كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

أحمد شوقى يكتُب..

قراءة فى جوائز مهرجان برلين السينمائي “برلينالي 66

مهرجان برلين السينمائي الدولي السادس والستون

   
 
 
 
 

انقضت الدورة السادسة والستون من مهرجان برلين السينمائى الدولى “برليناله” بحلوها ومُرّها، الحلو ممثلا فى المشاركة العربية الجيدة على صعيدى الكمّ والكيف، والمُرّ عنوانه غياب الفيلم التحفة؛ دورة بأكملها تخلو من عظيم أو خارق للمألوف يمكن اعتباره عنوانا نذكر الدورة من خلاله. هناك بالطبع أفلام ممتازة لكنها تظل فى إطار الطبيعى والمتوقع، فعندما تكون فى مهرجان بهذا الحجم من الطبيعى أن تقابل العديد من الأعمال الجيدة.

عندما أعلنت نتائج المسابقة الرسمية، التى قررتها لجنة تحكيم رأستها النجمة ميريل ستريب، كان من الطبيعى أن تركز غالبية الأخبار والمتابعات العربية على الفيلم التونسى “نحبك هادي” لمحمد بن عطية، الذى لم يكتف بكونه واحدا من أكثر أفلام المسابقة تقديرا ضمن المتابعات النقدية العالمية، لكنه توّج ذلك بجائزتين رسميتين هما جائزة العمل الأول وأحسن ممثل لبطل الفيلم مجد مستورة. اهتمام منطقى بعمل يستحق، لكن من المهم أيضا إلقاء الضوء على أفلام أخرى توجت بجوائز، كما سنحاول أن نفعل فى هذا المقال.

روزى يدخل التاريخ مرتين

فى عام 2013، دخل الإيطالى جيافرانكو روزى التاريخ السينمائى عندما كان فيلمه “الطريق الدائرى المقدس” أول فيلم تسجيلى ينال جائزة الأسد الذهبى من مهرجان فينيسيا، ليعود روزى ويكرر نفس الإنجاز مع دب برلين الذهبي، بعدما توّج فيلمه “حريق وسط بحر Fire at Sea” بكبرى جوائز البرلينالة. الجائزة توقعها معظم الإعلاميين منذ عرض الفيلم، لمستواه المتميز مقارنة بكل منافسيه أولا، ولارتباطه بالقضية المسيطرة على اهتمام المهرجان والقارة الأوروبية بشكل عام ثانيا، وهى بالطبع قضية اللاجئين.

فيلم روزى يأتى فى وقت تشغل القضية الرأى العام فى ألمانيا، ويخصص لها المهرجان اهتماما خاصا بإهداء دعوات مجانية لمن يريد من اللاجئين أن يحضر المهرجان. روزى صنع كل شىء فى الفيلم بنفسه، انتقل إلى جزيرة ليمبادوسا الشهيرة، محطة سفن الهجرة غير الشرعية، ليقيم هناك يرصد ويصوّر ويحاور وينهى مونتاج فيلمه المقسوم إلى خطين لا يلتقيان على الشاشة وإن كان لقاؤهما مستمرا فى ذهن المشاهد: خط السفن التى تتوافد حاملة آلاف المهاجرين إلى سواحل الجزيرة، فى ظروف غير إنسانية تنتهى غالبا بغرق السفينة ومن فيها، أو وصولها بعدما تُزهق أرواحا وتمرض أجسادا، وخط الصبى ابن الجزيرة، الذى يكتشف عالمه الذى صار منعزلا عمّا يدور على شواطئه بعد نقل حدود الجزيرة وبالتالى مقابلة الواصلين داخل المياه.

كأنه حريق فى عرض البحر” هكذا تقول إحدى الشخصيات ليأخذ المخرج العبارة فيجعلها عنوانا لفيلمه فائق الإيلام، الذى قوبل تتويجه برضا عام من معظم متابعى المهرجان.

البوسنة لا تزال مشتعلة

جائزة لجنة التحكيم الخاصة (الدب الفضي) ذهبت للبوسنى المخضرم دانيس تانوفيتش ذى العلاقة الممتدة ببرلينالة، عن جديده “موت فى سراييفو Death in Sarajevo”، الفيلم متعدد الحبكات الذى تدور أحداثه خلال يوم واحد مشتعل فى فندق فاخر بالعاصمة البوسنية: الإدارة تستعد لاستقبال قمة سياسية أوروبية، العاملون يخططون للإضراب خلال الحدث مطالبةً برواتبهم المتأخرة، مدير الفندق يحاول السيطرة على الوضع بأى وسيلة، وفوق السطح يتم تصوير برنامج حوارى يتطرق لتاريخ البوسنة بعد حرب البلقان الدموية.

بصريا لا يقدم الفيلم جديدا يذكر، لكن دراميا هناك بناء محكم تتلمسه فى البداية ويزداد فهمك له مع تقدم الأحداث. النار تحت الرماد، كل صور التعايش والتحضر هى مجرد غلاف خارجى لجرح لم يندمل لأن كل طرف شارك فيه لا يزال يؤمن أنه كان على حق، وصورة المدينة الحديثة التى استقبلت كبار المشاهير وتستضيف حدثا عالميا، يمكن ببساطة تقويضها خلال ساعات لأنها لا تستند إلى تصالح حقيقى مع الماضي. طرح يأتى فى سياق دراما سريعة لا تهدأ، تعطى مثالا لكيفية مزج الفيلم بين الحس التجارى والثقل الفكري.

فتح آفاق جديدة.. ربما

أما أكثر جائزة يمكن الاختلاف حولها فهى جائزة دب ألفريد باور الفضى لأحسن فيلم يفتح آفاقا جديدة، والتى نالها المخرج الفلبينى لاف دياز عن فيلمه “تهويدة للغز المحزن A Lullaby to the Sorrowful Mystery”، الفيلم الذى تتجاوز مدة عرضه الثمانى ساعات، والذى أصرت إدارة المهرجان على إدراجه ضمن المسابقة الرسمية بالرغم من أن الأنسب لتجربة مغايرة كهذه أن تُعرض فى قسم خاص لا يُجبر غير المهتم من الإعلاميين ولجان التحكيم على متابعة عمل بهذا الطول.

كاتب هذه السطور اكتفى بمشاهدة قرابة الساعتين من الفيلم، مثل كثيرين شاهدوا كفايتهم منه ثم خرجوا لمتابعة أفلام وأعمال أخرى، بدلا من إضاعة الوقت فى عمل يبدو فيه من اللحظات الأولى أن صانعه مُعجب بخوض لعبة الزمن الممتد. قد تكون لجنة التحكيم قد رأت أن صناعة عمل كهذا إنجاز يفتح آفاقا، لكن الأزمة هى أن كل مشهد كان من الممكن أن يُقدم فى ربع زمنه. الكاميرا ثابتة أغلب الوقت، كل مشهد لقطة وحيدة تمتد لعدة دقائق، وشريط الصوت يستخدم مؤثرات صناعية تتكرر داخل المشهد بثبات مثير للأعصاب.

إجمالا، يعطيك الفيلم انطباعا بأنه صُنع فقط كى يتحدث الجميع عن طوله الهائل، بينما ما شاهدته فى ساعتين كان ليُعرض فى نصف ساعة بسهولة. ليس من الجائز فى الحقيقة قول هذا، ففى النهاية هو خيار صانع العمل، لكن نفس الحرية التى صنع من خلالها عمله نستخدمها لنقول إنه نفس العمل ما كان ليعرض فى برلينالة وليس ينال جائزة لولا لعبة الثمانى ساعات التى أعجب بها المبرمجون.

جريدة القاهرة في

01.03.2016

 
 

"نار في البحر" .. الحاصل على الدب الذهبي

أمير العمري

منذ أن عُرض فيلم "نار في البحر" للمخرج الإيطالي "جيانفرانكو روزي" في الدورة الـ 66 لمهرجان برلين السينمائي، والأنظار كلها تتجّه نحوه وتوقعّات فوزه بإحدى الجوائز الرئيسية مرتفعة. وقد حصل بالفعل على أرفع جائزة يمنحها المهرجان وهي جائزة "الدب الذهبي". لاشك في تميُّز الفيلم فنيا، وجماله الخاص، وجرأة تصوير الكثير من مشاهده، وقدرة مخرجه على التجسيد الواقعي التلقائي للشخصيات والأحداث التي يرصدها بكاميراه ويصوِّرها. ولاشك كذلك في أن الفيلم يتميز كثيرا على الفيلم السابق لروزي "الطريق المقدّس حول روما" الحاصل على "الأسد الذهبي" في مهرجان فينيسيا قبل عامين، وهي جائزة لم يكن يستحقها.

غير أن العنصر الأهم الذي يجعل من فيلم "نار في البحر" Fire at Sea عملا يستقطب كل هذا الاهتمام ويحظى بالتقدير، كونه الفيلم الوثائقي الأوروبي الأول الذي يخصص موضوعه لاكتشاف أو بالأحرى- للكشف- عن واقع "قوارب الموت" أو أولئك اللاجئين الذين يفرون من القارة الإفريقية عبر الساحل الليبي بواسطة تلك القوارب البدائية، يعبرون المتوسط في ظروف قاسية، يقصدون جزيرة لامبيدوزا الإيطالية وهي أقرب نقطة يمكنهم الوصول إليها تمهيدا لدخول أوروبا نفسها.

المعلومات التي تظهر على الشاشة في بداية الفيلم تخبرنا بأن أكثر من 400 ألف مهاجر غير شرعي ركبوا تلك القوارب قاصدين لامبيدوزا خلال العشرين عاما الأخيرة، مات منهم غرقا نحو 15 ألف شخص. وهي معلومات صادمة لأنها لم تُغيِّر من واقع الأمر شيئا، فمازالت لامبيدوزا تستقبل سنويا أكثر من 150 ألف لاجئ، معظمهم فارّين من جحيم الحروب الأهلية والصراعات العرقية والدينية في بلادهم، بينما تغرق أعداد كبيرة أخرى.

لا يعالج جيانفرانكو موضوع الفيلم القاتم، المثير للاضطراب، بأسلوب الجريدة السينمائية أو التحقيق التليفزيوني، بل يلجأ إلى البناء الشعري، الذي يصنع من خلاله مقاربات تدعو للتأمُّل، بين البشر من سكان الجزيرة من جهة، واللاجئين الغرباء الذين ليس من الممكن اعتبارهم مجرد "ضيوف" عابرين من جهة أخرى، أو تجاهل وجودهم.

كان المخرج جيانفرانكو قد شرع في إخراج فيلم تسجيلي عن موضوع اللاجئين في عشرة دقائق، ثم وجد نفسه "متورِّطا" في الموضوع فكان أن قضى عاما كاملا في الجزيرة وأنجز هذا الفيلم الذي يقرب من ساعتين. ومن أولى لقطات الفيلم نرى أنه يريد أن يصنع تقابلا بين ما نطلق عليه مسارات وشخوص "الحياة العادية" للسكان ومعظمهم من أسر الصيادين، وبين الحالة المزرية للاجئين من جهة أخرى. الشخصية المحورية في فيلمه طفل في التاسعة من عمره يدعى "صامويل" لا يصبح كما نتوقع دليلا لاكتشاف حالة هؤلاء الغرباء القادمين، بل وسيلة لجرّنا بعيدا معه في مغامراته وعبثه ولهوه، وولعه بالسؤال عن كل ما يخطر وما لا يخطر على البال، باستثناء أمر واحد فقط هو موضوع هؤلاء اللاجئين.

والد صامويل غائب في البحر معظم الوقت، والفتى يعيش مع جدته التي تطهو الطعام باستمرار في المطبخ دون أن تأبه كثيرا لما يبثّه  التليفزيون من أخبار عن غرق قارب أو أكثر من قوارب اللاجئين قرب الجزيرة، والطفل مشغول تارة بتقطيع النباتات الشوكية أو تصويب النبال إليها وقصفها بالأحجار الصغيرة، أو ركوب دراجة نارية مع صديق له والسير بصعوبة بالغة فوق الصخور الناتئة، أو تسلق الأشجار والعيش في أوهام البطولة في حين أنه يشعر بالغثيان من مياه البحر التي يخشاها لأنه لا يعرف السباحة رغم أن مصيره الذي لا مفر منه عندما يكبر، سيكون غالبا "ركوب البحر" أي الاتحاق بمهنة أجداده!

صامويل إذن يعيش في عالمه الخاص. وفي مشهد من المشاهد المحورية في الفيلم يجلس الفتى على مائدة الطعام مع أبيه وجدته، يتناول الإسباغيتي الذي طهته له جدته بشراهة وبصوت مسموع ولكن دون أن يكفّ عن توجيه الأسئلة إلى أبيه.. بينما الأب والجدة أقرب إلى الصمت.. مع إجابات قصيرة مقتضبة أحيانا. هذه الرغبة المشتعلة دائما بحُبّ الاستطلاع تتناقض بالطبع مع مقاومة الفتى تعلُّم الإنجليزية في المدرسة، كما تتناقض مع جهله التام بما يحدث بالقرب منه على نفس بقعة الأرض المحدودة.

صامويل ليس وحده الذي يستأثر باهتمام المخرج، فلدينا أيضا مذيع الراديو الذي يستجيب لما يطلبه المستمعون من أغنيات منها تلك الأغنية الشهيرة "نار في البحر" التي يستمّد الفيلم عنوانه منها، ويجعلها رمزا لما سنراه في الثلث الأخير من الفيلم بشكل صادم. وهناك أيضا الغطاس الذي يبدي صامويل إعجابا كبيرا به ويطرح عليه عشرات الأسئلة عن طبيعة عمله وعلاقته بالبحر، ونراه بالفعل في لقطات يوزّعها المخرج على مدار الفيلم، أثناء قيامه بالغطس تحت الماء.

وهناك الطبيب الذي يروي للمخرج الكثير مما مرّ به خلال عمله، وما يفرضه عليه واجبه من تقديم العون للاجئين الذين يصلون في حالة سيئة للغاية. وفي مشهد طويل يخرج قليلا بالفيلم عن إيقاعه، يقوم الطبيب باستخدام جهاز "السونار" لفحص امرأة حامل في توأم من بين نساء اللاجئين الأفارقة، ويحاول جاهدا أن يجعلها تشاهد الطفلين داخل الرحم، ولكن دون أن يفلح ويظل يعتذر بأن الجنينين ملتصقين ببعضهما البعض. وسنعود لهذا الطبيب فيما بعد عندما تشتد الأزمة لكي نتعرف على علاقته المباشرة بالقادمين إلى الجزيرة، حيث تستعين به السلطات لتقديم الإسعافات الضرورية والتعامل مع حالات الجفاف الحادة التي تتسبب كما نرى أمام الكاميرا مباشرة، في وفاة الكثير من الأبرياء.

يجوب المخرج بالكاميرا البحر مع قوارب حراس السواحل وفرق الإنقاذ، يرصد ويسجل نداءات الاستغاثة الصادرة من رُكّاب القوارب الذين يصفون في رسائل صوتية مرعبة ما يحدث لهم وقت التصوير الفعلي، وكيف يواجهون مصيرهم غرقا في مياه البحر في تلك القوارب المكتظّة بأعداد تفوق قدرتها على الاستيعاب والتحمل.

وفي أحد المشاهد يستمع حارس السواحل لاستغاثة متكررة من ركاب القوارب، فيطلب منه تحديد موقع القارب، لكن صوت الرجل المصاب الهلع يُكرر فقط أنهم يغرقون، إلى أن يصمت في النهاية، فالنجدة لا تتوفر بالسرعة المطلوبة، وتبدو الجزيرة نفسها غير مؤهلّة لاستقبال تدفُّق اللاجئين، والمستشفى الوحيد هناك لا يحتوي على ما يلزم من أجهزة طبية وطاقات بشرية مؤهلة ومدربة يمكنها التعامل مع كل هذه الأعداد. ورغم ذلك يحاولون.

في مشهد مرعب يصوِّر المخرج وصول أجدد تلك القوارب المكتظة ويهبط فوقها بكاميرته لنرى جثثا متناثرة في القاع لمن فارقوا الحياة، ثم أشلاء بشر، وبقايا أشخاص يتمدّدون على الأرض بعد أن أصابهم الجفاف في مقتل، كما تسبب وجود الكثيرين منهم في الطابق الأسفل من القارب بالقرب من المحركات والزيوت الساخنة في احتراق جلودهم.

ونعرف أن هناك ثلاث طبقات للركاب حسب المبلغ الذين يدفعه كل منهم، من يُسمح لهم بالتواجد في أعلى القارب، ومن يجلسون في الطابق التالي، وأخيرا من يرغمونهم على الهبوط إلى القاع داخل غرفة المحركات في درجة حرارة مرتفعة وفي حالة خانقة.

يحتفل من نجوا منهم من الموت بالحياة، ينشدون الأغاني التي تُعبِّر عن التفاؤل والأمل، لكنهم يبدون أيضا رغبتهم في الانتقال من لامبيدوزا، ومغادرة المعسكر الذي تضعهم فيه السلطات.. ونراهم وهم يلعبون الكرة، يلهون بالسهر والحلم بالحرية في أوروبا

ثم نراهم أثناء استجوابهم من جانب مسؤولي الإنقاذ، وإجاباتهم على عشرات الأسئلة حتى يمكن تصنيفهم وفرزهم والتعرُّف على دوافعهم للهجرة، ومعظمهم لا يعرفون كلمة واحدة من الإنجليزية أو من لغة البلد الذي أصبح موطنهم الجديد الآن.

كاميرا متمهلّة، موسيقى حذرة، لقطات متقاطعة ما بين الليل والنهار، وانتقالات في المكان. أحيانا تتوقف الكاميرا الساكنة طويلا أمام صامويل، ترصد كل ما يقوله وطريقته الخاصة في التعبير عن نفسه ولو بنوع من العدوانية الطبيعية لمن هم في مثل عمره، وأحيانا أخرى يركز المخرج على ما يمكن اعتباره نوعا من الاستطرادات، كما في حالة تصوير مشكلة إحدى عيني صامويل التي يُخبره الطبيب بأنها تعاني من "الكسل"، وينصحه بتغطية العين السليمة، لكي يدفع العين الكسولة إلى العمل وبالتالي تسترجع قدرتها على الإبصار بشكل طبيعي تدريجيا. ولكن لعل جيانفرانكو أراد ان يجعل "العين الكسولة" هنا مجازا للتعبير عن ضعف رؤية سكان لامبيدوزا لما يحدث على جزيرتهم.

لاشك أن "نار في البحر" ساهم في لفت الأنظار إلى المشكلة الأهم التي تواجه القارة الأوروبية والعالم في الوقت الحالي، رغم كل ما يشوب الفيلم من جوانب قصور أو عيوب. ولعل حصوله على الجائزة كان طبيعيا أيضا مع غياب "التحفة" السينمائية التي يتفق حولها الجميع.

الجزيرة الوثائقية في

03.03.2016

 
 

'آخر أيام المدينة' فيلم عن نهاية القاهرة كمدينة عظيمة

العرب/ أمير العمري

في قسم “المنتدى” بمهرجان برلين السينمائي الذي اختتم مؤخرا، عرض الفيلم المصري “آخر أيام المدينة” للمخرج تامر السعيد، وهو أول أفلامه، وظل في مرحلة العمل لعدة سنوات إلى أن أتيحت له فرصة العرض العالمي الأول في أحد أهم المهرجانات السينمائية في العالم.

يمكن القول إن فيلم “آخر أيام المدينة” للمخرج المصري تامر السعيد، هو فيلم عن الغربة كما أنه عن الموت والتدهور والاحتضار، وكأننا نشهد نهاية حضارة كانت قائمة ذات يوم. إنه يجسد حالة التحلل والانهيار، ويلمس تلك الثورة الكامنة في الصدور التي كانت قد تراكمت في 2009 وقت تصوير الفيلم، ولكن الفيلم يبدو أيضا كما لو كان نبوءة بفشل الثورة، بالتراجع إلى ما هو أسوأ من الماضي الذي ثار عليه الثائرون.

إنه باختصار فيلم عن الإحباط على المستويين؛ العام والخاص، وعن سقوط مدينة في براثن الجهل والتخلف والشعوذة والإهمال والهدم.

الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية خالد (خالد عبدالله)، وهو مخرج سينمائي شاب (يعادل شخصية المخرج نفسه ويعبر عنه)، وهو شاب أقرب إلى التأمل والصمت إن لم يكن مصابا أيضا بنوع من الاكتئاب، والأسباب كثيرة بالطبع، كلها تنبع من مناخ الإحباط والتخبط والعجز الذي يشعر به الكثير من أبناء الطبقة الوسطى في مصر حاليا.

خالد يصوّر ويخرج فيلما تسجيليا عن أشياء تبدو وكأنها لا ترتبط ببعضها البعض، شأن فيلم تامر السعيد نفسه، الذي يبدو أيضا كما لو كان يعاني من مشاكل في السرد والبناء، لكن هذا البناء الذي يبدو ظاهريا مفككا وعشوائيا، مقصود تماما، لكي يصبح انعكاسا لحالة المدينة نفسها التي تُعتبر البطل الأول في الفيلم، القاهرة التي تعاني من الزحام والفوضى المرعبة والتدهور وسيادة مظاهر ناشئة حديثا فرضت نفسها وأصبحت طاغية على البشر، مما أدّى إلى تراجعها عن الحداثة والازدهار السابق.

المربع السحري

لا يكاد الفيلم يغادر منطقة وسط القاهرة، تلك المنطقة التي أطلق عليها الكاتب الأميركي ماكس روزنبك “المربع السحري”، وهو الذي عاش فيها طوال عمره وكتب عنها كتابه البديع “القاهرة المنتصرة” راصدا فيه تاريخها، تألقها وتطورها، ثم نموها الوحشي، ثم تدهورها، غير أن مستوى التدهور الذي يرصده تامر السعيد في فيلمه يتجاوز كثيرا ما رصده روزنبك في كتابه الذي صدر قبل أكثر من ستة عشر عاما.

إننا في زمن الهدم والانهيار والتسلط والقهر والقبح وتراجع القيمة، وهذه الحالة المركبة هي التي يعبر عنها الفيلم، لكنه لا يلجأ إلى المباشرة، ولا إلى الدراما التقليدية في رسم شخصياته وأحداثه إذا جاز القول بأن هناك أحداثا، بل يكتفي بالرصد والمراقبة والتوثيق، مع قدر من الارتجال في الأداء أمام الكاميرا لإضفاء الواقعية من خلال الأسلوب شبه التسجيلي/ شبه الروائي، حيث يحاول أن يصنع من بعض النثرات المتفرقة، والشخصيات الحزينة التي يحبسها دائما في لقطات “الكلوز آب”، طريقا لرحلة تبدو وكأنها رحلة إلى نهاية العالم، فالقاهرة هنا هي عالم بأسره، بأبطاله وصعاليكه ومشرديه ومثقفيه، بل وحتى بتظاهراتهم الغاضبة.

في الفيلم نشعر أن القاهرة لم تعد تتحرك، بل أصبحت في انتظار وقوع انفجار كبير يطيح بذلك الركام من التدهور

لا يستطيع خالد أن يكمل فيلمه، ولا يشعر بالرضا عما أنجزه، فدائما هناك شيء ناقص مازال يبحث عنه. وهو في حياته اليومية مشغول بالبحث عن مسكن آخر ينتقل إليه بعد أن منحه صاحب المسكن الذي يقيم فيه مهلة قصيرة للمغادرة، وهو يقضي يوميا وقتا طويلا مع سمسار في البحث عن شقة مناسبة، لكنه لا يعثر عليها أبدا، ولا يعرف ماذا سيحدث له؟ ويصل بالتالي إلى الإحساس باليأس، لكنه مع ذلك يصرّ على الاستمرار في التصوير، وكأنه يخشى أن تفوته لقطة من لقطات مشهد السقوط العظيم.

ترقد أم خالد في المستشفى مريضة مشرفة على الموت، وتشعر حبيبته ليلى بالاختناق في المدينة، تريد أن تهرب إلى الخارج لتتخلص من ذلك الشعور الدائم بعدم التحقق والعجز عن ممارسة الحب، أما حنان التي تدير ورشة للتمثيل فإنها تهرب إلى “نوستالجيا” الحنين، إلى الإسكندرية التي عرفتها في طفولتها والتي ربما لم يعد لها وجود الآن أيضا.

وتنتشر على المستوى العام مظاهر اللوثة الدينية، التي ضربت قطاعات كبيرة من الطبقات الشعبية والمتوسطة، وصبغت وجه الثقافة العامة السائدة التي يمكن أن تلمحها في لافتة، أو عبر أصوات عالية مزعجة تصدر من المساجد، أو تجمعات همجية لأناس يرتدون أزياء تنتمي إلى العصور الوسطى الغابرة، لقد تغيرت ملامح القاهرة التي عُرفت في الماضي القريب، كمدينة كوسموبوليتية عصرية، فأصبحت اليوم أقرب إلى ما أطلق عليه عبدالرحمن المنيف “مدن الملح”.

يرصد الفيلم كل مظاهر التدهور بنظرة حزينة، ولكنه في الوقت نفسه، يرصد بدايات حركة الوعي التي تمثلت في مظاهرات حركة كفاية التي عبرت بقوة عن رفض ممارسات نظام الرئيس مبارك، ويعيد تامر السعيد تجسيد المواجهات مع رجال الشرطة التي تستخدم كل وسائلها لقمع تلك المظاهرات، كما يصوّر حالة الاضطراب العام، وموجات الهدم؛ هدم المنازل القديمة التاريخية الذي نراه في مشهد وحشي، وعمال الهدم يضربون بمعاولهم فيسقطون الجدران والشرفات والأسقف أمام الكاميرا في لقطة طويلة ثابتة.

إنهم يغتالون التاريخ نفسه في ضراوة وعنف، وتنتهي اللقطة والأتربة تغطي الشاشة وتكاد تخترق عيوننا.

في مناقشة تجمع خالد بثلاثة من المثقفين الشباب العرب؛ منهم اثنان من العراق، هما حيدر حلو الذي يقيم في بغداد، وباسم حجار الذي ترك العراق ويقيم في برلين، والمصور السينمائي اللبناني باسم فياض، حيث يجسد تامر السعيد علاقة المثقف بمدينته، علاقة الحب التي تربطه بمدينته، بذكرياته الحميمية فيها، بعلاقاته التي لا يستطيع الانسلاخ عنها، وفي الوقت نفسه، الشعور بالإحباط مما حدث لها من تدهور.

الواضح أن الثلاثة كانوا مدعوين للمشاركة في ندوة ثقافية، وهم يتجادلون طويلا ويعقدون المقارنات بين المدن الثلاث، التي أصبحت مدنا ملعونة؛ المصور اللبناني مثلا يرى أن بيروت أصبحت تستعصي على التصوير، بينما يدافع حيدر حلو عن فكرة البقاء في بغداد رغم كل ما حدث لها فهي بالنسبة له كالقدر، أو كالأم التي يمكنه أن يلعنها أحيانا، لكنه لا يستغني أبدا عنها، أما باسم حجار فيصف شعوره بالغربة عن برلين حقا، ولكنها أيضا تمنحه الأمان.

الفيلم باختصار عن الإحباط على المستويين؛ العام والخاص، وعن سقوط مدينة في براثن الجهل والتخلف والشعوذة

يعيب مشهد حوار المثقفين رغم أهميته، الإسهاب والإطالة، خاصة وأن خالد لا يبدو متفاعلا مع الآخرين كما ينبغي، فهو دائما ساهم ومكتئب، غير متداخل، يراقب ويسجل ويصوّر وينقب، ويبدو كأنه يصوّر مشهدا من فيلمه أبطاله هم أصدقاؤه الثلاثة.

المدينة العربية

ينتقل تامر السعيد في مشاهد قصيرة إلى كل من بغداد وبيروت، يأسى لحال المدن العربية وما وصلت إليه من تدهور، وعلى شريط الصوت خلال تحرك خالد في سيارة التاكسي بصعوبة بالغة في شوارع وسط القاهرة، لا يكف المذياع عن بث الأخبار التي تتصدرها بالطبع أخبار الرئيس مبارك واستقبالاته واحتفالاته وما يقوم به ابنه جمال في مجال كرة القدم، والكثير من الأنباء حول النزاع الذي انفجر بين مصر والجزائر بسبب مباراة في كرة القدم عام 2009، كما تتوالى أنباء الانفجارات في بغداد وبيروت، وعندما يحاول خالد في مشهد تال الاتصال بحيدر في بغداد لا يتلقى ردا فيزداد شعوره بالقلق.

يستخدم تامر السعيد الكاميرا المتحركة الحرة التي تستطيع الانتقال في الأماكن المزدحمة والشوارع المليئة بالبشر، والتسلل بين الحوانيت والسيارات المتراصة التي تتحرك بصعوبة بالغة في شوارع وسط القاهرة، والكاميرا المحمولة المهتزة تحقق طابع الواقعية التسجيلية، وتعكس الواقع المهتز المهترئ الموشك على الانهيار، والمخرج يركز الكاميرا طويلا على الوجوه في لقطات قريبة، معظمها يظهر أجزاء من الوجوه، من زوايا سفلية، مما يؤدي إلى كسر التكوين التقليدي للقطات، وخلق جماليات خاصة للصورة ترتبط بحالة غياب اليقين التي يصورها في فيلمه.

إننا نشعر خلال مشاهدة الفيلم بأن القاهرة لم تعد تتحرك، بل أصبحت في انتظار وقوع انفجار كبير يطيح بذلك الركام الهائل من التدهور، ويزرع برعما لحياة أخرى جديدة، وربما نشعر أيضا أنها أصبحت بسبب الإهمال والشيخوخة والعجز والتدهور، تسير إلى مصيرها، ومن هنا يأتي اسم الفيلم “آخر أيام المدينة”.

خالد ليس مثل المدينة التي يصورها فهو لا يستسلم، بل يصرّ على المضي قدما في التصوير رغم غياب خطة واضحة لديه بخصوص ما يريده بالضبط من فيلمه، إنه يشتغل ويبدو كأنه يريد تسجيل تلك اللحظات الفارقة في تاريخ المدينة التي دمرها الأغبياء، قبل أن تشهد سقوطها النهائي.

وفي لحظة ما يقول له المونتير الذي يعمل معه إنه لم يعد يفهم العلاقة بين كل هذه الشخصيات والمشاهد التي يصورها، لكن هذه الحالة من العجز والتشتت وعدم الاكتمال وغياب الرؤية، هي تحديدا الحالة التي يريد تامر السعيد أن ينقلها إلينا في فيلمه. لا شك أنه نجح وأبدع.

العرب اللندنية في

04.03.2016

 
 

نساء على حافة الحب واليأس والدمار الداخليّ

أمل الجمل

هل الحب هو الذي يقودنا ويحكم تصرفاتنا؟ ما الذي يُعطيه لنا الحب؟ وما هي مشكلته؟ لماذا يتحدث القساوسة وأهل الدين كثيراً عن الحب، ويعتبرونه أمراً صعباً؟ وهل حقاً «الحب أهم شيء في حياتنا، فحتى لو كانت أجسامنا ضعيفة علينا ألا نتخلى عنه»؟ التساؤلات والأفكار السابقة عن الحب وتعقيداته تأتي متناثرة في سياق الفيلم البولندي السويدي المشترك «ولايات الحب المتحدة» للمخرج توماس فاسيليفيسك الذي اختار أربع نساء متفاوتات الأعمار ليحكي معضلتهنّ وهوسهنّ بالحب وتذوقهنّ مرارته والحرمان منه. عبر هاته النساء نرى كيف أن للحب قدرة عجائبية على تدمير المرأة، على العكس مما تقول موعظة القسيس بأن: «الحب ليس معركة ضد أي إنسان، الحب يُقوّي الإنسان.» فهل كان إشكال هؤلاء النسوة مع الحب ذاته، أم بسبب اختيار الرجل الخطأ سواء كان انتهازياً أو جباناً، أو رجلاً عادياً لا يحرك ساكناً؟

أنثوية خالصة

يبدو الفيلم وكأنه مؤلف من ثلاثة فصول عن أربع شخصيات رئيسية، لكل امرأة فصل، فيما تمتزج حكاية امرأتين معاً في الفصلين الثالث والأخير. اللافت أنه رغم أنثوية الموضوع الخالصة تمكن المخرج الذي كتب السيناريو بنفسه وبسلاسة وصدق أن يغوص في أحاسيس المرأة ويجعل الحكايات تنتقل من طرف لآخر وكأنه عندما تنتهي حكاية شخصية ما تسلم طرف الخيط للشخصية الجديدة التي سبق ولمحنا وجودها عرضاً في بعض المشاهد، كشخصية فرعية لتتحول في لحظة ما إلى رئيسية، وإن كانت إعادة تأمل السيناريو تكشف أن الأحداث جميعها تدور في أقل من أسبوع واحد وأن المخرج استخدم الفلاش باك بمهارة وخفة وحذق، ليُعيد حكي ما حدث للنساء الأربع في ذلك الأسبوع، وكيف تعاملن مع مأزق الحب وسط خيارات محدودة جداً وفي ظل مجتمع قمعي، لذلك استحق الفيلم عن جدارة جائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو في البرليناله السادس والستين.

تدور الأحداث في بولندا عام 1990 أي في أعقاب سقوط الحكم الشيوعي، في محاولة لإلقاء ضوء شاحب وعاجل عن الخلفية السياسية التي أثرت بدورها في الوضع الاجتماعي للناس هناك، وما تبع ذلك من رغبة في التحرر من أعباء وقيود كبلتهم نفسياً واقتصادياً لعدد من السنوات، لكن ومع ذلك فإن هذا التأطير التاريخي ما كان ليُؤثر سلباً لو اختفى من الفيلم، لأن العمل يحمل في داخله اللحظة الآنية والمستقبل وإمكانية تكراره في ظل ظروف قمعية مماثلة بأي مكان على وجه البسيطة.

يبدأ الفيلم من لقطة للعشاء تضم مجموعة من الأصدقاء، والجيران من محيط واحد تقريباً والذين نرى أغلبهم فيما بعد في الكنيسة أو في طريقهم إليها. من بين الكلمات المتبادلة بينهم، نلحظ التوتر بين أغاتا وزوجها، يتأكد ذلك في أعقاب انفرادهما عندما يحاول الزوج أن يحتضنها لكنها ترفض وتخبره بأنها ستتركه بينما يحاول هو أن يمنعها. يتلي ذلك لقطات لهما في البانيو وحديث بارد جاف يؤكد التعاسة المرتسمة على ملامح الزوجة التي تخرج إلى الشرفة للتدخين وهي شبه عارية في طقس شديد البرودة وكأنها تنتحر. بعدها ينتقل المخرج عبر لقطتين واسعتين الى المكان الموحش حيث العمارات الرمادية القبيحة المتفرقة في مكان بارد كأنما يسكنه الموت، ومصدر الحياة الوحيد به كلب ينبح بانتظام.

أجاتا متورطة في زواج غير سعيد، ولديها فتاة في سن المراهقة، لكن فكرة الانفصال تستحوذ عليها خصوصاً أنها تنفر من جسد زوجها ولا تطيق أن يلمسها. وهي في الوقت ذاته مولعة، بل ممسوسة بحب القسيس الشاب الوسيم المشغول بجمع التبرعات، وتطارده في صمت أثناء صلواته، وتتأمل كلماته، لكن عندما يتحدث عن الحب قائلاً: «افعل ما تريده نفسك، اتبع صوتك الداخلي... ولا تهتم بالآخرين...» ترد فجأة بصوت عال وكأنما من دون وعي «أنت مرعب...» ما يلفت الأنظار المستنكرة إليها خصوصاً زوجها. يُمكن اعتبار جملة «اتبع صوتك الداخلي...» التي قالها القس هي مفتاح التحول الفعلي في سلوك شخصيتين على الأقل؛ أغاتا أمينة مكتبة شرائط الفيديو، وإيزا مديرة المدرسة. فالأولى تتبع صوتها الداخلي وتطارد القس وتطلب منه أن ينظر إليها، ثم تذهب لتنتظره على مقاعد الكنيسة ليلاً في لقطة تصويرية بإضاءة تفصلها عن الخلفية وتشي بأنها ملكة متوجة على العرش، ثم نراها وهي تتلصص عليه أثناء استحمامه. فعل لن تربح منه شيئاً سوى هزيمة أخرى فتعود إلى زوجها باكية متوسلة إليه أن يستجيب لرغبتها المحمومة لينتزعها من ألمها وصراعها النفسي الذي لن يتوقف على ما يبدو حتى نهاية الفيلم على الأقل.

يعود المخرج فلاش باك إلى داخل الكنيسة مرة أخرى، ليبدأ الفصل الخاص بـ إيزا التي قررت أن تتبع صوتها الداخلي فتخرج لتنتظر حبيبها الطبيب الذي كان يدفن زوجته للتو. يلتقيان بعد غياب، يبدو أن علاقة حب كانت قد جمعت بينهما قبل ست سنوات، لكنها لم تكتمل من دون أن نعلم الأسباب. فالسيناريو لا يُفسر كل شيء، فيه نقاط ضبابية وظلال كثيرة، وفيه تفاصيل متناثرة يشوبها الغموض أحياناً، لكن ذلك لن يقلل من متعة المشاهدة التي اعتمد التصوير فيها على اللقطات البعيدة والمتوسطة للكاميرا، مع حركات قليلة جداً فقط عندما تتحرك الشخصيات أو تجري فتلاحقها الكاميرا. أما اللقطات القريبة فاقتصرت على التصوير من الخلف. كما يخيم على الفيلم طابع الغموض والأجواء المهجورة والتلصص، فالجميع يتصرف في صمت وتكتم ولا يعبر عن مكنون داخله الذي تكشفه فقط تعبيرات الوجه. العلاقات بين الناس باردة، حتى بين الأختين اللتين تدعيان السعادة بينما تغمرهما موجات التعاسة، وقد ساعد في تحقيق ذلك الإضاءة الكئيبة والرمادية، وتلك العمارات بتصميمها القبيح.

يذهب الطبيب مع حبيبته، ثم يفر متسللاً من مخدعها ليلاً عائداً إلى ابنته المراهقة. تطارده إيزا، يتهرب كأنها كانت نزوة، وحين تُحكم الحصار من حوله يُقدم حججاً لا نسمعها، فتقول: «أدركت ذلك الآن فقط... ست سنوات وأنا لم أقف في طريقك».

الانتقام الأعمى

المرأة حين تُحب بصدق لا تستسلم، وحين تُخدع تسير في طريق الانتقام من دون أن يُوقفها شيء، مهما كان الضرر الواقع عليها. هذا ما تفعله إيزا التي تقيم علاقة عابرة مع شاب لتنتقم من نفسها وتُذل جسدها فيخبرها أنه كان أحد طلابها وها هو يثأر منها بعد أن تسببت في رسوبه. وتمادياً في الانتقام تدس في حقيبة ابنة الطبيب صورة تجمعها بوالدها، ورغم أنه يأتي إلى شقتها ويضربها حتى تنزف مهدداً بقتلها لو كررت فعلتها، لكنها لا تتورع عن اصطحاب ابنته فيولا والحديث معها ومحاولة إقناعها بأمر لا نسمعه إلى أن تتركها فيولا وتجري هاربة فتبتلعها مياه البحر الثلجية.

بعد اللقطة السابقة يعود المخرج بالفلاش باك مرة أخرى لنرى فيولا في الفصل الدراسي مع مدرسة الشعر «ريناتا» تشرح قصيدة عن الحب. هنا ينطلق الفصل الثالث والأخير لتلك الأنشودة الحزينة حول امرأتين إحداهما «مارزينا» مدربة الرقص الشابة والثانية «ريناتا» الكهلة التي أُحيلت للتقاعد فتجد نفسها فجأة غارقة في الوحدة. من ثم تسعى للالتحاق بالفصل الدراسي عند «مارزينا» التي تسكن في مواجهتها – وهـــي في الوقت ذاته شقيقة إيزا – ما يفتح باب الاحتمالات على مصراعيه في شأن إلحاح الأولى في التقرب من المرأة الشابة، فحتى عندما تفشل بكل الطرق ومنها الرشوة أن تلتحق بالفصل الدراسي، تنتظر عودة مارزينا في المساء لتُمثل أنها سقطت على السلم وأصيبت ذراعها فتساعدها مدربة الرقص ويبدأ باب الحوار بينهما ومعه يُمنح المتلقي مزيداً من النتف والتفاصيل الشحيحة لكنها– إلى جانب تفاصيل قليلة في الفصلين السابقين - تكفي لرسم صورة لمأساة كل منهما. فمارزينا سبق ورأيناها مع أغاتا – في الفصل الأول - كصديقتين تتفرجان على مشهد إباحي. وتتحدثان عن مدى إمكانية نسخه واحتياج البعض اليه، قبل أن تسألها أغاتا عن انفصالها: «هل ندمتِ؟» فتجيب بتردد: «لا... أحياناً... ربما».

طوال الفصلين الأول والثاني والثالث، لم يستخدم المخرج أي موسيقى كخلفية للأحداث، فقط في اللقطات التي كانت «مارزينا» تقوم فيها بتدريب النساء على «الأيروبكس» في حمام السباحة، أو تعليمهن الرقص على صوت الموسيقى. في جميع المشاهد كانت تظهر ممشوقة القد جميلة، مفعمة بالحيوية والألق والنشاط، وكأنها طائر حر طليق، وكأننا نراها ونغبطها بعيون المرأة الكهلة «ريناتا» المتشبثة بالحياة وزخرفها الى حد انها جعلت من شرفة منزلها حديقة للطيور الملونة التي تحلق هنا وهناك ومع ذلك ظلت الوحدة والحزن يسكنان قلبها وكأنها في سجن كبير. ونفهم أخيراً ان «مارزينا» كانت الملكة المتوجة ببطولة العدو عام 1985، لكنها مثل باقي البطلات كانت تحمل قلباً جريحاً هشاً كالزجاج المتكسر سرعان ما بدأ يتعرى بقوة صادمة مع زيارة مصور الفوتوغرافيا الذي تركها كالموتى، رغم قوة الشباب.

الحياة اللندنية في

04.03.2016

 
 

هل بات حال الأفلام العربية في المهرجانات العالمية أفضل؟

لندن: محمد رُضا

* في كتابها الصادر سنة 2014 والمعنون «الأفلام المصرية والمهرجانات الدولية الكبرى» تتناول الناقدة أمل الجمل العدد الكبير، نسبيًا، من الأفلام المصرية التي شاركت في المهرجانات الكبرى مثل «كان» و«برلين» و«فينسيا»، وتؤكد على أن تاريخ هذه الاشتراكات عانى، فيما مضى، من سوء المعرفة بشروط المهرجانات وما يمكن له أن ينجح أو لا ينجح.

المسألة المثارة حقيقية، لكن من الواضح أنها لم تعد ذات تأثير فعلي هذه الأيام. أفلام عربية كثيرة باتت تطرق أبواب المهرجانات العالمية الكبيرة بثقة وتطلب نصيبها. هذا العام، ونحن ما زلنا في بدايته، خطف الفيلم التونسي «نحبك هادي» جائزتين من مسابقة برلين الرسمية. وحظي الفيلم المصري «آخر أيام المدينة» بتقدير نقدي ممتاز من عرب وأجانب. وشارك الفيلم السعودي «بركة يقابل بركة» الوجود العربي في المهرجان نفسه بنجاح ملحوظ.

في العام الماضي نال الفيلم اللبناني القصير «موج 98» سعفة ذهبية من مسابقة الفيلم القصير. عند باب الترشيحات الرسمية للأوسكار والبافتا تقدّم بثقة الفيلم الأردني «ذيب».

الناقدة مصيبة تمامًا في استنتاجاتها الأخرى حول كل فيلم شارك في مسابقة دولية وما كان له أو عليه، كذلك حيال تاريخ المخرج الراحل يوسف شاهين مع مهرجان «كان» على الأخص، وفي تحليلها لأفلامه التي نجح بعضها في عروضه العالمية أكثر من بعضها الآخر.

لكن المسألة في واقعها عربية أيضًا، مع العلم أن التجربة المصرية، حتى على هذا الصعيد ومن بين أصعدة أخرى، أوسع وأشمل وتعود، كما اللبنانية، إلى الأربعينات ومطلع الخمسينات.

* تجارب الأمس

لقد أخفقت المراكز السينمائية المدارة من قِبل الحكومات العربية في عدة مهام أساسية (ونجحت في أخرى في الوقت ذاته) من بينها كيفية التواصل مع المهرجانات الدولية. هذا باستثناء «مركز السينما المغربي» الأكثر دراية من سواه بكيفية التواصل مع العالم الغربي عمومًا. على ذلك، حتى ذلك المركز النشط لم يستطع أن يترك بصمة مهمّة عالميًا في معظم مراحل تاريخ علاقة السينما العربية بالآخر.

وكانت «مؤسسة السينما العراقية» قامت بنشاط كبير في فترة قصيرة. ففي مطلع الثمانينات عمدت إلى صرف مبالغ لا طاقة لمؤسسة سينمائية عربية أخرى بها لإنتاج أفلام كبيرة تاريخية ووطنية بهدف ترويج هذه المضامين في الخارج. أفلام مثل «المسألة الكبرى» و«القادسية» حاولت تقليد ما قام به الراحل مصطفى العقاد (بتمويل ليبي) عندما أخرج «الرسالة» و«عمر المختار». لكن الغرب فهم أن المحاولة العراقية ليست فنية بل سياسية وآخر ما يرغبه هو الانضمام إلى منصات وتحالفات من هذا النوع.

النجاح الذي أصابته مؤسسة السينما الجزائرية بعد الاستقلال وحتى الثمانينات كان أفضل، فمن أفلام حول الثورة نالت تقديرات أوروبية واسعة، إلى الاستعانة بمخرجين أجانب (مثل جيلو بونتيكورفيو وكوستا غافراس وإيتوري سكولا) لتنفيذ أفلامهم بحرية إلى إطلاق مجموعة جديدة من المخرجين الجزائريين المهتمين بالنوعية، سعت إلى التواصل مع الغرب عبر كل تلك المحاولات المترادفة. هذا قبل أن تجف البئر في النصف الثاني من الثمانينات وحتى السنوات القليلة الأخيرة.

هنا لا ننسى أن فيلم محمد لخضر حامينا «ذكريات سنوات الجمر» (1975) كان ولا يزال الفيلم العربي الطويل الوحيد الذي نال سعفة «كان» الذهبية مقابل كل من نالها من أفلام أوروبية وأميركية وآسيوية.

وتختلف باقي التجارب العربية في ذلك التاريخ الطويل باختلاف قدراتها الذاتية على توفير السينما الممكن لها أن تثير الاهتمام، أو الإنتاج الصحيح بعناصره وتفاصيله الفنية المصاحبة. هذا إلى جانب ما تشير الزميلة إليه من أن المعرفة بكيفية الاشتراك (وبماهيته) عرقلا سعي السينما المصرية (ونضيف العربية) لتحقيق ما كان عليه أن يتحقق منذ سنوات بعيدة.

ما تغير هو مستوى تلك المعرفة. الإدراك بأن الأمور ليست بالتمني وأن هناك شروطًا في الصورة وفي الفيلم عمومًا من حيث الإخراج والكتابة والإنتاج تتحكم في كيف سيركب ذلك الفيلم القطار المتوجه إلى المهرجانات والمناسبات الدولية. جهود مخرجين من أمثال هاني أبو أسعد وإيليا سليمان ونادين لبكي ومرزاق علواش ومحمد خان وهيفاء المنصور ومارون بغدادي وميشيل خليفي ومي المصري فرشت الطريق للقادمين اليوم من الإمارات والسعودية ومصر ولبنان وفلسطين وباقي الدول. لكن الطريق ذاته طويل ويستدعي المزيد من التضافر وهيمنة العلم بالشيء.

الشرق الأوسط في

04.03.2016

 
 

شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي…

«45 عاماً» للإنكليزي أندرو هاي: ذكرياتُ «حب قديم» تُنبش بعد نصف قرن

سليم البيك - باريس- «القدس العربي»:

الكثير من الأفلام الجيّدة تأخذ حكايتها عن رواية. فالمخرج فيها يتمكّن إجمالاً من العمل البصري، السينماتوغرافي، غير المعني بالحكاية، لذلك، وليضمن حكاية تزيد من شغله البصري قيمة، يلجأ إلى عمل روائي ليخرج بسيناريو عنه.

لكن هنالك أفلاما تعتمد على الحوار، لا الحبكة، وهذه أفلامُ شخصيّاتها وليس حكايتها، يمكن مثلاً سرد الحكاية بسطريْن، لكنّها تخرج في حوارات بين الشخصيات الرئيسية، على طول الفيلم.

هنا، في «45 عاماً» للمخرج الإنكليزي أندرو هاي، لدينا شخصيّتان، تتحدّثان طويلاً، لا أحد غيرهما، الباقي قليل وظهورهما وظيفيّ ولا يتعدى دقائق. أحاديث بعضُها عادي ويومي وبعضها يتعلّق بموضوع الفيلم، مضمون الرسالة التي استلهمها جيف قبل أسبوع من احتفالهما بالعيد الخامس والأربعين لزواجهما، التي نبشت ذكريات عكّرت الهدوء والصفو في الأيّام السبعة التي يصوّرها الفيلم.

زوجان مسنّان، جيف (توم كورتناي) وكايت (شارلوت رامبلينغ) يعيشان بهدوء لوحدهما في بيتهما الرّيفي شرق إنكلترا، أكبر همومهما قد يكون عطلاً في الحمّام. تصل جيف رسالة من سويسرا تقول بأنّه تم إيجاد جسد حبيبته السابقة الألمانية، كاتيا مجمّداً ومحافظاً على هيئته منذ خمسين عاماً حين سقطت أثناء قيامهما بتسلّق جبال الألب. ويمضي جيف وكايت الأسبوع السابق لحفل زواجهما الذي تم حجز صالة له ودعوة الأصدقاء، يمضيانه مهجوسان بما أتت به الرسالة، هو بذكرياته وهي بانشغاله بها.

يتصاعد التوتّر يوماً بيوم بينهما، تستوعب هي بدايةً الرسالة كمرحلة انتهت منذ زمن طويل وتواسيه إلى أن يشتد تأثّر تصرفاته وأحاديثه بما قرأه، وبذكرياته، بلا مراعاة لزوجته التي أمضى معها 45 عاماً، يستعيد بعض عاداته القديمة كالتدخين وأمور أخرى ذكرتها له كايت في لحظة غضب، بأنّ حبيبته السابقة لطالما تحكّمت بحياتهما، بنوع الكلب الذي لديهم وبالكتب التي يقرؤونها والموسيقى التي يسمعونها، وجميعها ألمانية.

لكن جيف لا يبدي أي اهتمام تجاه مشاعر زوجته، يستمر في النبش في ذكرياته. في العليّة حيث أغراضه القديمة، يستيقظ في منتصف الليل ليصعد ويبحث عن صورة لحبيبته. ستصعد زوجته في وقت لاحق، وقد أحسّت به، وتجد صوراً ودفتر يوميات وغيرها، من بين الصور واحدة لكاتيا ببطن منتفخ.

ستعرف كايت أموراً كانت تجهلها، ستفقد أخيراً حالة التقبّل العقلاني للموضوع بفعل الغيرة والشك بصوابيّة كل حياتهما الزوجية كل هذه السنين. لكنّها لا تتوقّف عن التحضير لحفلة عيد زواجهما. ويتّخذ مسار الحديث منحى جديداً حين تسأله وتصرّ على أن يجيبها، بأنّه إن لم تمت حبيبته قبل نصف قرن هل كان سيتزوّجها. رفض الإجابة أولاً لكنّه قال أخيراً: نعم. هنا تشعر كايت بأنّ زواجها من الأساس كان خطأً، بأنّها كانت البديل الذي لجأ إليه جيف بعد موت حبيبته.

الأجواء الهادئة للفيلم والنبرات والأصوات الخفيضة للمسنَّين المسيطرة على طول الفيلم تذكّر بأفلام كـ «ساراباند» في 2003، آخر أفلام السويدي إنغمار بيرغمان، وبدرجة أقل «حب» (Amour) في 2012، للنمساوي مايكل هانيك. إلى جانب الروتين اليومي تحضر المزاجيّة والتصرّفات غير المبرّرة لدى جيف، كرغبته في السّفر إلى سويسرا لرؤية جسد حبيبته السابقة كما تركه آخر مرّة، في وقت بقيت هي تستوعبه إلى أن لم تعد قادرة على سماع اسمها وأجبرته على نسيان، أو تناسي، الموضوع.

قد نلمس خيطاً عبثياً (أبزورد) في الفيلم إن فهمنا الغيرة التي أتت كايت، بأنّها مقرونة لا بحياة زوجها السابقة فحسب، ولا باستعادته لذكريات تلك الحياة مع كاتيا، بل لفكرة أنّ جسد كاتيا المجمّد لخمسين عاماً، بقي على حاله، شاباً. فكرة أنّ زوجها يمكن أن يرى المرأة التي أحبّها وأراد الزواج منها ولم يمنعه من ذلك غير موتها، يراها على حالها تلك، التي أحبّها بها. من دون أن يعني كونها ميّتة أي شيء لكلا الزوجيْن. العبثيّة في هذا التفصيل ليست غير مبرّرة، يكفيها أنّ زوجها لم يعد كما كان قبل الرسالة، وأنّه لم يهتم بتصليح العطل في الحمّام.

الحكاية بشكلها العام مأخوذة عن قصّة قصيرة، حيث لا حبكة تُحاك، لكن مخرج الفيلم هاي أضاف إليها تفاصيل وكتب السيناريو، ليخرج بشكله الممتاز، كما هو في الفيلم. وله فيلم سابق مختلف إنّما جيّد كهذا، أخرجه وكتب السيناريو له كذلك، هو «ويك-إند» في 2011.

نافس الفيلم في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين العام الماضي ونال كل من رامبلينغ وكورتناي فضّيتَي أفضل ممثل وممثلة في برلين، ورُشّحت رامبلينغ إلى أوسكار أفضل ممثلة في دور رئيسي هذا الشهر. كما عُرض الفيلم في مهرجان تورونتو وغيره. وبدأت مؤخراً عروضه التجارية في فرنسا.

القدس العربي اللندنية في

08.03.2016

 
 

فيلم 'الطريق إلى إسطنبول' يضل طريقه نحو الهدف

العرب/ أمير العمري

أثار الفيلم البلجيكي- الفرنسي- الجزائري المشترك “الطريق إلى إسطنبول” للمخرج الجزائري رشيد بوشارب، الكثير من الترقب والاهتمام بين النقاد والجمهور، وذلك عند عرضه للمرة الأولى عالميا في الدورة الـ66 من مهرجان برلين السينمائي الذي انتهى مؤخرا.

اشترك في كتابة سيناريو فيلم “الطريق إلى إسطنبول” مع مخرجه الجزائري رشيد بوشارب، ثلاثة كتاب آخرون على رأسهم الكاتب والأديب الجزائري ذائع الصيت محمد مولسهول، الذي يكتب تحت اسم “ياسمينة خضرا”، ويرجع ما أحاط بالفيلم من اهتمام في صفوف النقاد وجمهور مهرجان برلين السينمائي الأخير إلى ما نشر من معلومات قبيل عرضه، لكونه أول فيلم يتناول موضوع انضمام الشباب الأوروبيين إلى صفوف ما يعرف بـ “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش)، والمقصود هنا الشباب غير المسلمين، أي من الأوروبيين الأصليين وليس المهاجرين من الدول الإسلامية أو أبنائهم.

يبدأ الفيلم بلقطة لفتاة بلجيكية في الثامنة عشرة من عمرها تدعى “إيلودي”، ترتدي الحجاب والملابس الإسلامية، تقف أمام الكاميرا وتمسك في يدها بطاقة كتبت عليها بعض الكلمات، تستبدلها بغيرها، الواحدة تلو الأخرى، وتقول الأسطر التي تظهر عليها للمشاهدين إنها اعتنقت الإسلام، وارتدت الزي الإسلامي وأنها أدركت أن كل ما كانت تفعله في حياتها في الماضي كان خطأ، والواضح أنها نشرت هذا الفيديو على صفحتها الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك.

يبدأ الفيلم إذن، من اللحظة الحاسمة في حياة هذه الفتاة، بدلا من أن يبدأ بما قبل التحول الحاسم في حياتها لنعرف دوافعها وما يمكن أن تقودها إليه هذه الخطوة، وكيف ستلتحق بداعش وما هي الأسباب، وتحت أي تأثير، وما هي آلية التجنيد، وكيف يمكن أن تقع فتاة بلجيكية أو غربية عموما، تحت تأثير جماعة شديدة التطرف تمارس العنف والقتل وسفك الدماء باسم الجهاد، وهي التي نشأت في مجتمع علماني مفتوح، لا يعتنق لغة الخطاب الديني في تسيير شؤون الحياة اليومية.

الصدمة التي تصاب بها الأم تجعلها غير قادرة على فهم ما حدث لابنتها التي لم يظهر عليها أي ميل لهذا التغير الحاد

التركيز على الأم

كل هذه التساؤلات تظل خارج موضوع الفيلم تماما، إذ نرى أن اهتمام صناع الفيلم لا يتركز على الفتاة “إيلودي”، التي لن نراها بعد ذلك طوال الفيلم، بل ينحصر الاهتمام حول أمها “إليزابيث”، وهي امرأة خمسينية مطلقة، لا تعرف بعدُ ما أقدمت عليه ابنتها، فكل ما تعرفه أنها خرجت من المنزل ذات مساء، بعد أن قالت لها إنها ستقضي الليلة مع صديقة لها، لكنها لم تعد.

تحاول الأم الاتصال بها على هاتفها المحمول مرات عدة، كما تترك لها رسالة بعد أخرى دون أن تتلقى أيّ ردّ منها، وبمرور الوقت تبدأ إليزابيث في البحث المجنون عن ابنتها، تسأل مدرب كرة السلة الذي يعرفها وأقرب أصدقائها إليها، لكن لا أحد يعرف أين اختفت، فتذهب إلى مركز الشرطة، وهناك يعدها الضابط المسؤول بالبحث الجادّ عن إيلودي.

يستدعي الضابط إليزابيث ليخبرها أن المعلومات التي تمكن من الحصول عليها، هي أن ابنتها سافرت مع صديقها المدعو عبدالله (الواضح أنه مسلم من أصول عربية وربما يكون هو من أثر عليها وأقنعها برفض الحياة الغربية)، وأن الاثنين توجها من هناك إلى تركيا وأنهما يعتزمان العبور إلى سوريا للانضمام إلى تنظيم داعش.

الصدمة التي تصاب بها الأم تجعلها غير قادرة على فهم ما حدث لابنتها التي لم يظهر عليها في السابق أي ميل لهذا التغير الحاد والمفاجئ، تلتحق الأم بمركز لرعاية الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن الذين انضموا إلى داعش، حيث تشاهد بعض شرائط الفيديو المصورة لتدريبات أعضاء التنظيم الإرهابي وطرق الدعاية التي يجتذبون بها الشباب الأوروبي، هذا كل ما نراه في الفيلم عن “داعش”.

ضابط الشرطة يخبر الأم أن حدود عمله تنتهي عند حدود الدولة، أي أنه لا يملك سلطة البحث والتحري خارج البلاد، فتقرر إليزابيث البحث عن ابنتها بنفسها. ويصبح الفيلم منذ تلك اللحظة تصويرا لرحلة المرأة المكلومة المكروبة في البحث عن ابنتها الغائبة، فتذهب أولا إلى منطقة هاتاي في تركيا، وهناك تلتقي بضابط تركي (الممثل الجزائري الأصل أبيل جفري) الذي يحاول التخلص منها وإعادتها من حيث جاءت.

ومن الغريب أن الممثل الذي يقوم بدور الأب ينتمي أصلا إلى الطوارق، يبدو غريبا في الدور من حيث ملامحه الخارجية التي لا تمت للأتراك بصلة، كما يتحدث الإنكليزية بلكنة خشنة، ثم نراه في المشاهد الأخرى التي يظهر فيها، يتحدث مع زملائه ومرؤوسيه باللغة العربية الفصحى باللهجة الجزائرية. فبوشارب لا يهتم بالدقة في هذا المجال، بل يجعل حتى سائق التاكسي الذي يفترض أنه سوري لجأ إلى الأراضي التركية، والذي يبتز المرأة البلجيكية ويحصل منها على مبلغ كبير مقابل نقلها عبر الحدود التركية إلى داخل سوريا، ممثلا جزائريا يتحدث بالعربية الفصحى بطريقة مسرحية رديئة، وينطق بعبارات شديدة السذاجة مثل (أنا سوري وهذه بلادي التي أفخر بها)، وأشياء مضحكة أخرى من هذا القبيل.

بوشارب لا يهمه الجمهور العربي الذي يمكن أن يكشف غياب المصداقية، وسطحية عبارات الحوار الخطابية، فهو يميل أساسا إلى الاستعانة بالممثلين الثانويين الذين سبق لهم العمل معه في أفلامه السابقة، ويتركز اهتمامه على إقناع الجمهور الغربي الذي يتوجه إليه بفيلمه، والذي لن يمكنه التفريق بين السوري والتركي والجزائري، فكلهم عند الغربيين يجسدون ذلك “الآخر” المختلف في اللون والسحنة واللغة.

حيرة بوشارب

وإذا كان يمكن التغاضي عن مثل هذه التفاصيل، إلاّ أن المشكلة التي تضرب الفيلم في مقتل، هي أن بوشارب يبدأ رحلة طويلة نسبيـا، مـع إليزابيـث إلى تركيا تمهيدا لدخول سوريـا، لكنـه لا يعـرف كيـف يطـور الموضوع، ولا كيف ينهيه، فالمرأة تنجح في التسلل إلى سوريا، إلاّ أن مسلحي داعش يمسكون بها ويعيدونها إلى داخل الأراضي التركية.

المشكلة في الفيلم تكمن في البناء الدرامي الذي يظل يدور حول نفسه دون تصعيد أو تطور أو حتى إثارة

بوشارب يجعل المتفرج يتأهب لمشاهدة أشياء جديدة تكشف له البعض من تفاصيل الموضوع الأساسي وهو التحاق الآلاف من الشباب الأوروبيين بتنظيم داعش، لكنه يتوقف حائرا، وفي اللحظة التي ينتظر المشاهد منه أن يطلعه على جانب من الحقيقة، على الأقل من وجهة نظر كتاب السيناريو، فإنه لا يفعل سوى تصوير مشاهد مثل قصف الطائرات التركية لمواقع داخل الأراضي السورية، ولجوء أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الفارين من جحيم الحرب إلى تركيا، حيث تحتمي بهم المرأة البلجيكية وتسير وسطهم حتى لا ينكشف أمرها وهي تحاول التسلل إلى مدينة الرقة للوصول إلى ابنتها، وكلها مشاهد يعرفها الجمهور جيدا من خلال ما تبثه يوميا أخبار التلفزيون.

لا شك أن هناك حرفية عالية يتميز بها تنفيذ الكثير من المشاهد، فبوشارب مخرج يجيد تحريك الممثلين وتنفيذ المشاهد الصعبة التي يشارك فيها عدد كبير من الكومبارس، وهو صاحب التجربة الكبيرة في فيلمه المرموق “أيام المجد” (أو البلديون) الذي تدور أحداثه في أجواء الحرب العالمية الثانية، ولكن المشكلة الأساسية في “الطريق إلى إسطنبول” تكمن في السيناريو، أي في البناء الدرامي الذي يظل يدور حول نفسه دون تصعيد أو تطور أو حتى إثارة تحافظ على الحبكة وتدفعها إلى الأمام.

سيظل الفيلم ينتقل من هاتاي إلى إسطنبول، حيث تشاهد إليزابيث في الفندق الذي تقيم فيه رجلا غريب الأطوار يقبض عليه الضابط ويجعله يعترف بأنه من ينقل الأفراد إلى داعش، وهو الذي ساعد إيلودي وصديقها على العبور إلى الرقة. ومن الطريف أن يعيد بوشارب الممثل الجزائري المميز فوزي السايشي الذي عرفناه في السينما الجزائرية خلال الثمانينات، إلى السينما عبر هذا الدور القصير الذي أداه بشكل أضفى عليه مزيجا من الخبث والتعصب وكراهية الآخر، وإن كان يعاب على هذا الجزء البعض من الخطابة المباشرة واستخدام العربية الفصحى أيضا في عبارات ساذجة على شاكلة: أنتم ما الذي جاء بكم إلى بلادنا؟ إننا السوريون نموت يوميا بالآلاف وأنتم لا تهتمون سوى بأبنائكم.

من المؤسف أخيرا أن يعجز الفيلم الأول الذي يتناول هذه القضية الهامة، التي لم يسبق تناولها في السينما الروائية، عن بلوغ مقصده، وهو تسليط الضوء على الظاهرة بشكل جاد يثير الاهتمام، ولكنه بدلا من ذلك يصبح فيلما عن رد الفعل على أم أوروبية مصدومة لما وقع لابنتها.

ولولا الأداء الجيد المتماسك والمؤثر من جانب الممثلة البلجيكية إستريد ويتنال في دور إليزابيث، لما ظل هناك شيء في “الطريق إلى إسطنبول”، فهي تعبر بانفعالاتها الدقيقة المحسوبة، دون مبالغة أو تشنج، وبدرجة عالية من الإحساس بالدور وبشكل مقنع.

العرب اللندنية في

11.03.2016

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2016)