كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

مكاسب عربية والأنثوية طاغية في برلين

برلين - قيس قاسم

مهرجان برلين السينمائي الدولي السادس والستون

   
 
 
 
 

خرج السينمائيون العرب من الدورة السادسة والستين لمهرجان برلين السينمائي بكم وافر من الجوائز لم يسبق لهم أن حصلوا عليه في أي مهرجان عالمي كبير من قبل! أبرزها نيل التونسي محمد بن عطيّة جائزة الفيلم الأول عن «نحبّك هادي»، حيث تسلم بطله مجد مستورة الدب الفضّة كأحسن ممثّل في مسابقة ترأست لجنة تحكيمها الأميركية ميريل ستريب، وفي هذا دلالة لا تخفى، كون عدد المشاركات العربية على طوال تاريخ المهرجان قليلة. وها نحن اليوم أمام مجموعة لافتة من السينمائيين بأفلام تتوزع على أقسام المهرجان المختلفة وتحصل جوائز استبعدت منها أي اعتبارات خارج السينما، ما يشي ضمناً بانشغالها بهموم غير السياسة، وإن لم تغب عنها كلية، وهو أمر لطالما نوه إليه النقاد والمعنيون بالسينما العربية، ويبدو أخيراً أن صناع السينما قد بدأوا إدراك أهمية العمل على موضوعات إنسانية تغني في أحايين كثيرة عن الوقوع في فخ السياسة وفجاجاتها أو الركون إلى الميلودراميات السطحية، وهذا ما انتبه إليه الإيرانيون والأتراك قبلنا.

الدب الذهب.. وثائقي إيطالي

قد يصلح في هذا السياق فيلم «نار في البحر»، الحائز على جائزة «الدب الذهب»، لتقديمه مثالاً على الوعي بخطورة الوقوع في فخ «إثارة المشاعر» وتسبيق العواطف على المعالجة الرزينة العميقة، فهذا الفيلم الإيطالي، إلى كونه يتناول موضوع الهجرة الشديدة الصلة بالسياسة والاقتصاد، فإنه أزاح كل ما هو مثير للمشاعر المجانية جانباً، فوزع اهتمامه على مساحة الحياة اليومية في جزيرة لامبيدوزا كلها ولم يحصرها بالمهاجرين القادمين إليها من أعماق البحر إلا بحدود الموضوع الذي أراده أن يكون عن الحياة بمعناها الأوسع، عن قوة استمراريتها رغم مراراتها وعذاباتها، فالصبي الإيطالي لم يكن معنياً بما يأتي إلى جزيرته من خارجها. كان منسجماً مع عالمه الطفولي المتساوق مع طبيعة الحياة الهادئة والآمنة على الجزيرة، حيث يقضي أوقات فراغه فيها بعد المدرسة في صيد العصافير واكتشاف الأمنكة المحيطة به. وهو داخل بيته كان يستمع إلى قصص والده عن البحر بكل ما فيه من خير ومخاطر.

على وقع حركته اليومية يقودنا جيانفرانكو روسي إلى مساحة أشد عتمة يعيش فيها طبيب الجزيرة بسبب طبيعة عمله، الذي يجبره على الاحتكاك بالمهاجرين الأحياء والأموات منهم. طبيب يفرح بمقدم كل كائن إلى جزيرته ويحزن لموت كل طفل أو جنين في بطن أمه. لا يفرق بين ألوان البشر ولا جنسياتهم، فيغدو الموت عذابه أكبر وإن لم يظهره علناً.

وفي البحر ثمة نيران تشتعل من غير دخان، وقودها بشر جاؤوا بقوارب مهترئة لفظتهم وسطها وكان على حرس السواحل إنقاذ من يمكن إنقاذه من سعيرها، أما الموتى فلا أحد يتذكرهم. ربما يأتي على ذكرهم خبر سريع أو أغنية عاطفية تحكي عن الفراق والحب والموت يبثها الراديو المحلي بناء على طلب مستمعيه، وغالباً ما تكون من بينها أغنية «نار في البحر». حيوات ومصائر موزعة على يابسة الجزيرة ومياهها جمعها روسي ببراعة نادرة بخيوط الحياة نفسها. مشاهد المهاجرين الواصلين إلى اليابسة وأغلبيتهم أفارقة -ربما تعمد إبعاد السوريين والعرب منها قدر الإمكان ليجنب شريطه بعداً آنياً قد يفسد الصورة البانورامية الدرامية التي أرادها- توجع القلب، واللقطات التي تجسد حيرتهم عند الاقتراب الشديد من وجوههم وعيونهم تنقل إلينا عمق الآلام التي كانوا يشعرون بها، رغم نجاتهم من موت شبه محتم!. مسار الحياة سيظل كما هو عادياً، فيما سيظل المهاجرون يصلون إلى لامبيدوزا، أحياءً أو غرقى في بحر هائج أمواجه العاتية ترمي جثثهم على أرض غريبة وبعيدة من تلك التي ولدوا فيها! هذة خلاصة فيلم وثائقي رائع استحق «الدب الذهب» وحظي بإجماع نقدي نادر.

سطوة ممثلات.. أسى أنثوي

جوائز هذا العام فيها حصة لمخرجات وسطوة لافتة لممثلات لدرجة بدت المنافسة بينهن أشد مما هي عليه بين الممثلين، وبخاصة بين إيزابيل أوبير وترينه ديرهولم. الأولى قدمت دوراً رائعاً في فيلم الفرنسية ميا هانسين- لوف «المستقبل»، الذي نالت عليه جائزة الدب الفضة لأحسن مخرج، فيما حصلت الدنماركية في نهاية المطاف على جائزة أفضل ممثلة لدورها في فيلم «كومونة». الفيلمان يقاربان موضوعاً واحداً: المرأة وقسوة النهايات العاطفية. بطلتاه تنتميان إلى الطبقة المتوسطة الأوربية وتعبران عن طبيعة تكوينها الاجتماعي والنفسي مع فارق البيئة الحاضنة المتقاربة في كل الأحوال، فنتاليا المعلمة الفرنسية المهتمة بالأدب والفن تجد نفسها بعد علاقة زوجية طويلة وحيدة تواجه اضطراب ذاتها التي ظنت أنها مستقرة، وفجأة تتعرض لسلسلة هزات عاطفية ونفسية سودت الحياة في عينيها، وكانت أشدها قسوة عليها موت والدتها وهجر زوجها وانشغال ابنتها بحياتها الخاصة.

رحلة البحث عن بدايات جديدة كانت تؤرق السيدة المتعلمة وتربك سياق عيشها، ومع هذا فولادة ابنتها غيرت الكثير فيها وجددت آمالها في حياة قابلة للاستمرار، ما دامت فيها أفراح وقوة دفع تأتي من الخارج لتمتن الدواخل المهزوزة وتعيد الثقة بالمستقبل بعد طول انتكاسات، وهذا ما توصلت إليه تقريباً بطلة فيلم «الكومونة» آنا، الصحافية في قناة تلفزيونية دانماركية، والتي انهارت تماماً حال اعتراف زوجها المعماري والأستاذ المحاضر لها بعلاقة تربطه بشابة تعرف إليها خلال عمله. خسارة الزوج الذي أحبته لم تتحملها المثقفة المنفتحة الأفكار والقادرة على العيش سوية مع بشر مختلفي الثقافات والأمزجة، ومع هذا وصلت إلى حافة انهيار كامل.أراد فينتربيري عرض الحساسية العالية لمشاعر المرأة المحبة ومقارنتها بـ «الفظاظة» الذكورية الأوروبية، العملياتية.

نهاية تجربة الدنماركية لا تختلف عن الفرنسية إلا في مقدار المرارة وحجم التضامن الأسري والصداقي وهذا ما كان ينقص المرأة البولندية خلال الحقبة التي سبقت انتقال البلاد من الاشتراكية إلى الرأسمالية وطالما حيرت المفكرين في فهم خصوصية العلاقات الاجتماعية البولندية المتناقضة والتي جمعت بنفور بين المسيحية والشيوعية.

إذلال جسدي... خواء روحي

لمحاولته البارعة في قراءة فترة قريبة من تاريخ بلاده، استحق عمل توماش فاسيليفيسك «الولايات المتحدة للحب» جائزة الدب الفضة لأحسن سيناريو، وربما كان جديراً بأكثر منها، لما فيه من قوة بناء وجرأة تناول لموضوع شديد الحساسية يتعلق بطبيعة المجتمع البولندي خلال الحكم الاشتراكي ودرجة التمزق الداخلي لمكونه الاجتماعي الشديد التدين والمنفتح جسدياً بطريقة تدعو للتعجب. أخذ عينات صغيرة تعيش في منطقة سكنية بنيت عماراتها على طراز المعمار الحديث المقتصد والكئيب وفكك روابطها الاجتماعية الاقتصادية، مع حرص على مس الجانب السياسي مساً خفيفاً، عبر موقع عمل كل شخص فيها ومستواه في السلم الاجتماعي الاشتراكي. قرب لنا مفهوم العلاقات الجسدية الشكلية المعبرة عن حرمان عاطفي صارخ يصل إلى حد الكراهية للذات، ومع ذلك تجدها فاعلة بقوة وكأنهم بممارستها يسدون نقصاً نفسياً في دواخلهم أو ينتقمون بها من ذواتهم المتنازعة أصلاً بين إيمان كنسي موروث وقيم اشتراكية يبدو الجميع غير مؤمن بها ينطقها بشكلية تشبه شكلية العلاقات الجسدية، فيما يظل الحب ناقصاً في مجمل المعادلة الإنسانية، والبيوت التي تغلف حيوات بشرية بدت هي الأخرى كئيبة غير حميمية، تمزقات أصحابها تحيلها إلى أقفاص عصرية. كل أبطاله يمارسون نفاقاً عاطفياً ويتناقضون مع ذواتهم ويغلبون مصالحهم والاقتصادية ورغباتهم الجسدية على الروحية، بل يسعون إلى تحويل الممارسة الروحية المتمثلة في زيارة الكنيسة إلى فعل انتقامي من نظام اشتراكي أكثر منها توافقاً مع روحانية متطامنة. فكك «الولايات المتحدة للحب» فترة كان لا بد من تناولها رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على نهايتها، لأن السينمائي يظل معنياً بها ومعنياً في تقويم «الولايات المتحدة للحب» التي عرفت بها بولندا وكانت في حقيقتها ولايات متحدة لإذلال الجسد والروح.

جدل

في مقاربة مختلفة لقراءة تاريخ الفيليبين، جاء لاف دياز بفيلم طوله ثماني ساعات، أسود وأبيص صور قسم كبير منه بكاميرا ديجيتال وعرضه في مهرجان كبير مستفيداً من انفتاح منظميه على التجارب الخاصة والمبتكرة لأساليب سرد بصري خارجة عن المألوف. لم يتوقف الجدل، رغم حصوله على جائزة ألفريد باور، بين النقاد قبل عرضه وبعده، فمنهم من وجد فيه لغواً كثيراً قائلين إنه كان يمكن اختصاره بأقل من الربع وقسم آخر أعطاه الحق في ما اتخذه من أسلوب يحكي به تاريخ بلاده وعلاقته بالاستعمار الذي غيَّر تركيبته وموروثه الديني وأحاله إلى تابع وخادم. استعان «تهويدة للّغز الحزين» في قراءته بالميثولوجيا والأساطير الفيليبينية القديمة وبالحكايات المتوارثة بين الأجيال، وتوقف عند شعراء سطروا تاريخ بلادهم ووقف بعضهم ضد المحتل وقاومه. في مطلق الأحوال لا أحد يقدر على فرض إرادته على الجميع وعلى فرض رؤيته السينمائية على من يعارضها، لكن في النهاية يظل بالنسبة إلى السينمائي نوع السرد والشكل الذي يتبناه له اختياراً شخصياً يترك أمر قبوله للجمهور، واختيار مشاركته في هذا المهرجان أو ذاك لمدرائه ومنظميه، ولئن كانت «البرليناله» تبنت «الثورية» السينمائية منهجاً وانحازت لها، فإنها قامت بإدراجها ضمن مسابقتها الرسمية، وهذا يحسب لها!

«نحبك هادي» دب فضي لتونس جديدة

أمل الجمل

بعد غياب الأفلام العربيــة عشرين عاماً عن المسابقة الدوليــة بمهرجان برلين السينمائي منذ مشاركة الفيلم التـــونسي «صيف حلق الوادي» للمخرج فريد بوغدير عام 1986، ومنذ جائزة الدب الفضي التي حصدها «اسكندرية ليه» ليوسف شاهين عام 1979، ها هي تونس تُعيد السينما العربية إلى تلك البؤرة من الضوء وتفاجئ العالم العربي باقتناص جائزتي أفضل ممثل، وأفضل إخراج عمل أول. وإذا كانت الجائزة الأخيرة متوقعة فإن جائزة أفضل ممثل التي نالها مجد مستورة عن أدائه التلقائي المتقن - الذي يمكن وصفه مع هذا بأنه «أقل من المطلوب قليلاً» - في فيلم «نحبك هادي» للمخرج محمد بن عطية كانت مفاجأة من العيار الثقيل خصوصاً في ظل المنافسة الصعبة مع النجوم الكبار وحتى الشباب في سبعة عشر عملاً آخر شكلت دورة مميزة للبريناله السادس والستين.

يبدأ الشريط الروائي من لقطة خلفية مقربة جداً لربطة عنق وأصابع مرتبكة متوترة تحاول ضبطها، في لقطتين أكثر اتساعاً قليلاً نرى رأس «هادي براك» جالساً في سيارته ينهي استكمال هيئته بخلع الحذاء الرياضي وارتداء آخر كلاسيكي قبل أن يهبط متجهاً الى مقر عمله، فهو مندوب مبيعات لإحدى ماركات السيارات الشهيرة. في المشهد التالي نرى اجتماعاً وهو مشغول عنه بالرسم بالقلم الأسود الفاحم إلى أن ينهره مديره. ثم في مكتبه نعلم أن هادي سيعقد قرانه بعد أيام قليلة، مع ذلك يُصر رئيسه على إرساله إلى منتجع المهدية الساحلي ليعقد صفقات بيع للسيارات فيستسلم هادي للأمر.

شخصيتان معاً

من هذين المشهدين يقدم لنا محمد بن عطية - مخرج ومؤلف العمل الذي سبق له تقديم أفلام قصيرة عدة - شخصية بطله الرئيسي هادي الذي يعيش بشخصيتين، الأولى داخلية ديناميكية يُحرر فيها نفسه من بعض القيود والثانية مستسلمة تماماً لواقعه المحيط. فهو شخص خجول، لا يناقش، لا يعترض أو يحتج، وغالباً لا ينطق إلا بكلمات قليلة جداً حتى عندما يكون غاضباً أو غير راضٍ، أو غير مقتنع. كما أن الخوف أحد مشاكله، يتضح ذلك من ارتباكه عند رؤية الكلاب الموجودة أمام مقر إحدى الشركات ما يجعله ينسحب ويعود أدراجه.

في المهدية يحدث الانقلاب الرئيسي في حياة وشخصية هادي عندما يلتقي بريم الراقصة التي تعمل في مجال السياحة داخل وخارج تونس خصوصاً، بعد ضعف الإقبال السياحي وإغلاق عدد من الفنادق بسبب تتابع الأحداث في أعقاب ثورة الياسمين. لكن هناك تفصيلة صغيرة تشي باستعداد هادي لهذا التحول عندما يكتشف بعد أن هبط من السيارة متجهاً الى أحد العملاء أنه نسي تبديل الحذاء الرياضي. يتأمله للحظة بفزع. كانت السيارة قريبة وكان يمكن له أن يعود لتبديله لكنه يتجاهل الأمر بعد الدهشة الأولى.

الملل من تلك الوظيفة وإعراض العملاء يدفع الشاب الهادئ للجلوس على الشاطئ وتمضية الوقت نهاراً هناك، لكن فجأة يرن هاتفه الخليوي، فيقفز مطلقاً ساقيه للريح بملابس البحر حتى يدخل صالة الفندق ويرد على مديره بعيداً من أصوات الأطفال وضجيج الشاطئ الذي يمكن أن يكشفه. عندما يعود تسأله ريم عن السبب فيخبرها أن أمه سقطت من فوق السلم وأصيبت بكسر في القدم. لكنه أثناء تناول طعام العشاء يتجه إليها فجأة بينما تجلس مع رفيقتها في المطعم ويطلب منها أن تسامحه معترفاً لها بالحقيقة. تعجبها شخصيته وبراءته ما يكسر حاجز الخوف أو القلق منه فتسمح له بمصاحبتها ليلاً على الشاطئ. وهناك بعد لحظات قليلة يتوارى الخجل والتردد ويظهر الجانب الآخر من هادي، إذ يُقدم على ريم بجرأة ناعمة، وسرعان ما يشتبكان في علاقة حميمة تبدو مع تطور المشاهد أنها لم تكن مجرد رغبة أو انجذاب عابر وإنما حب وانسجام ربط بين الشخصيتين. فمع ريم بدأ هادي يتحول إلى شخص مختلف تلقائي، متحدث بمرح يحكي عن الثورة وماذا أصاب الناس بعدها وكيف صاروا يتعاملون مع بعض، وكيف كان كل منهم ينظر للآخر، كأنهم صاروا يحبون بعضهم بعضاً، ثم يسألها عن عملها والسفر وقريتها. يتحدث عن والده الذي مات. عن رسوماته التي يغرق فيها بعيداً من عالمه، وحلمه أن يجمعها في ألبوم. فتشجعه ريم مؤكدة أن هذا لا يُعد حلماً وإنما مشروع عليه أن يواصل تحقيقه.

في أعقاب هذا الحديث تقع المقارنة في اللاوعي عند هادي بين شخصية ريم وشخصية خطيبته، فيشعر بالفجوة بينهما التي تتأكد عندما يسأل الأخيرة عن طموحها وأحلامها فلا يجد شيئاً مما يوتر الجو بينهما، ويزيده ارتباكاً عندما يحاول هادي تقبيلها فتُعرض عنه. وهنا يسألها عن هذا التناقض بين رسائل الحب والغرام التي تبثها له على الموبايل وموقفها الآني؟! وعندما يتجه أخوه والأقارب لقراءة الفاتحة بعد الخروج من المسجد لا يذهب معهم، وإنما يتركهم متجهاً إلى المقهى للتدخين وشرب القهوة كأن ما يتم ويحدث الآن لا علاقة له به وإنما يخص شخصاً آخر.

بساطة من دون سطحية

«نحبك هادي» – الذي تحقق بإنتاج تونسي بلجيكي فرنسي مشترك، مثل الجانب التونسي فيه المنتجتان درة بوشوشة ولينا شعبان ومثل الجانب البلجيكي الأخوان داردين – هو فيلم بسيط من دون أن يكون سطحياً، به عمق وإسقاطات متوارية، فيه لمحات ومشاهد كوميدية، ولا ينقصه البهجة والمرح في عدد آخر من المشاهد عبر الاسكتشات الراقصة في الفندق أو الحفلة الصوفية، أو من خلال شخصية ريم القادرة على بث البهجة عندما تكون سعيدة. كما أن الصدق في الأداء يسم جميع الشخصيات خصوصاً شخصية الأم (صباح بوزيوتا) والابن الأكبر حمودة (حكيم بومسعودي) الذي هاجر إلى فرنسا ليعيش مع زوجته الفرنسية ولم يعد يرغب في العودة بسبب ديكتاتورية والدته وعدم حبها لزوجته.

أما أسلوب التصوير فجاء خالياً من الاستعراض ومُعبراً عن مكنون الشخصيات، فاللقطات معظمها متوسط الحجم بقدر كافٍ يسمح بالاقتراب من الأبطال والإحساس بهم وتأمل خلجاتهم وإيماءاتهم، وقليل منها الواسع أو المقرب جداً. أما حركة الكاميرا فتتراوح بين الثبات والمتابعة والملاحقة تماماً كما تبدو شخصية هادي ظاهرياً، وإن كانت الكاميرا في أغلب الأحيان ثابتة لا تتحرك إلا في مشاهد قليلة عندما تلاحقه سواء في هرولته، أو تتحرك معه حركة عرضية سريعة يساراً ويميناً أثناء إعداد حقيبته استعداد للهجرة، أو بتلك الحركة العرضية البطيئة تعبيراً عن حركة عيونه وتأمله للشواطئ. وكذلك مع الأم التي تستحوذ على بؤرة العدسة كلما ظهرت في دلالة رمزية لسطوتها الأبوية وتسلطها، بينما كلما جمعت الأماكن والمشاهد بينها وبين هادي إما أن يتم تصويره من الجانب، أو أن يكون في زاوية الكادر كأنه على الهامش، أو يصير خارج الكادر بينما تظل الأم تحتل المركز باستثناء مشهد الذروة والمواجهة بينهما – في أغلب اللقطات يكون وجهه للكاميرا بينما الأم بروفايل - فعندما يتمسك بحبه لريم تصفعه مرتين بقسوة فينفجر فيها ثائراً عليها معبراً عن قهرها له منذ الطفولة وطالباً منها أن تكف عن الاختيار له، وعن إخباره بما يجب أن يفعله، فقد جعلته يكره حياته.

في النهاية يقرر هادي السفر مع ريم، وإن كان في مشاهد متباعدة عدة يبدو قلقاً مُفكراً في مستقبله متسائلاً كيف سيكون الحال خارج تونس؟ رغم ذلك يذهب للبيت لإعداد حقيبته، فيلتقي بأخيه حمودة الذي يشجعه ثم يخبره أن والد خطيبته تم القبض عليه لتورطه في قضايا فساد لارتباطه بالنظام، وهو ما يعني أن الأم لن تُكمل هذه الزيجة. يقود هادي سيارته ليلاً في الظلام، ثم يتوقف على شاطئ البحر، يتأمله طويلاً، كأن للمكان سحراً وسطوة عليه. في المطار نهاراً يودع ريم الباكية بحرقة ثم يخرج متلفتاً يساراً ويميناً وفجأة تتوقف الكاميرا قبل أن يعبر الشارع. هل سينجح هادي في أن يواصل هذا التحول في شخصيته؟ تساؤل تصعب الإجابة عنه خصوصاً في ظل اللقطة الأخيرة التي انتهت قبل العبور، لكن المؤكد أن «هادي براك» في تلك اللقطة لم يعد هو نفسه هادي الذي عرفناه في النصف الأول من العمل.

في أغلب الأوقات يتم تصويره من الخلف، كأننا نتأمل ونراقبه، أو نتلصص عليه ولا نعرف وجهه وحقيقته تماماً.

الحياة اللندنية في

26.02.2016

 
 

هل استحق «نار في البحر» ذهبية برلين؟

حكاية فيلمين في فيلم واحد

برلين: محمد رُضا

في منتصف المسافة بين جزيرة مالطا والساحل التونسي تكمن جزيرة صغيرة اسمها لامبيدوسا تابعة لمقاطعة صقلية الإيطالية، ولو أن المسافة بين هذه الجزيرة وبين مدينة المهدية على سواحل تونس (البلدة التي تقع فيها أحداث الفيلم التونسي «بنحبك هادي») هي أقل من تلك التي بين الجزيرة والساحل الإيطالي.

الجزيرة، وبعض الجزر الصغيرة الأخرى في الجوار المتوسطي، هي ما أراد الإيطاليون الحفاظ عليه من مواقع قدم في عرض البحر وفي مقابل بلدين عربيين هما تونس وليبيا. وعدد سكانها اليوم لا يزيدون على ستة آلاف مقيم فوقها.

لا أحد يعلم ماذا كان الحال لو أن هذه الجزيرة عادت إلى السلطات العربية في العصور الخالية، هذا لأن قوافل البحر التي تحمل اللاجئين الهاربين من جحيم الأوضاع في الشرق الأوسط وأفريقيا اعتبرتها ملاذًا لها. الإيطاليون استقبلوا لاجئي القوارب المكتظة برصيد متحضر من المعاملة وبمسؤولية فائقة. الغالب هو أنه لو أتيح لتلك الجزيرة أن تنتمي لكيان غير أوروبي، لما تم استقبالهم، في مثل هذه الظروف، ولهلك اللاجئون في عرض البحر وهم يحاولون الوصول إلى الساحل الإيطالي الأبعد والأعمق.

* القول السهل

فيلم «نار في البحر» لجيانفرانكو روزي الذي خرج بذهبية مهرجان برلين الذي انتهى يوم الأحد الماضي، لا يتحدث عن هذا الافتراض. لكنه يصوّر حال هؤلاء اللاجئين الذين أبحروا سرًا من شواطئ عربية حاملين معهم السعي للبقاء أحياء. بعضهم غرق قبل تحقيق هذه الرغبة والبعض وصل ومن وصل صوّرهم المخرج في عمله الجديد هذا الذي استحق الجائزة بجدارة.

القول بأنه فيلم تسجيلي يصوّر وصول اللاجئين إلى الجزيرة وكيف يتم تعامل السلطات الأمنية والطبية معهم وعن معاناة الوافدين وقد أمضوا أيامًا من الخطر الداهم هو قول سهل. نعم، الفيلم في هذا الإطار هو عمل غير روائي. يصوّر المخرج غرفة العمليات العسكرية التي تشرف على إنقاذ المراكب، نستمع إلى أصوات الاستغاثة بالراديو وهي تنادي الجانب الإيطالي برجاء مؤلم سرعة انتشالهم من مأساتهم. إنهم في عرض البحر بلا ماء وبلا طعام والمركب بدأ يغرق. يسأل الإيطالي المرأة المستغيثة تحديد موقع المركب. لكن الصوت الآتي من بعيد يخفت وينتهي. المركب، نعلم لاحقًا، غرق. لكن هناك مراكب أخرى. عمليات إنقاذ متوالية. الواصلون إلى النجاة يحكون ما مروا به. يعاينهم طبيب الجزيرة. يلتقط لهم رجال البحرية الإيطالية الصور. البعض على الرمق الأخير. البعض الآخر عاش ليروي بعض وجوه المأساة.

لكن الجيّد في فيلم روزي حقيقة أن كل ما يذكر هنا هو نصف الفيلم. النصف الثاني هو ما يدور فوق الجزيرة ذاتها.

هناك صبي في الثانية عشرة من عمره اسمه صامويل نتعرف عليه في البرية وهو يحاول اصطياد العصافير بمنجنيق يد صغير «نُقَّيْفَة» بصحبة صديق له. لا نراهما ينجحان في صيد العصافير لكنهما يرميان بأحجارهما أوراق شجر الصبير السميكة ويؤذيانها. لاحقًا ما يتخيلان أنهما مسلّحان ببنادق ويبدآن تمثيلاً يدويًا وصوتيًا لعملية قنص وصامويل يؤكد أنه سيدمّرهم.

هم هذه ستبقى غير معروفة لكن المرء قد يعتقد أن المهاجرين هم المقصودون وأنهم سيعترضون سبيل صامويل وصديقه بالخطأ أو بالصدفة وسينتقل الصبيان إلى العنف المسلح فعلاً ويطلقان النار على بعض المهاجرين.

لكن الفيلم لا يذهب باتجاه هذا الأمر. لا تسجيليًا وقع ولا روائيًا مطلب للمخرج. على ذلك، هذا النصف الآخر من الفيلم الذي يتقاطع والنصف الخاص بالمهاجرين ليس تسجليًا، بل فقط يبدو كما لو كان كذلك لسببين: الأول أنه يستخدم ممثلين غير محترفين، والثاني لأنه لا يوفر قصّة فعلية. ما يقوم به المخرج هو الطلب من الصبي صامويل وصديقه أن يؤدي أمام الكاميرا ما يطلبه منه، بذلك لا يبقى من التسجيل في هذا الجزء من الفيلم إلا أسلوب ومفهوم المشهد.

* مسألة ذات جانبين

صامويل هو تعبير عن حياة الناس العاديين جدًا الذين يعيشون فوق هذه الجزيرة التي لا لون حياة فيها سوى ذلك الطيف الشاحب. أناس لا يتأثرون بحدث حتى ولو حط على سواحلهم كحال أولئك اللاجئين. وليس هناك، في الواقع، من رابط فعلي بين النماذج القليلة المقدّمة من أهل الجزيرة وتلك اللاجئة إلا عبر الطبيب الذي، وفي مشهد مقحم بوضوح، يعاين الصبي ثم نراه يعاين اللاجئين.

حين يأتي الأمر إلى اللاجئين أنفسهم، فإن المزيد من الملاحظات المترتبة على الفيلم تبرز إلى السطح من تحت غلافها الرقيق. الحالات التي يسجلها الفيلم هي للاجئين أفارقة هاربين من نيجيريا عبر الصحراء الكبرى وصولاً إلى الساحل الليبي (حيث جحيم داعش). قلّة قليلة فقط آتية من سوريا. ومع أنه لا يهم عمليًا من أين يأتي اللاجئ الهارب من الموت إلا أن حقيقة غلبة العنصر الأفريقي لا يمنح الفيلم مادة كاملة.

المسألة تبدو على جانبين: الأول أن الفيلم، قصد أو لم يقصد، يتحدّث عن نبل وحسن فعل الإيطاليين في إنقاذ اللاجئين والعناية بهم، وهو حديث صحيح ولو أنه يتبلور هنا قريبًا من البروباغاندا، والثاني أن اللاجئين القادمين لا صوت لهم. في حين أن صامويل والنماذج الأخرى من مواطني الجزيرة لديهم الحضور المطلوب كشخصيات فردية، فإن اللاجئين هم حصيلة شاملة لا سمات لها.

«نار في الجزيرة» يثبت هويته كفيلم يتعاطى واللاجئين، لكنه ليس عن اللاجئين. عن وصولهم إلى جزيرة بناء على واقع حاصل، لكنه ليس عن قضيتهم. وما الفصل بين جانبي الفيلم، ذاك الذي يدور حول حياة المواطنين المنعزلة والبعيدة، وذاك الذي يقوم فيه المخرج بتصوير اللاجئين عند وصولهم وبقائهم في موقع ساحلي إلا كناية عن توفير رسالة مفادها إجراء مقابل بين عالمين. واحد مستقر يعيش خيالاته الصغيرة وآخر طارئ علينا أن نعالجه في موقع منفصل.

طوال الفيلم لا توجد محاولة للنفاذ بفكرة واضحة لا حول الصبي ولا حول اللاجئين. تتكون الفكرة لدى المشاهد تبعًا لما يرتسم على الشاشة لكن ليس مع ما يؤكد فحواها. هذا يمنح الفيلم نقاطًا على صعيد الرغبة في إيثار الصورة على الحوار، لكنه لا ينفع كثيرًا للإجابة عن الأسئلة المثارة (أعلاه) حول غايته النهائية من خلال ذلك العرض المزدوج.

اللافت أن مهرجان «كان» في العام الماضي منح ذهبيّته أيضًا إلى فيلم عن المهاجرين، وهو «ديبان» للفرنسي جاك أوديار ما يعكس أهمية القضية بالطبع، لكن فيلم أوديار أنقى وأوضح هدفًا من الفيلم الجديد.

نبيل المالح: أغنية السينما العربية الحزينة

لم يتوقف المخرج السوري الراحل نبيل المالح عن الحلم. مثله في ذلك مثل مبدعين كثيرين يحققون في عالم السينما أقل مما يهدفون إليه وعلى رقعة كبيرة من السنوات ما يجعلهم يشعرون دومًا بأن الحياة وظروفها لم تساعدهم مطلقًا على إنجاز أكثر من نطاق ضيق مما حلموا بتحقيقه.

مرّات عدة من خلال لقاءاتنا خلال الأشهر القريبة الماضية، ذكر مشاريع تطوف في البال. إذ يتحدّث عن أي منها يجعلك تتصوّر الفيلم كما سيريد إنجازه. تسمعه يعد نفسه ويعدك بأنه سيطرق بداية جديدة. أفكاره لا تنتهي. فكرة عن الوضع في سوريا اليوم وأخرى عن مهاجرين في أوروبا، وثالثة عن حكاية تاريخية مستمدة من ملفات لأحداث واقعة ورغبة في تحقيق ملحمة طويلة «قد تصلح للتلفزيون أكثر من السينما لكني سأصوّرها كما لو كانت فيلمًا بعناصر السينما وليس بعناصر التلفزيون».

الحلم ليس عيبًا، لكن المالح لم يكن يحلم فقط، بل كان يسعى. ما افتقر إليه المخرج هو آليات التنفيذ.

ولد في مدينة دمشق سنة 1936 ورحل عنها أكثر من مرّة. مرّة ليدرس السينما في براغ، ومرّة لمحاولة شق طريقه في السينما الغربية في الثمانينات، ثم عاد لينجز أحد أهم أفلام السينما السورية والعربية في حينه على الأقل وهو «الكومبارس»، وبقي فيها هذه المرّة، لكنه غادرها مرّة ثانية عندما تكونت لديه القناعة من أن العيش في بلد يديره نظام ما زال يشتغل على المحسوبيات والتفرقة والتدخل في شؤون الإبداع ليراقب ما في البال ويسيطر على المكتوب والمعلن والمنتج من الأفكار ليس ما يريده لنفسه. هذه المرّة اختار دبي وجاءها واعدًا نفسه بمرحلة جديدة.

* زوار النهار

«كومبارس» هو فيلم عن ذلك الهم المتآكل الذي اشتغلت عليه الدولة السورية لمراقبة ما قد تفضي به إبداعات الآخرين. عن الحريّة المنتقصة في حدودها الطبيعية وما ترمز إليه من سيطرة الرقابة على كل أشكال الحريات الأخرى.

هناك شاب (بسام كوسا) يمني النفس بملاقاة حبيبته الشابة (سمر سامي) في مكان مغلق يجمع بينهما لأول مرّة. يوافق صديق له على إعارته شقّته. يهرع وإياه إليها ويبتهل لصديقه أن يتركه بعدما أخذ ذلك يتباطأ في المغادرة. بعد قليل تصل الفتاة. وديعة. جميلة وعاشقة. يأخذهما الكلام في أمور عدّة تفضي أحيانا إلى ما يشعران به من حب كل للآخر وأحيانا لما يخشيانه على هذا الحب. هناك طرق على باب الشقة ومحاولة رجل أمن استنطاق الشاب وما يعرفه عن سلوك جاره. لكن الشاب لا يعرف ومن حسن حظه أنه لا يعرف. بعض قليل ها هم رجال الأمن والمخابرات يقتحمون بيت الجار ويقودونه بعيدًا. أعين المخابرات في كل مكان.

بنجاح لافت يولج المخرج ظروف البلد ومنوال نظامه الأحادي على الشاب وفتاته. الفكرة ذاتها تقوم على الرغبة في الهرب من واقع يحد من حريّتهما، حتى إذا ما طرق المجهول ذلك الباب أحس العاشقان أنهما في خطر محدق. انتقل خوف المدينة إلى داخل الشقّة التي ليست المكان الأمن كما اعتقداه.

بعد عشرات الأفلام القصيرة وحفنة من الأفلام الروائية (بدأت بفيلم «الفهد» سنة 1972) جاء «كومبارس» ليتوّج أفلام المالح الروائية وليوحد بين خطوطها إذ طالما تحدّثت عن الكرامة التي أهانها القمع في مراحل وعصور مختلفة. الفيلم بحد ذاته رائع لناحية قدرة المخرج التشكيلية والسردية على تجسيد ساعة ونصف من الحدث بين شخصين في بيت واحد من دون هوان. كما من حيث تداعياته.

على صعيد عملي، وعلى الرغم من أن عددًا من أعماله تم إنتاجها عبر «المؤسسة العامة للسينما» في سوريا، فإن العلاقات لم تكن على خير ما يرام. فهو لم ينتم تمامًا للمؤسسة. رفض التطويع وحافظ على استقلاليته داخلها وخارجها على عكس ما فعلت المجموعة التي انخرطت فيما وفرته المؤسسة من أفلام. بالنسبة إليهم، كان الانخراط فرص عمل ثمينة بغياب القطاع الخاص (الذي تم تقويضه بالتدرج السريع). بالنسبة إليها كانت المؤسسة ترى أنها تقوم بواجبها كقطاع عام منتج للأفلام لأجل تعزيز الصناعة المحلية. أما بالنسبة إليه، فإن المؤسسة بقيت الذراع القوية للسلطة التي لا تستطيع أن تمنح المخرج حرّية القول لئلا يقول ما لا تود سماعه.

* تحت السيطرة

بعد «كومبارس» بثماني سنوات قدّم المالح فيلمًا روائيًا آخر لا يقل قيمة عن ذاك ويحمل التنوّع الشديد الذي اعتادت عليه أفلامه. إنه «بقايا صور» (1980) الذي جاب المخرج فيه الريف السوري بأسره. تعددت طقوسه وأجواؤه بتعدد أحداثه وانتقالها من مكان لآخر تبعًا لرحلة فلاح فقير (أديب قدورة) يبحث عن ملجأ داخل هذا الزمن لنفسه ولعائلته. على عكس «الفهد» مثلاً، والحكايات الشبيهة به القائمة على فرد يقود ثورة، سوف لن يتحول بطل «بقايا صور» إلى بطل مغوار يحارب النظام الذي يريد أن ينساه، بل يبقى ضحية كل تلك الظروف المناوئة التي يعايشها. بطله ساذج إذ يعتقد أن البركة والنجاح في السفر بين الأقطار وأنه إذا ما انتقل من مكان إلى آخر سيصيب تغييرا ملموسًا في حياته. لكن الرجل سيكتشف في النهاية أن الأماكن هي واحدة لأن المسيطر عليها (فوق أصحاب المزارع والمسؤولين وذوي السلطات المحلية) هو أيضًا حكم واحد.

قامت المؤسسة العامة للسينما بإنتاج هذا الفيلم محتفية آنذاك بعودة المخرج إلى العمل معها. القصّة لحنا مينا، والسيناريو لنبيل المالح وسمير ذكرى والتصوير لحنا ورد (الذي صوّر «كومبارس» أيضًا) والمونتاج لمروان عكاوي والجميع ذوي مكانة كبيرة في تاريخ السينما السورية.

حين سألته ذات مرّة عن السبب في قراره تحويل قصّة حنا مينا إلى فيلم لم يذكر سوى تلك العناصر التي تجذب الفنان مثله: «غناها بالتفاصيل والمناح وعمق البحث الإنساني عن مقومات الحد الأدنى لكرامة العيش».

قيمة كل من «كومبارس» و«بقايا صور» تتأكد بمرور الزمن عوض أن تنضوي في غياب رغم أن كليهما على نقيض من الآخر: الأول من بطولة شخصين مع ظهور محدود العدد لشخصيات أخرى، والثاني فيه 80 دورا ما بين رئيسي ومساند ومشاهد لمجاميع كبيرة. «الكومبارس» يدور داخل شقّة بينما يغطي «بقايا صور» 120 مكان تصوير. في الفيلمين جهد فني خلاق سنفتقده افتقادنا لمخرجهما النادر نبيل المالح.

شاشة الناقد

(3*) Triple 9

* إخراج: جون هيلكوت

* بوليسي - الولايات المتحدة (2016)

حكاية أخرى من حكايات الشرطي الشريف وسط زملائه الفاسدين على غرار، ولو نسبيًا، ما كان المخرج الراحل سيدني لوميت يحققه من حين لآخر (كما في «سربيكو» و«أمير المدينة» مثلاً). تحت إدارة المخرج الأسترالي جون هيلكوت (الطريق) يشق الفيلم طريقه بقوّة بين المشاهد المختلفة. هناك مقدّمة مبهرة في الدقائق العشر الأولى لعملية سطو مسلح من قبل أن يخلد الفيلم قليلاً للتعرف بالشخصيات المختلفة ومن بينها شخصية رئيسة منظمة إسرائيلية - روسية تقودها كيت وينسلت التي تخطط لعملية أخرى.

يواجهها في ذلك تحريان منبوذان بسبب تمسكهما بالقيم (وودي هارلسون وكايسي أفلك)، لكنهما يواجهان عمليًا شبكة من رجال القانون الذين لا يقلون فسادًا.

الأكشن جيد والمعالجة مثيرة، لكن الفيلم لا يلبّي رغبة المشاهد في شخصيات لها مبررات كافية لكي تقوم بما تقوم به من أفعال.

(2*) Forsaken

* إخراج: جون كسّار

* وسترن - الولايات المتحدة (2016)

فيلم وسترن آخر من تلك المتكاثرة منذ عامين، لكنه ليس من بين أفضلها للأسف. الفيلم الأول الذي يجمع بين دونالد سذرلاند وابنه كيفر سذرلاند ليلعبا دور الأب وابنه في الفيلم أيضًا.

كيفر يعود إلى مزرعة أبيه المتدين ويبدأ بالعمل في المزرعة. الحدّة الناتجة عن تباعد كل عن الآخر ستنتهي بعد حين، لكن أشرار الإقطاعي مكرودي (برايان كوكس) تتمادى مستندًا إلى حفنة من الرجال الأشرار (بينهم مايكل ونيكوت ولاندور ليبورين). هناك إيحاءات من أفلام وسترن كلاسيكية كثيرة تبدأ من «شاين» وتلف على «جوال السفوح العالية» وصولاً إلى «غير المسامَح» تتبلور من خلال مشاهد معينة، عدا عن أن القصّة كلها في تداول أفلام النوع من الأربعينات. يحتاج الفيلم لتلقائية أفضل عوض محاولة صنع فيلم كامل من كل مشهد فيه.
(3*) The Big Sleep

* إخراج: هوارد هوكس

* فيلم نوار - الولايات المتحدة (1946)

فيلمان عن رواية رايموند تشاندلر تم تحقيقهما وهذا الفيلم (الذي ينطلق هذا الأسبوع على أسطوانات) أفضلهما بالتأكيد.

التحري فيليب مارلو (كما يؤديه همفري بوغارت) يسعى لمعرفة ما يدور في خفايا عائلة بالغة الثراء تستأجر خدماته لوضع حد لرسائل ابتزاز مادي.

ككل حكايات تشاندلر هناك أكثر من حدث في الحكاية الواحدة، لكن الخيوط تجتمع في النهاية، وهذا ما يحدث الآن. إخراج هوارد هوكس متين في التفاصيل وفي رسم العلاقات بين الشخصيات. الحبكة معقدة وللبعض مبهمة، لكن ذلك لا يزيد الفيلم إلا تشويقًا.

(1*) لا يستحق - (2*) وسط - (3*) جيد - (4*) ممتاز - (5*) تحفة

المشهد:

حلول صحيحة لسينما عربية أفضل

* اجتاز الفيلم السعودي «بركة يقابل بركة» لمخرجه محمود الصباغ الامتحان الأول بنجاح عندما تلقفه الجمهور البرليني، بغالبيّته الألمانية، بقبول فاق التوقعات خلال عرضه العالمي الأول في إطار الدورة الأخيرة من مهرجان برلين.. ما بقي عليه الآن هو دخول الامتحان الثاني وهو توزيع الفيلم شرقًا وغربًا.

* هذه المهمّة بدورها لم تعد مستحيلة.. شركة «ماد سوليوشنز» التي يُديرها السينمائي علاء كركوتي ما بين القاهرة وأبوظبي، ستقوم بمهمّة توزيع الفيلم في البلاد العربية بالاشتراك مع شركة «فورترس فيلم كلينيك» في دبي.. بالتالي، لن ينضم الفيلم إلى القافلة الطويلة من الأفلام العربية الجيّدة التي تنتج ولا تشاهد بعد عروضها الأولى في المهرجانات العربية أو الدولية.

* طالما كانت هذه المشكلة تعرقل وصول الأفلام العربية الجيدة إلى الجمهور الواسع بحجة أنها موجهة صوب جمهور محدود، ولن تحقق أرباحًا كبيرة، كما لو أن كل الأفلام المنفّذة تجاريًا في مصر أو في سواها تحقق أرباحًا.. وفي حين أن بعض شركات التوزيع العربية التقليدية قامت مؤخرًا بمحاولات توزيع مثل هذه الأفلام النوعية، إلا أن المحاولة تمّت بنصف قلب ومع الاستعداد للتوقف عنها إذا لم تفلح.

* وهذا ما ينقلنا إلى الأوسكار مباشرة.. الفيلمان العربيان المرشّحان في سباق الأوسكار لهذه السنة هما «ذيب» لناجي أبو نوار و«السلام عليك يا مريم» لباسيل خليل وإريك دوبون.. الأول في سباق أوسكار الفيلم الأجنبي، والثاني في سباق أوسكار الفيلم الحي القصير (Live Action).. «ماد سوليوشنز» تبنّت كلا هذين الفيلمين منذ البداية ووفرت غطاءا توزيعيًا لفيلم «ذيب» فشهد عرضًا عربيًا متجددًا بمناسبة ترشيحه.. أمر آخر غريب على سوق السينما العربية الذي عادة يلفظ الأفلام بعد عرضها الأول نجحت أو لم تنجح.

* في حديث بيننا يؤكد رئيس مجلس الشركة، علاء كركوتي، أن ملحق مجلة «فارايتي» لم يكن «قاموسًا عن المشاركة العربية عمومًا، ومع ذلك كان هناك موضوع كامل عن المخرج الإماراتي ماجد الأنصاري، وحوار مع المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، وموضوع آخر عن ثلاثة مخرجين مصريين.. وموضوعات متنوعة أخرى». ويضيف: «التنوع في المقالات يسأل فيه مجلة (فارايتي) وليس شركتنا أو مركز السينما العربية»، مع ذلك «عملت شركتنا على تأمين ملحق السينما العربية في (فاراياتي) دون أي تدخل في محتواه التحريري، لأننا نعرف مدى قوّة صنع ملحق كامل عن السينما العربية بكل الوسائل المتاحة».

* نقطة أخرى يريد رئيس مجلس الشركة إيضاحها وهي أن «شركة ماد سوليوشنز ليست المسؤول الإعلامي عن مركز السينما العربية، وإنما المنظّم له بهدف ترويج السينما العربية».

* مهما يكن من أمر، فإن الطريق الذي اختطته مؤسسة «ماد سوليوشنز» وتمارسه بنجاح مضطرد منذ سنوات إنشائها القريبة مهم في الحياة السينمائية العربية ككل والنتائج المذكورة أعلاه تؤكد ذلك.. فإذا أضفنا أن للشركة في قريبها العاجل أعمالاً أخرى ستتولى توزيعها مثل فيلم شريف البنداري الجديد «علي، المعزة وإبراهيم» وفيلم رشيد مشهراوي الذي دخل مرحلة ما بعد التصوير بعنوان «الكتابة على الثلج» فإن مستقبل السينما العربية في أيدٍ أمينة.

الشرق الأوسط في

26.02.2016

 
 

مخرج الفيلم السعودي «بركة يقابل بركة»: صنعت فيلما للجمهور ويعرض في السينما قريباً

رانيا يوسف - القاهرة – «القدس العربي» :

كشفت شركتا «فورتريس فيلم كلينك» و «ماد سوليوشين» عن حصولها على حقوق التوزيع في العالم العربي للفيلم السعودي بركة يقابل بركة (للمخرج محمود صباغ) من الشركة الفرنسية MPM Film الحائزة على حقوق توزيعه العالمية، وستتعاون الشركتان في توزيع الفيلم ضمن التحالف التوزيعي الذي أعلنتاه مؤخراً. 

يأتي هذا بعد تسجيل الفيلم علامة المشاركة الأولى للسينما السعودية في مهرجان برلين السينمائي الدولي ضمن دورته الـ66، وفوزه بجائزة لجنة التحكيم في قسم Forum تقديراً لدور الفيلم في توعية مشاهديه بالقيّم الروحية والإنسانية أو الإجتماعية.

وعن مشاركة «فورتريس فيلم كلينك» في توزيع الفيلم، صرّح المنتج محمد حفظي قائلاً «كشركة مقرها في الخليج، نحن متحمسون جداً لأن أول فيلم نحصل على حقوق توزيعه المشتركة في تحالفنا الجديد مع «ماد سوليوشين» هو فيلم سعودي، وهو أيضاً فيلم حصل على استقبال رائع في مهرجان هام مثل مهرجان برلين».

وأضاف المحلل السينمائي علاء كركوتي رئيس مجلس إدارة الشركة «كان مفاجأة قوية أن يخرج مثل هذا الفيلم الفريد من السعودية، وحصوله على رد فعل رائع في مهرجان برلين، والذي يُعد مجرد خطوة أولى لنجاحه».

وقال المخرج محمود صباغ «سعيد وتشرفت بوجود فيلمنا بين أيدي محمد حفظي وعلاء كركوتي، بلا شك أن الثنائي كنا نحلم بتوزيعهما للفيلم في العالم العربي، ممتن لإيمانهما الحماسي بفيلمي»، وأضاف صباغ «لقد صنعت فيلما للناس والجمهور لمشاهدته، معرفة أن جمهور المنطقة سيمكنه الآن الاستمتاع بمشاهدة «بركة يقابل بركة» على الشاشة الكبيرة أو عبر خدمة الفيديو حسب الطلب قريباً أمر مطمئن جداً».

الفيلم، من إنتاج «الحوش بروديكشين»، ويقوم ببطولته فاطمة البنوي وهشام فقيه في دوري عاشقين يجمعهما القدر (لكن في بيئة معادية للمواعدة الرومانسية من أي نوع). هو بركة الموظف في بلدية جدة ذو الأصول المتواضعة، والممثل الهاوي في فريق مسرحي يتدرب من أجل تقديم مسرحية «هاملت». وهي بركة الفتاة ذات الجمال الجامح، والتي تبناها منذ الصغر زوجان ثريّان لا يمكنهما الإنجاب، وتعمل في الترويج لمتجر والدتها بينما تدير مدونة فيديو صاخبة مشهورة على الإنترنت. 

يُظهر الإثنان براعة مثيرة في التحايل على التقاليد والعادات، بالإضافة إلى الشرطة الدينية، مستعينين بقابلة لعوب ومشد صدر وردي. بركة يقابل بركة هو فيلم لأي شخص يريد أن يعرف كيف تجري هذه الأمور في السعودية.

وكان الفيلم قد تم اختياره لعرض دولي أول ضمن عروض قسم Forum، المخصص للتجارب السينمائية الجديدة، في الدورة الـ66 من «مهرجان برلين السينمائي الدولي»، حيث لاقى استقبالاً مميزاً من الحضور.

محمود صباغ هو مخرج سعودي وُلد في جدة، درس صناعة الأفلام الوثائقية في نيويورك، بعدها عمل كمخرج أفلام مستقل ومنتج في السعودية، من أعماله الفيلم الوثائقي «قصة حمزة شحاتة» (2013)، مسلسل «كاش» (2014)، ويُعد بركة يقابل بركة أول فيلم روائي طويل له.

القدس العربي اللندنية في

26.02.2016

 
 

ميريل ستريب تفسر مقولتها “كلنا أفارقة

قالت الممثلة ميريل ستريب، إن مقولتها “كلنا أفارقة” أخرجت من سياقها في أحدث تعليق كتابي لها على الضجة التي أثارتها تصريحاتها وساهمت في إذكاء الجدل الدائر بشأن التنوع العرقي في هوليوود.

وأوضحت ستريب التي ترأست لجنة تحكيم مهرجان برلين السينمائي في وقت سابق هذا الشهر إن تعليقاتها التي أدلت بها لمراسل مصري خلال مؤتمر صحفي ردا على سؤال حول ما إذا كانت مطلعة على سينما أفريقيا والشرق الأوسط قد “حرفت”.

وكتبت ستريب تقول “لم أكن أحاول التقليل من شأن الاختلافات بل التشديد على ما يمكن رصده من روابط مشتركة وهذا شيء أساسي للغاية في كونك إنسانا فيما يمكن أن يفعله الفن: نقل تجربة إنسان آخر.”

جاءت تعليقاتها لتضفي مزيدا من الصخب إلى الجدل الدائر في هوليوود حول ترشيحات الأوسكار التي خلت من أصحاب البشرة السمراء في فئات التمثيل للعام الثاني على التوالي.

وأضافت ستريب في مقال كتبته لهافينجتون بوست أنها لم تُسأل في المؤتمر الصحفي عن لجنة تحكيم مهرجان برلين المكونة بالكامل من البيض.

 وأضافت الممثلة الحاصلة على ثلاث جوائز أوسكار وهي بين أكثر الممثلات نبوغا في جيلها “لم أدافع عن لجنة التحكيم المكونة بالكامل من البيض ولن أفعل ذلك إذا سُئلت. شمول جميع الأعراق والأجناس والديانات والأقليات مهم بالنسبة لي كما وضحت في مستهل المؤتمر الصحفي”.

التلغراف المصرية في

26.02.2016

 
 

مخرج «بركة يقابل بركة»: حرصت على كتابة فيلم يعبر عن جيل الشباب

السعودي محمود صباغ درس الوثائقيات وشغف بالسينما الروائية

لندن: عبير مشخص

المخرج السعودي محمود صباغ أسعد الملايين من الشعب السعودي بحصوله على جائزة في مهرجان برلين عن فيلمه «بركة يقابل بركة»، في وقت بدأت فيه المحاولات السينمائية السعودية في الظهور على الساحة العالمية وجذبت جمهورا عريضا لم يتعود على وجود ما يسمى «السينما السعودية». صباغ تحدث مع «الشرق الأوسط» حول الفيلم وصدى نجاحه وعرضه التجاري في العالم العربي وتطرق أيضا لمشروعاته الفنية المقبلة.

ورغم أن الفيلم لم يعرض جماهيريا بعد فكان من الصعب مشاهدته، ولكن من خلال بعض اللقطات الموجودة على الإنترنت ومن خلال قراءة ملخص لأحداثه يمكننا القول: إن الفيلم يعبر ببراعة عن جيل من الشباب السعودي، وحول قصص الحب الوليدة التي تبحث لها عن متنفس في مجتمع محافظ. بطل الفيلم (بركة) وهو موظف حكومي في بلدية جدة ذو الأصول المتواضعة، والممثل الهاوي في فريق مسرحي يتدرب من أجل تقديم مسرحية هاملت، يقع في حب «بيبي» الفتاة ذات الجمال الجامح، والتي تبناها منذ الصغر زوجان ثريّان لا يمكنهما الإنجاب، وتعمل في الترويج لمتجر والدتها بينما تدير مدونة فيديو صاخبة مشهورة على الإنترنت.

«بركة» و«بيبي» كما يبدو لنا يحاولان عيش قصة حبهما في مجتمع يشتبه في العلاقات الغرامية، ويبدو ذلك من أحد المشاهد وهما يلتقيان على الشاطئ بينما تتلفت الفتاة حولها خوفا من أن يراهما أحد.

ولكني أبدأ الحوار مع محمود صباغ بسؤاله عما دفعه لمجال السينما، يقول إن إخراج فيلمه الأول تطلب «الكثير من الكفاح والتضحيات» واسترسل يقول: «لي اهتمام بالسينما منذ طفولتي، هي هواية وشغف، وكنت أصنع أفلاما قصيرة منذ صغري. أضف إلى ذلك أن لي اهتماما كبيرا بالقراءة والأدب». الهواية رافقت صباغ خلال سنوات صباه وشبابه حتى صقلها بالدراسة في الجامعة بنيويورك حيث قام بالحصول على درجة الماجستير في الوثائقيات: «لاحظت أن هناك فجوة في صناعة الأفلام الوثائقية وكان ذلك دافعا لي لإخراج فيلم وثائقي وهو (قصة حمزة شحاتة) (2013) والذي لقي صدى طيبا ولكن اهتمامي وشغفي كان بالأفلام الروائية».

وبالفعل مارس صباغ هوايته وأخرج فيلمه الأول «بركة يقابل بركة» وعرضه في مهرجان برلين السينمائي، وإن كان لم يتوقع فوزه بأي جائزة، لدرجة أنه عاد مع فريق الفيلم إلى جدة قبل إعلان الجوائز: «غادرت برلين قبل الجائزة بيوم، لم يخطر ببالي الفوز نهائيا، حضرت مع فريق العمل المهرجان وحضرنا عروض الفيلم هناك، لم نكن متوقعين لأن عرضنا أساسا كان خارج المنافسة. كنا أول فيلم سعودي طويل في المهرجان، ورشحنا في جائزة أول فيلم روائي طويل، مجرد الترشيح كان إنجازا، ثم فزنا بالجائزة التي وضعتنا على الخريطة كسينما ناشئة».

كيف يستطيع الجمهور الذي تحمس لخبر فوز الفيلم السعودي رؤيته؟ أتساءل وفي ذهني صعوبة عرض الفيلم في السعودية تحديدا، يشير إلى وجود خطة لتسويق الفيلم وعرضه في عدد من المهرجانات الدولية القادمة مثل مهرجان لندن للأفلام. ويؤكد صباغ في حواره على أن فيلمه ينتمي لوصف «السينما المستقلة» وهو ما يدفعني لطرح سؤال: تقول: إنها سينما مستقلة، هل سيكون هذا مستقبل السينما السعودية في ظل عدم وجود مظلات رسمية لإنتاج الأفلام؟

يجيب: «في قراءة للواقع، أتوقع أن تكون أفلام الخمس سنين القادمة مستقلة، لا أرى هناك إرهاصات صناعة، فكل الأعمال ستكون فردية. لكننا إذا كنا نريد استمرار الحركة فيجب أن يكون هناك نواة لسينما وطنية. شخصيا سأكون حريصا دائما على أن تكون أفلامي مستقلة، وأتمنى أن يقوم غيري بتجارب مماثلة لكي يكون لدينا العناصر اللازمة لقيام صناعة سينمائية في السعودية».

«بركة يقابل بركة» نتيجة مجهود ضخم قام فيه المخرج بالكتابة والإنتاج والإخراج، يقول: «لم يمولنا أحد لا محليا ولا عربيا، جمعنا الأموال كاملة من محيطنا، واستخدمنا معدات بسيطة لأننا أردنا أن نستقل عن شركات المعدات العاملة في جدة التي تعمل مع شركات الإعلانات وتتعامل مع السينمائيين بمنطق التجزئة».

ولكن ماذا عن الجمهور الذي يريد مخاطبته في السعودية، كيف يتوقع المخرج أن يصل إليه؟ يعلق بالقول: «قدمت هذا الفيلم ليراه الجمهور وخاصة جيل الشباب وهو جيلي وجيل أبطال العمل، أرى أنه جيل مظلوم وفرصه أقل، كيف أعبر عنه، وأكتب فيلما يحكي معاناته وأفراحه وأتراحه. كنت حريصا على أن أكتب نصا معبرا عن هذا الجيل. أعتقد أن الشعب السعودي وهو متابع ومستهلك للفنون سيرى الفيلم في سينمات الدول المجاورة وعن طريق خدمة الفيديو حسب الطلب».

وقد كشفت شركتا فورتريس فيلم كلينك وMAD Solutions عن حصولها على حقوق التوزيع في العالم العربي لـ«بركة يقابل بركة» من الشركة الفرنسية MPM Film الحائزة على حقوق توزيعه العالمية، وستتعاون الشركتان في توزيع الفيلم ضمن التحالف التوزيعي الذي أعلنتاه مؤخرًا. ويضيف صباغ أنه لجانب التوزيع في الدول العربية سيكون هناك «نقاط توزيع دور سينما نوعيه في لبنان وفي قرطاج. الفيلم سيكون مخدوما توزيعيا في العالم العربي».

يرفض صباغ توصيف الفيلم على أنه «كوميديا رومانسية» ويرى أنه أقرب لكونه «دراما رومانسية». أسأله عن طاقم الممثلين وكيف اختارهم، يعلق بأنه أقام ورشة تدريب لبطلي الفيلم هشام فقيه وفاطمه البنوي «استغرق التدريب من 3 إلى خمسة أشهر وهو ما أزال حاجز الرهبة أمام البطلة فاطمة التي لم تظهر من قبل على الشاشة، أنا فخور جدا بهما. هذا عملهما السينمائي الأول وأعتبر أننا نكون ثلاثيا، اتفقنا على أن نعمل سويا في المستقبل كفريق». الاتفاق والتقارب مع بطلي الفيلم ساعد صباغ كثيرا على تسهيل التصوير «لم أضطر لإعادة تصوير مشاهدهما لأنهما تشربا الموضوع ورؤيتي للسيناريو. بالنسبة لباقي الممثلين تعمدت أن أستعين بممثلين غير معروفين من الشارع ونجحوا جدا. مثال شخصية العم دعاش الذي يمثل عم بركه في الحارة، وهو الممثل سامي حنفي، هو رجل لا يقرأ ولا يكتب ويعمل كصائغ مجوهرات في الواقع. كنا نلقنه السطور قبل اللقطة. كانت تجربة مهمة بالنسبة لي كمخرج، إذا استطعت أن أخرج هذا الشخص فسأستطيع الكثير». شخصية «سعدية» داية الحارة، أحضرناها من الواقع، هي كممثلة تتمتع بشخصية مرحة ولها خبرة بالعمل الفني إذ كانت تعمل مع المذيع السعودي الشهير طاهر زمخشري (بابا طاهر) في الإذاعة، وكان حلمها التمثيل».

الشرق الأوسط في

27.02.2016

 
 

جائزتان للموضوع على حساب الفن

بقلم: سمير فريد

تعرض كل الأفلام الفائزة بالجوائز فى مهرجان برلين فى اليوم الأخير من أيام المهرجان فى عروض مفتوحة للجمهور بتذاكر، وهو تقليد رائع يعبر عن الاحترام الكبير للجمهور، حيث لا يجب أن يقرأ عن فوز هذا الفيلم أو ذاك ولا تتاح له مشاهدته فى نفس اليوم.

ولأننى لم أتمكن من مشاهدة عروض مسابقة الأفلام القصيرة التى احتفلت هذا العام بدورتها العاشرة، دفعت ٨ يوروهات لمشاهدة عرض الأفلام القصيرة الفائزة، وكانت القاعة ذات الألف مقعد كاملة العدد، فالأفلام قصيرة ولكنها أفلام.

جمهور برلين يصفق إعجاباً، وخاصة لوجود صناع الأفلام فى العروض، لكنه لا يصفر تعبيراً عن الاستياء، وإنما يغادر القاعة واجماً، وقد غادر جمهور ذلك العرض واجماً أشد الوجوم، فالأفلام كلها ليست جديرة بالفوز بأى جائزة.

إذا كانت هذه أفضل أفلام المسابقة تكون مصيبة، وإذا كان هناك أفضل منها ولم تفز، تكون المصيبة أعظم، وبما فى ذلك الفيلم البريطانى «عودة إنسان» إخراج الفلسطينى مهدى فليفل الذى فاز بجائزة لجنة التحكيم «الدب الفضى»، وجائزة الترشح لمسابقة الأكاديمية الأوروبية السنوية للسينما باعتباره من الإنتاج البريطانى.

ولد مهدى فليفل فى دبى عام ١٩٧٩، ونشأ فى مخيم «عين الحلوة» للاجئين الفلسطينيين فى لبنان، وهاجر إلى الدنمارك فى شبابه ودرس السينما فى «مدرسة لندن للسينما»، وبدأ إخراج الأفلام، وكلها تسجيلية وقصيرة منذ عام ٢٠٠٣، وحقق فيلمه التسجيلى الطويل «عالم ليس لنا» عام ٢٠١٢ عن الحياة فى المخيم الذى نشأ فيه، نجاحاً دولياً لافتاً، ولكنه فى «عودة إنسان» يفشل بقدر نجاحه فى الفيلم المذكور.

يعود فليفل فى فيلمه الجديد إلى مخيم «عين الحلوة» مرة أخرى حيث يعبر عن حياة الشاب رضا الذى هاجر إلى اليونان ولكنه لم يتمكن من الحياة فيها، فعاد إلى المخيم، وقرر الزواج ومقاومة كل ظروف الحياة البائسة. ورضا مدمن مخدرات، ولكنه يعد حبيبته بالكف عنها بعد الزواج، وينتهى الفيلم بإتمام الزواج.

المشكلة أننا لسنا أمام عمل فنى جميل وممتع، فكل عناصر لغة السينما من سيناريو وتصوير ومونتاج رديئة إلى أبعد الحدود، والواضح تماماً أن تقدير الفيلم بجائزتين من جوائز المسابقة الأربع كان تعبيراً عن «التضامن مع اللاجئين» على حساب الفن، ولكن لجنة التحكيم التى اشتركت فيها الشيخة حور القاسمى، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، والمخرج الإسرائيلى، آف مغربى، من أنصار السلام فى إسرائيل، لم تدرك أن رداءة الشكل تحول دون التضامن مع «القضية».

samirmfarid@hotmail.com

المصري اليوم في

27.02.2016

 
 

صرخة تانوفيتش في برلين:

شعبي جاهل لا يستحق الديمقراطية!

هوفيك حبشيان

بعد “فصل من حياة جامع خردة”، يعود المخرج البوسني دانيس تانوفيتش بفيلم سحر مهرجان برلين الأخير فنال فيه جائزتين: “لجنة التحكيم الكبرى” و”فيبريسي”، مستنداً إلى بعض عناصر من مسرحية “فندق أوروبا” لبرنار هنري ليفي، حيث ينقض “موت في ساراييفو” على الواقع البوسني والأوروبي سياسياً واجتماعياً. تجري الحوادث في داخل “فندق أوروبا” الذي لا ينفك أن يتحول إلى “ميكروكوزم” للمجتمع البوسني، بطبقاته المتعددة وعالمه السفلي ودهاليزه، في حين الانقسام حول فصل من التاريخ يبلغ ذروته في مناسبة مئوية اغتيال الارشيدوك فرانز فرديناند. ينظم الفندق في هذه المناسبة قمة أوروبية حول هذا الموضوع. بيد أن الموظفين مستاؤون لعدم قبضهم الرواتب فيستعدون لإضراب… لن نخرج من الفندق طوال ٨٤ دقيقة، إذ يوجد بين جدرانه ما يكفي من قهر وإبتزاز وسفالة وتملق وانتهازية ليغذي سينما تانوفيتش بالسخرية المرة وليمدها بالهجاء السياسي العالي النبرة. في المقابلة الآتية التي أجرتها “المدن” معه في برلين، يطلق تانوفيتش صرخة من القلب تطال كلّ شيء تقريباً!

·        هل هذه ساراييفو اليوم؟

(ضحك). نعم. هذه هي ساراييفو اليوم. في النهاية، كما نرى في الفيلم، نحن نعيش في قوقعة صغيرة. عندما عشتُ في باريس طوال عشر سنوات، كنتُ أسكنُ في شقة جميلة جداً قرب النهر. وعلى بُعد أقل من كيلومتر واحد، أماكن وضيعة لا تتجرأ على الذهاب إليها ليلاً. ما هي الحقيقة، ما هو الواقع؟ هذا هو السؤال! أعتقد أنّ كلاً منا يعيش في عالم موازٍ لعالم الآخر. هذا ما أردتُ إظهاره في الفيلم. يعيش الناس في المدينة نفسها ولكن لا يعيشون المصير نفسه. يكفي أن تجتاز الشارع كي تنتقل من واقع الى آخر. طوال ست أو سبع سنوات، في ساراييفو، كنتُ ألتقي في طريقي سيدة تتسول المال من المارة. كان يرافقها ولدان، ثم، عندما كبرا، هجراها، لأنهما بدآا يشعران بالخجل. في المقابل، كان هناك على بُعد أمتار، “فندق أوروبا” الفخم. إذاً، كي أعود إلى سؤالك، نعم هذا واقع ساراييفو، حيث فنانون كبار لا يملكون ما يأكلونه، كأي مدينة كبيرة.

·        في تصويرك الأحداث، لِمَ لم ترد الخروج من الفندق؟

لا أعرف كيف أجيب عن هذا السؤال. ثمة أجوبة عدة. أحد الأسباب هو أنّ الفندق الذي تراه في الفيلم لم يكن هو نفسه “فندق أوروبا”، كما جاء في نصّ برنار هنري ليفي. “فندق أوروبا” الجديد تم ترميمه، وأصبح مكاناً عصرياً للـ”نوفو ريش”. لم أصوّر فيه لافتقاره العصب الذي كنت في حاجة إليه، أي ذلك الطراز الهندسي الاشتراكي القديم، وهو طراز اختفى اليوم، ولا اعتقد أنّ أحداً يمكنه أن يبني حالياً مثل تلك العمارات. عندما تدخل ردهة الفندق، تجدها شاسعة وفارغة تماماً. في أيامنا هذه، يحاول المستثمر أن يجني أكبر كمية من المال من خلال بناء أصغر المساحات. بالنسبة إليّ، “فندق أوروبا” مكان أسطوري. السبب الثاني لعدم خروجي من الفندق، هو أنه من الخارج كان قبيحاً، جدرانه ذات اللون الأصفر تتوسط المدينة. الفندق من العمارات الأولى التي تم قصفها، يبدو أنّ لونه الأصفر كان يثير أعصاب الصرب. تم تشييده من أجل الألعاب الأولمبية الشتوية. في طفولتي، كنت أمرّ أمامه كلّ يوم. أتذكر أنني دخلته مرة مع والدي لنلتهم قطعة حلوى. أخذني من يدي، أجلسني على كرسي ضخم، وأكلنا. في تلك اللحظة، قلت “واو”، وشعرتُ كأنني في عالم آخر. ثم اندلعت الحرب. القناصة الصرب الذين أطلقوا النار على الناس كانوا متمترسين في إحدى غرف الفندق كونه قريباً من مبنى البرلمان. خلال الحرب، كان المقر الرئيسي لمراسلي الحرب. كان شيئاً عجيباً أن ترى هذه العمارة الصفراء في مكان بات أشبه بستالينغراد جديدة. أحدثك عن فترة الحصار. وما هو غريب أنه خلال تصوير الفيلم، دهمت الشرطة الفندق وتم اعتقال مديره. فتوجب علينا انتظار أيام عدة في الخارج، لأنهم كانوا يبحثون عن أوراق ووثائق. أجبرنا لاحقاً على الدخول من الباب الخلفي، بسبب بعض الأشخاص الذين كانوا يتظاهرون أمام الفندق. في نهاية الفيلم، صوّرنا في فندق فارغ تماماً

·        الفيلم مستوحى من مسرحية لبرنار هنري ليفي، كيف عملتَ على السيناريو؟ 

عادة، يكون هناك سيناريو. هنا كان الأمر مختلفاً، إذ إنه ثمة أمور عدة متداخلة. كنتُ أقرر أن أفعل أمراً ما، ثم أتراجع لقلة معرفتي بالنحو الذي يجب أن أنفذه. ثم أقترحتُ على ممثلتين أن تضطلعا بدوري الأم والابنة. لم أكن أعرفهما جيداً، ولكن أغوتني الفكرة. الفيلم جاءني بشكل طبيعي جداً. الشخصان اللذان يتحاوران في بداية الفيلم هما صديقان لي ولا علاقة لهما بالتمثيل. كنا نناقش ماذا سنفعل بعد اسقاط تمثال غافريلو برينسيب الذي أحببناه، لأن أحدهم قال إنه لا ينبغي أن يبقى أي شيء صربي في البلاد. كنت أعملُ مع بعض الطلبة لمعرفة ما التمثال الذي يجب أن نضعه هناك، فأدرجتُ هذا النقاش في الفيلم. ثم التقيتُ مدير مسرح وهو بوسني جداً في أفكاره، ويعتبر غافريلو ارهابياً، خلافاً لاعتقادي أنا، فاستلهمتُ منه إحدى الشخصيات. أعرفه منذ زمن، انه لامع ولكنه نقيضي. هكذا جاءتني الأمور، بطبيعية! ثم، علمتُ عن الاضراب الذي يتحضر، وعن الوضع داخل الفندق، فمزجتُ هذا كله معاً. في غضون ذلك، اتصلت بي الشرطة وطلبت مني مساعدتها في دخول الفندق. كنت سابقاً اكتشفتُ أن هناك مرقصاً في الفندق فطلبت من الإدارة أن أصور فيه، فقيل لي “لمَ لا”. استغلت الشرطة الأمر، ولكنني رفضتُ التعاون، فالشباب سمحوا لي لأنهم يعرفونني. لم أكن أريد الموت من أجل فيلم

·        الفيلم يتكلم كثيراً عن غافريلو برينسيب، الصربي الذي اغتال ولي عهد النمسا الأرشيدوك النمسوي فرانز فرديناند. أنت كيف تنظر إليه؟

أنا ابن الاشتراكية. ولدتُ في يوغوسلافيا. أعرف أن ما سأقوله سيُغضب نصف الشعب في بلادي، ولكن صدقاً أشتاق إلى يوغوسلافيا. أعتقد أنه كان بلداً رائعاً: ٢٠ مليون إنسان في مكان واحد، هذا ما تحاول أوروبا أن تفعله اليوم. أولاً، غافريلو كان مراهقاً عندما قام بالاغتيال. لدي مراهقان في المنزل، وهما لا يفكران بعقلهما بل بعاطفتهما. كان شاباً متحمساً ضد الاحتلال الهنغاري النمسوي، كان يؤمن بلمّ شمل السلافيين. طبعاً، نعرف كيف انتهى هذا كله، ولكن تبقى فكرته فكرة رائعة.

·        المَشاهد تتقاطع كثيراً في الفيلم. كيف صوّرتها؟

كان لي ممثلون جيدون. كلما كبرتُ، عرفتُ كيف أجعل الممثلين يبدون على “طبيعتهم”. عندما أكتشفُ أنّ ثمة أمراً ما ليس على ما يرام، أطلب تعديل الحوارات. طبعاً، هناك معلومات معينة يجب أن تمر في سياق الأحداث، ولكن لا أتمسّك بكلّ حرف مكتوب في السيناريو. هذا ما يسهل عمل الممثلين. صوّرنا لقطات طويلة، ولكن لم يكن لي إلا ٢٠ يوماً من التصوير، وهذا وقت غير كافٍ. أنا مهووس بالتقنيات، وكنت اكتشفت سابقاً آلة معينة غير مكلفة وقررت أن أستعملها لتصوير الفيلم. لم يكن لدي ما يكفي من المال لأستعمل السكك، أما الـ”ستيديكام” فلا يجاري أسلوبي المفضّل من التصوير. هذه الآلة ساعدتني أن ألحق بالممثلين. بعد “يوميات جامع خردة”، أردتُ العودة إلى حكايات معاصرة لا أبالي فيها بمكان الكاميرا. لطالما صوّرتُ أفلاماً بموازنة ضئيلة. لم أُمنح في أي يوم من الأيام ما أحتاج إليه من مال لأصوّر أفلاماً تاريخية حيث عليك أن تحجب مظاهر الحياة الحديثة. هنا، كنت أريد أن أصوّر ما أريده بالطريقة التي أريدها

·        إحدى شخصيات الفيلم تقول: “لا أؤمن بالخير عند البشر، أؤمن بغريزة البقاء فقط”. هل هذه الجملة منك؟

نعم. عندما تعيش ما عشته، ستكتشف أنّ في مقدور الناس أن يكونوا طيبين جداً إزاء غريب يلتقونه للمرة الاولى، وفجأة تراهم يتحولون إلى أكبر كابوس لجيرانهم. هذا أحد الأسباب الذي دفعني إلى إنجاز الفيلم. أجده دعوة لعدم العودة إلى الوراء. لندع المؤرخين يقومون بعملهم. في النهاية، مَن يأبه بهذا كله؟ غافريلو أطلق النار وقتل الأرشيدوك. انتهى الموضوع! لننتقل إلى أمر آخر. المشكلة أننا نعود إلى هذا الموضوع باستمرار، الأمر الذي يثير غضبي شخصياً. عندما تتكلم مع بعض الصرب، تشعر أنّ معركة كوسوفو حصلت أمس. دعونا نطوي هذه الصفحة، خصوصاً أنّ كلّ هذا التمسّك بالتاريخ السحيق يتم توظيفه ضد الناس. نعيش في هذه الحال منذ ٢٥ عاماً. إذا ضربتَ طوقاً هنا من ٣ كم، فسترى أنه يعيش في داخلها عدد من الناس يفوق عددهم مَن يعيش في البوسنة. نحن فقط ٤ ملايين نسمة. إنه أمر مضحك! لدينا بلد جميل كان من الممكن أن يغدو جنة. في فيلمي المقبل سأريكم كم هو جميل. إنه واحد من أجمل بلدان العالم. هذا اللقاء بين الثقافات... يثريني مثلاً أن يكون لي أصدقاء كاثوليك ويهود، مع أنني لستُ متديناً، ولكن أتكلم من وجهة نظر ثقافية. الاختلاف ثراء ويأتيك بأشياء لا تملكها. هناك بلدان كبلجيكا حيث يتحدث شعبٌ واحد لغتين. نحن نتحدث لغة واحدة وهذا يساعد كثيراً. أحدنا يفهم الآخر بشكل جيد. نقرأ الكتب نفسها ونسمع الموسيقى نفسها. ولكن أكرر، لن تتحسن الأمور ما دام القوميون في السلطة يغذّون هذا الخطاب التقسيمي. ثم، السياسة في أوروبا هذه الأيام مجرد هراء. وهذه السياسات تنعكس على البلقان بشكل سيئ. كلّ ما يفعله الأوروبيون هو القاء خطب رنانة وقبض مبالغ كبيرة عليها عندما يأتون إلى ساراييفو

·        في رأيك، هل ترسّخ الأحداث في الفيلم ضرورة انضمام البوسنة إلى الاتحاد الأوروبي؟

أن تكون البوسنة جزءاً من النادي الأوروبي شيء في منتهى الأهمية بالنسبة إلينا. وعلى أوروبا أن تُظهر هذه الرغبة، كي لا تكون من طرف واحد فقط، على الأقل كي لا يبقى النادي محصوراً بالدول المسيحية. نعم، من المهم لأوروبا وجودنا معها. ولكن، مضحكة جداً هذه الشروط التي تفرضها علينا. أحبّ فكرة أوروبا، ولكن في المقابل أوروبا تُحتضر، لأنها وقعت في يد التقنوقراطيين والبيروقراطيين وأصحاب المصالح واقتسام الأرباح. برلين هذه، حيث نحن اليوم، سُويت بالأرض قبل ٧٠ عاماً، ثم من فيها قال: “خسرنا ملايين الأرواح، ربما يجب أن نتعامل مع الأمور بطريقة مختلفة”. هؤلاء أسسوا فكرة أوروبا، ولكن الفكرة تبددت

·        هل تحنّ الى الماضي؟

لديّ حنين كبير ليوغوسلافيا. كانت صغيرة جداً ليتم تقسيمها. لديّ أصدقاء في كلّ مكان من هذه البقعة الجغرافية أصبحوا يعيشون في بلد آخر. كرواتيا، هذا البلد ذو الطابع المتوسطي، كم لي فيه ذكريات. سلوفينيا، أزورها كثيراً وصوّرتُ فيها فيلمين. ولكن، الحديث عن هذا كله بات يثير التعب اليوم. ضقتُ ذرعاً من شعوب البلقان ومن هرائهم الذي لا نهاية له. هذا يقول “أنا كرواتي”، وذاك يقول “أنا صربي”. علينا أخذهم إلى بومباي ليدركوا حجمهم. علينا أن نظهر لهم كم هم مهمّون، لأنهم يؤمنون فعلاً انهم كذلك. أحقر المشاعر هي المشاعر الوطنية. حكوماتنا الجديدة تؤمن بفكرة التفوق. والعلة ان الناس يكرهون بعضهم البعض، ثم تراهم يحتسون الخمر مع بعضم البعض بلا أي مشكلة. ولا أحد يقول لنا كيف سنعيش غداً وكيف سنعالج مشاكلنا. خذ ٤ ملايين بوسني واستبدلهم بـ٤ ملايين ألماني، وغداً ستحصل على واحد من أعظم بلدان العالم. والعلة أنه إذا جاء البوسني ليعمل هنا في برلين، سيعمل جيداً ويحترم القانون ويدفع الضرائب. لذلك، هناك أمور لا أفهمها، منها أنه لماذا ننتخب هؤلاء الذين يتسببون بمأساتنا. أعرف أنّ كثيرين سيكرهونني لهذا الكلام، ولكن لم أعد أؤمن بالديمقراطية، لأنها تعني حكم الأكثرية، والأكثرية في بلدي جاهلة لا تستحقها. 

·        ما البديل؟

ديكتاتورية متنورة.

النهار اللبنانية في

28.02.2016

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)