'قناص' كلينت إيستوود
يطهّر الجرح الأميركي في العراق
العرب/ أمير العمري
المخرج كلينت إيستوود يعبّر في أحدث أفلامه 'قناص أميركي' عن موقفه كمدافع
عن الحريات، وإقرار النظام في المجتمع ولو باللجوء إلى القتل.
أخرج الممثل والمخرج الأميركي كلينت إيستوود 34 فيلما في 44 عاما، وأحدث
هذه الأفلام هو فيلم “قناص أميركي” الذي يتجاوز زمنه الساعتين. ولا بدّ من
الاعتراف بأن الفيلم الجديد من أفضل أفلام إيستوود من الناحية السينمائية
الفنية البحتة، أي من جهة إتقانه الصنعة: تنفيذ المشاهد، والابتكار في بناء
كل مشهد، واختيار زوايا التصوير.
يجعل كلينت إيستوود من بطله في الفيلم، الذي يتطوع للالتحاق بقوات مشاة
البحرية الأميركية (المارينز) كقناص مدرب يذهب إلى العراق، بطلا فوق
الأبطال، بل “نصف إله”، يحلق فوق زملائه الجنود جميعا، يتخذ لنفسه مواقع
عالية، فوق البنايات، في الفلوجة وغيرها.
يطل من علٍ على ساحات المدن التي تختفي في جوانبها قوى الشر، لكي يحول بين
“الأشرار” العراقيين الذين يقاومون الوجود الأميركي هناك، وبين إلقاء
القنابل واستهداف الدوريات المسلحة واصطياد الجنود وزرع العبوات الناسفة.
بهذا المعنى يصبح القناص الأميركي هنا المنقذ، الذي يسهر بعينيه اليقظتين،
من أجل حماية الآخرين.
شخصية حقيقية
شخصية بطل فيلم إيستوود الجديد شخصية حقيقية لأشهر قناص أميركي هو كريس
كايل (يقوم بالدور ببراعة ملفتة برادلي كوبر)، وهو الذي خاض أربع جولات في
العراق، مع قوات المارينز هناك، لما يقرب من ثلاث سنوات، حيث تمكن من قتل
160 شخصا، وقيل إنه تمكن من منع وقوع الكثير من عمليات التفجير الانتحارية
قبل وقوعها.
وكان يقطع وجوده في العراق للعودة لفترات إلى الوطن، لكي يستأنف علاقته
بزوجته “تاليا” (تقوم بالدور في أفضل أداء لها سيينا ميللر)، التي تجد مرة
بعد أخرى، كيف يشرد زوجها بذهنه، وكأنه يعيش في الحرب، عاجزا عن التأقلم مع
حياته وسط أسرته، بل إنه يكاد يفتك بكلب الأسرة ذات مرة عندما يتصوّر أن
الكلب يوشك أن يلتهم طفله الصغير، بينما كان الكلب يلهو معه.
إننا مرة أخرى، مدعوون هنا للتعاطف مع ذلك “القاتل المحترف”، لأنه يدافع عن
“الخيرين”، الأبرار الذين ذهبوا إلى العراق في مهمة مقدسة لتحرير العراق من
“الأشرار”، وكأننا نعود إلى موجة مشابهة لموجة الأفلام التي قُصد منها
تطهير الجرح الأميركي في حرب فيتنام، أعقبت ظهور سلسلة من الأفلام البارزة
في تاريخ السينما الأميركية، كانت توجه النقد إلى الدور الأميركي في
فيتنام، لعل أهمها على الإطلاق، فيلم “سفر الرؤية الآن” لفرنسس فورد كوبولا
(1978).
الفيلم يعيد المشاهد إلى موجة مشابهة لموجة الأفلام التي قصد منها تطهير
الجرح الأميركي في حرب فيتنام
كلينت إيستوود (84 عاما) يصنف ضمن صفوف اليمين المحافظ سياسيا بشكل عام،
فقد دعم الجمهوريين، ويدعم دائما فكرة إبعاد الدولة عن التدخل في الاقتصاد
أو في حياة الأفراد، وهو يصف نفسه بأنه من المدافعين الأشداء عن الليبرالية
وعن القيم الوطنية، ورغم أنه عارض حرب فيتنام والتدخل الأميركي في
أفغانستان والعراق، إلاّ أنه يميل إلى الإعلاء من شأن “البطولة” الفردية
الأميركية وتقديرها انطلاقا من دوافع وطنية.
وقد كان مفاجئا لعشاق سينما هذا المخرج المقتدر، أن يخرج إيستوود عام 2008
فيلمه الأفضل حتى الآن، “السيارة غران تورين”، والذي قام فيه بدور رجل
أميركي أبيض، عجوز، محافظ، شارك كمقاتل في الحرب الكورية، يعيش وحيدا بعد
وفاة زوجته، لا يخفي عنصريته تجاه جيرانه الصينيين، الذين وفدوا إلى تلك
البلدة الأميركية الهادئة، ولا يكف عن تعليقاته العنصرية.
وهو يرفض أيضا جيرانه وولديه وأحفاده، كما يرفض الكنيسة، وهو يؤمن بضرورة
تطبيق القانون، حتى لو أخذ القانون في يده، فنرى كيف يتحول من معاداة
جيرانه الصينيين إلى مدافع شرس حتى الموت عن ولده الشاب، الذي تسعى عصابة
من الصينيين الأشقياء لضمه إليها عن طريق التهديد والعنف، ثم يغتصبون
شقيقته.
هذا فيلم يعكس بوضوح موقف إيستوود كمدافع عن الحريات، وإقرار النظام في
المجتمع الأميركي ولو باللجوء إلى القتل. وهو يستطرد في “قناص أميركي” على
نفس النغمة، مصورا بطل فيلمه “كريس”: آلة القتل” المدرب، الذي ينطلق من
منطلقات “وطنية” متشددة، والذي لا يريد أن يستمع إلى توسلات زوجته بالعودة
إلى الأسرة، فهو يعلي الواجب الوطني على الأسرة، بل ويجد أيضا متعة خاصة في
ممارسة القنص.
كلينت إيستوود يسيطر تماما على الأداء، وعلى حركة الكاميرا، التي تمنحنا
إحساسا بالدوار أحيانا، وهو يجسد ببراعة وإقناع حيرة المارينز وغربتهم
في سياق كهذا، يصبح الفيلم أقرب إلى أفلام الويسترن، فالعراقيون هم الهنود
الحمر، وجنود المارينز هم “رعاة البقر” الأميركيون البيض، والأمر لا يعدو
الكثير من مشاهد الكر والفر والهجوم واقتحام المنازل وتفجير البيوت
والتنسيق بين الطيران والقوات الأرضية، مع سقوط الكثير من الضحايا من
الجانبين، مع التركيز بالطبع، على “إنسانية” القناص الذي يتردد طويلا في
إصابة طفل صغير يوشك على إلقاء قنبلة على مدرعة أميركية قريبة، ويرتعد وهو
يصوّب بندقيته في اتجاه امرأة قد تكون عزلاء.
صور نمطية
يصوّر الفيلم الجانب الإنساني في شخصية “كريس”، كيف يتمتع في حياته المدنية
بالبشاشة والرقة والدماثة وطيبة القلب، يرثي لمصرع أحد زملائه، يحضر جنازته
ويبكيه، كما يسرّي عن رفاقه الذين أصيبوا بإصابات بالغة في العراق؛ فقدوا
أذرعهم أو سيقانهم.
وعلى النقيض من كريس، نرى الشخصيات العراقية مخادعة، عنيفة، شرسة، فالعراقي
ربّ الأسرة، الذي يتظاهر بالبراءة ويدعو الجنود إلى وليمة في بيته، سرعان
ما يكتشف كريس بحاسته السادسة، أنه يخفي أسلحة ومتفجرات في منزله.
والمرأة العراقية الحسناء تتصل لكي تحذر المسلح السوري “مصطفى” (يقوم
بالدور الممثل والمخرج السوري سامي الشيخ) مساعد الزرقاوي، وهو قناص كان
ضمن قائمة المطلوب تصفيتهم من طرف الأميركيين.
نهاية كريس في الفيلم غامضة، فنحن نعرف فقط من خلال الكلمات التي تظهر على
الشاشة في النهاية، أنه قتل في موطنه بكاليفورنيا، على يدي أحد زملائه من
المحاربين السابقين، دون سبب واضح.
المونتاج هو أحد أبرع العناصر الفنية التي تمنح الفيلم رونقه وصورته
الجذابة، وهو العامل الذي جعل الفيلم على ما أصبح عليه في النهاية من حيوية
وإيقاع متدفق سريع
كلينت إيستوود يسيطر تماما على الأداء، وعلى حركة الكاميرا، التي تمنحنا
إحساسا بالدوار أحيانا، وهو يجسد ببراعة وإقناع حيرة المارينز وغربتهم،
والمتاهة التي يجدون أنفسهم فيها، كما يلجأ إلى استخدام الزوايا المرتفعة،
بحيث ترى “مدينة الصدر” مثلا، كتلة من المنازل المتشابهة الغائمة تمرّ
عليها الكاميرا من طائرة هليكوبتر.
فالمقصود أن نراها كمأوى غامض لقوى شريرة، ولا تصّور الكاميرا، أي مشهد
لأسرة عراقية عادية، أو لضحية مدنية لا ذنب لها من ضحايا العمليات
الأميركية المسلحة، والفيلم بالتالي يحتفي بالبطولة الأميركية، ويمجّد
الفرد المقاتل (من أجل الخير وحماية الوطن)، مقابل تنميط “الآخر” العراقي،
وتقديمه كمعادل للشر والعنف والإرهاب.
هذه الرؤية اليمينية تحديدا هي ما تفقد الفيلم الكثير من قيمته وتجعله أقرب
إلى فيلم مثل “القبعات الخضراء” (1967) السيّئ الصيت.
ويمكن القول إن المونتاج هو أحد أبرع العناصر الفنية التي تمنح الفيلم
رونقه وصورته الجذابة، وهو العامل الذي جعل الفيلم على ما أصبح عليه في
النهاية من حيوية وإيقاع متدفق سريع، وتنويع في الزوايا وإحجام اللقطات،و
إيقاع مشدود داخل المشهد، وانتقالات محسوبة بين القتال في العراق وبين
الوطن، أي بين كريس وزوجته، بل إننا نشاهد كيف ينتقل الفيلم بين المكانين
في نفس الوقت الذي تدور خلاله معركة دامية بين الأميركيين والمسلحين
العراقيين، انتقال بين زوجة كريس التي تستمع إلى الطلقات النارية والجلبة
الصادرة عن المروحيات، وبين كريس الذي يتحدث مع زوجته، لكنه يجد نفسه
مشدودا أكثر إلى المهمة التي يقوم بها؛ اصطياد المسلحين وقتلهم.
كان من المفترض أن يخرج “قناص أميركي” ستيفن سبيلبرغ، لكنه انسحب، وحل محله
إيستوود. والحقيقة أن الفيلم يتطابق أكثر مع الموقف الفكري لإيستوود، ويبدو
متسقا أيضا مع طموحاته الفنية وتاريخه السينمائي، فبطله “كاوبوي” معاصر،
يحتسي “البيرة” ويثرر مع رفاقه في المقصف أثناء العطل، ويمارس القتل
الاحترافي كعمل في بلاد “الهنود الحمر”. |