي هو رمز الأمة, حتى بالنسبة الى معارضيه... ويكون من التطاول على الأمة تصويره صورة قبيحة, أو مفرطة في انتقادها إياه. بل ان هذا الأمر لا يزال, حتى اليوم, على حاله إذ غالباً ما تتجاوز السينما العواطف الهوليوودية الخاصة - والتي تميل لدى المبدعين عامة الى نوع من يسار الوسط يجد نفسه, عادة, أقرب الى تقدمية الحزب الديموقراطي منه الى رجعية ومحافظة الجمهوريين -, لتكتفي بتصوير بطولات الرئيس. وبخاصة حين يكون الرئيس متخيلاً, لا رئيساً حقيقياً: كما هي الحال في "اير فورس 1" و"آرماجدون" و"يوم الاستقلال"... وكلها أفلام صورت رئيساً متخيلاً يواجه أزمة حادة وخطيرة, تمسه وطنياً وشخصياً فيتعين عليه أن يوجد حلولاً ويتخذ قرارات في غاية الصعوبة. ونحن نعرف, في هذا الاطار ان النهاية تكون سعيدة, يوجد الحل, وتظهر بطولة الرئيس وتماسك شخصيته.

غير ان هذا الوصف لا ينطبق دائماً على واقع الحال... ولا سيما منذ النصف الأول من سنوات السبعين. ولنوضح: في ذلك الحين كانت ثورة تعبيرية - بل سياسية - جديدة, اندلعت في هوليوود, إذ ظهر فيها نحو نصف دزينة وأكثر من مخرجين شبان أتوا من لغات سينمائية جديدة ومن أحوال وأفكار ثورية, سياسياً وفنياً, سموا يومذاك بأصحاب اللحى (من بينهم كوبولا وسكورسيسي وسبيلبرغ ودي بالما ولوكاس). صحيح ان هؤلاء, الذين سيصبحون خلال فترة قصيرة من الزمن سادة هوليوود وأفضل المجددين في السينما الأميركية, بل في سينما العالم ايضاً, لم يقتربوا من السياسة, مباشرة, في أفلامهم, لكن تأثيرهم كان قوياً في من تلاهم, وعلى انعتاق هوليوود في شكل عام من الأعراف والضوابط القديمة. بل لنقل ان السياسة إذ أتت مواربة وغير مباشرة في أفلامهم, كانت شديدة الفاعلية (السلطة والعائلة في "العراب", والانصات على حيوات الآخرين لغايات سياسية في "محادثة", ورد الفعل على هزيمة فيتنام في شكل بسيكوباتي أحياناً كما في "سائق التاكسي" وانتصار الضعيف على الجبار كما في "مبارزة" أول أفلام سبيلبرغ), بحيث راحت التابوات تتهاوى, سياسياً واجتماعياً وبخاصة من حول ثلاث مسائل باتت تبدو, تاريخياً, مترابطة: حرب فيتنام ونضال الفنانين ضدها, أزمة صراع الأجيال وبحث الشباب عن هوية لهم على ضوء الموسيقى والغناء واللامبالاة والمخدرات, وأخيراً فضيحة ووترغيت. والحقيقة ان هذه المسألة الأخيرة ستلعب في الموضوع الذي نحن في صدده هنا, الدور الجوهري. وعلى سبيل التذكير نذكر ان فضيحة ووترغيت التي أرهقت الضمير الأخلاقي الأميركي سنوات قبل أن تنتهي باستقالة ريتشارد نيكسون الذي حُمّل اثام الفضيحة, تتعلق بتركيز اجهزة تنصت على مقر رئيسي للحزب الديموقراطي في عز احتدام السجالات من حول فيتنام والكثير من القضايا الداخلية والخارجية الأخرى, بين الحزبين الرئيسين المتنافسين في الولايات المتحدة. لقد جرى سجال طويل حول هذا الموضوع طوال سنوات. وإذ جرم رئيس البلاد في نهاية الأمر من أجل مسألة ذات علاقة بالشأن العام وبالسياسة, للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية, شعر عشرات ملايين المواطنين بأن رأس السلطة قد قوض بعض أهم الأسس الأخلاقية التي قامت عليها هذه الأمة.

وعلى هذا النحو تضافرت الحساسية الهوليوودية الجديدة, مع الغضب الشعبي العارم, مع تحلل السلطة الرئاسية على ذلك النحو, ليخلق ذلك كله مناخاً جديداً لم يكن للسينما الأميركية عهد به من قبل. وهكذا, محل افلام البطولات والوعود الاجتماعية والاخلاقية - على طريقة فرانك كابرا - راحت السينما تمعن في ما سماه واحد من نقادها ونقاد نظرتها الى الحياة الأميركية "عملية جلد للذات من الصعب تبريرها".

اعتراض مرفوض

لكن هوليوود لم تتوقف عند مثل هذا الاعتراض. كانت افلتت من عقالها, ولم تعد لتجد مغبة في طرح أي موضوع - بما في ذلك, وهذا على هامش الحديث طبعاً, المجازر التي أسست للأمة الأميركية وكان الهنود الحمر, ثم سود أفريقيا المستعبدون ضحاياها-.

مهما يكن من الأمر فإن ما يمكن التوقف عنده اليوم, بعد نحو ربع قرن من بدء هذا "الفلتان السياسي والرئاسي" هو أن المحصلة تبدو معتدلة الى حد كبير: فإذا استثنينا حال الرئيس ريتشارد نيكسون الذي أعمل فيه عدد من أنجح الأفلام فضحاً ونهشاً, من الصعب العثور على أفلام نهلت من انتقاد حاد ما, لأي رئيس أميركي حقيقي. كل ما في الأمر أن الأفلام التي أرادت السخرية من المنصب, راحت تخترع رؤساء وهميين لا يشبهون اي رئيس حقيقي, لتوجه ملاحظاتها وانتقاداتها من خلالهم. وهكذا, اذا كان عدد الرؤساء الأميركيين الحقيقيين, الذين تناولت هوليوود اجزاء من حياتهم, سلباً - في شكل نادر طبعاً - أو إيجاباً - في شكل عام - لا يتجاوز العشرة رؤساء, فإن رؤساء الشاشة الهوليوودية يربو عددهم اليوم على المئة والثلاثين رئيساً. والأكثرية, على أية حال, تتألف من "رؤساء" مفترضين, تغلب عليهم البطولة... والأخلاق الحسنة والتضحية بالذات, على غرار الرئيس "هاريسون فورد" في "اير فورس وان" أو الرئيس الذي يقود الصراع ضد الوحوش في "يوم الاستقلال". وفي الجهة المقابلة ملفت كيف يطالعنا في فيلم "ديف" مثلاً, "رئيس" بديل يؤتى به من أوساط الشعب للحلول - في خدعة يجب أن تنطلي على المواطنين - محل رئيس غاب في ظروف معيبة. هنا على شاكلة ما يحدث في رواية "سجين زندا" يؤتى بالبديل الشبيه, ابن الشعب المستقيم الذي من خلاله وخلال تصرفاته يقدم اصحاب الفيلم في شكل موارب, نظرتهم الى كيف يجب أن يكون رئيس البلاد.

طبعاً, حين حقق أوليفر ستون فيلمه عن "نيكسون" مصوراً اياه تحت ملامح انطوني هوبكنز, لم يكن مبالياً بالصورة التي يجب أن يكون عليها الرئيس, ولا حتى بالصورة المعهودة للرئيس المدان: كان ما يهمه أن يرسم جزءاً من التاريخ السلطوي للولايات المتحدة الأميركية, من خلال تلك الشخصية الاشكالية التي يقدمها لنا الفيلم في كل التباساتها. واللافت هنا كيف ان اوليفر ستون المعتاد على توجيه انتقاد حاد الى كل ما هو سلطوي في أميركا, يقف عند نيكسون - الحائز على اجماع يبيح ادانته وفضحه - فيتأرجح. هنا, لمرة في سينماه لا يبدو اوليفر ستون واثقاً من انه يمتلك حقيقة ما حول الشخصية التاريخية التي يقدمها. ومن هنا شكسبيرية هذا العمل وقلقه... بل ما فيه من "اعادة اعتبار" مواربة لشخص يقدم لنا هنا ضحية للسلطة ولظروفه, وربما أيضاً ضحية لنزعة تجلت لديه في آخر حياته السياسية ودفعته الى اقامة الانفراج مع السوفيات والصلح مع الصينيين, على طريق انهاء الحرب الباردة.

هنا, اذا كان اوليفر ستون قد بدا طرياً الى هذا الحد مع ريتشارد نيكسون, على الضد من هوليوود التي اعتادت على احتقار نيكسون ومعاداته منذ كان الشخصية الثانية في لجنة السيناتور سيئ السمعة ماكارثي أيام مطاردة "السحرة" في الحياة الأميركية عند بداية الخمسينات... أي قبل وصوله الى سدة الرئاسة بزمن طويل - اذا كان ستون قد بدا ملتبساً ازاء نيكسون, فإن بقية الأفلام التي تناولت هذا الأخير, من "كل رجال الرئيس" الى الأحدث "اغتيال ريتشارد نيكسون" (من تمثيل شين بن, وهو فيلم يدنو من حكاية نيكسون من بعيد جداً), مروراً بـ"ديك" المضحك, وغيره, انما عبرت عن عداء شديد لهذا الرئيس... بل ان فيلم "ديك" الذي صور نيكسون تحت ملامح دان هدايا, لم يتوان عن اتهامه بمعاداة السامية, معتبراً هذا العداء العامل الأساسي الذي أدى الى اندلاع الفضيحة.

في مقابل نيكسون, يبدو جون كنيدي اكثر حظاً مع السينما بكثير... لقد حققت عن كنيدي أفلام كثيرة, ولا سيما منها تلك التي تناولت اغتياله والألغاز المثارة من حول ذلك الاغتيال.... وكان منها, ومن أهمها طبعاً, فيلم أوليفر ستون نفسه "ج. ف. ك." الذي لا يظهر فيه كنيدي بمقدار ما يظهر المحقق الذي يحقق حول مقتله. وعلى رغم عدم ظهور كنيدي في الفيلم, واضح ان هذا يتعاطف معه تماماً, وعلى الأخص من خلال تعيين القوى التي يفترض انها ساهمت في اغتياله... وهو تعيين يتناقض كلياً مع عشرات ألوف الصفحات التي يتألف منها تقرير وارن الشهير. واضح هنا ان ستون شاء, من خلال محاكمة التقرير محاكمة النظام الأميركي كله, على عادته... وأيضاً من دون أن يدنو من الرئيس بأية نظرة سوء.

رئيس في لحظة مدمرة

ومع هذا, على رغم شعبية "ج. ف. ك." واتباع كثر له في نظريته حول تصفية جون كنيدي, يظل الفيلم الأفضل والأقوى الذي حقق عن هذا الرئيس, الفيلم الذي عرض قبل سنوات قليلة وعنوانه "13 يوماً". والأيام المقصودة في العنوان هي تلك التي استغرقتها أزمة الصواريخ الكوبية بداية العام 1962, يوم كان على جون كنيدي أن يواجه واحدة من أخطر الأزمات الدولية في مجابهة السوفيات الذين نشروا صواريخهم البالستية في كوبا على بعد رمية حجر من الأراضي الأميركية, ووصلت المجابهة الى حد المجازفة بحرب نووية. ان جون كنيدي, كما يصوره لنا هذا الفيلم الجيد والجريء, رئيس قوي حازم, لكنه يعرف انه واقع بين مطرقة السوفيات وسندان محبي الحرب في القيادة العسكرية الأميركية... بل ان الفيلم, في محصلته النهائية, يوجه اصابع الاتهام الى هذه القيادة اكثر مما يوجهها الى السوفيات, معتبراً في تصرفاتها تآمراً على الرئيس كنيدي. هنا يبدو كنيدي قوياً متماسكاً... لكنه في لحظات معينة يبدو شكسبيرياً محتاراً, عليه ان يتخذ قرارات سريعة اغلبها ضد المحيطين به.

وفي عرفنا ان اي فيلم اميركي لم يصل في مجال تناوله لمسألة السلطة في الولايات المتحدة الى المستوى الذي وصله "13 يوماً". كما ان اي فيلم لا يمكنه ان يكون تحية لرئيس مثل جون كنيدي بقدر ما كانه هذا الفيلم. وهنا في هذا السياق, قد تصح مقارنة صورة جون كنيدي وهو يتخذ قراراته الخطيرة, بصورة جورج دبليو بوش الحقيقي وهو يصغي الى الأنباء التي تحدثه عن ضرب برجي التجارة العالمية في نيويورك.

اذ بين هاتين الصورتين تقف اهمية هوليوود والسينما الأميركية, وقدرة هذه السينما على ان تكون الأقوى والأخطر في مجابهة هذا النوع من المواضيع. بل لنقل ان الطريق من "لنكولن في إلينوي" الذي يعود الى بدايات عصر السينما, ولنكولن كما ظهر لدى غريفيث في "مولد امة", الى جون كنيدي "13 يوماً" او حتى نيكسون فيلم اوليفر ستون, كانت درباً طويلة قطعتها السينما الأميركية... بل العقل الأميركي نفسه. وهي درب حفلت بأفلام علامات... صورت الرئيس الأميركي الحقيقي او المتخيل... كما حفلت باسم رئيس جاء الى البيت الأبيض من التمثيل السينمائي حتى وهو رونالد ريغان, اضافة الى الحكايات المتشعبة والعديدة عن العلاقات بين هوليوود والبيت الأبيض. وهي الدرب نفسها التي جعلت السينما نفسها قادرة في "هز الكلب" على "التنبؤ" بحكاية كلينتون ومونيكا - في استطراد يفترض برئيس اميركي معاصر ان يشن حرباً للتغطية على فضيحة جنسية تكاد تدمره - كما جعلتها في "ديك" قادرة على اقصى درجات السخرية من الرئيس نيكسون, كما على تمجيد جون كنيدي.

ترى أفلا يقول لنا هذا كله كم ان السينما, في شكل عام, والسينما الأميركية في شكل خاص, قادرة على مواكبة روح العصر, وليس دائماً بتلك الحيادية او حتى الرجعية المأثورة عنها؟ وألا يقول لنا هذا, ان نحن تابعنا "معركة" مايكل مور مع جورج بوش, كم ان في جعبة السينما من الأسلحة تجابه بها القوى الكبرى... حتى ولو كانت هذه القوى سيد البيت الأبيض؟

وألا يدفعنا هذا الاستعراض, اخيراً, الى التساؤل عما ستخبئه لنا جعبة السينما الأميركية الهوليوودية بامتياز, في هذا المجال نفسه... وربما في إجابة قد لا نتوقعها منذ الآن على السؤال الذي طرحته مقدمة البرامج في المحطة الفضائية العربية على الناقد الضيف, حول ما اذا كان يمكن حقاً للرئيس الأميركي الحالي, ان يكون موضوع فيلم هوليوودي؟

الحياة اللبنانية في 5 نوفمبر 2004