'نظرية كل شيء' صدام العبقرية بالتراجيديا الإنسانية
العرب/ أمير العمري
المخرج مورتن تيلدوم يقدّم صورة مرثية لحياة عالم الطبيعة ستيفن هوكينغ
ومعاناته مع المرض، وهي معاناة مستمرة حتى اليوم.
بعد أن قدم لنا مورتن تيلدوم في فيلم “لعبة المحاكاة” حياة ومعاناة عالم
الرياضيات الأنكليزي آلان تورينت، الذي تمكن من ابتكار جهاز لاختراق
الشيفرة الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية، يقدم فيلم “نظرية كل شيء”
صورة مرثية لحياة عالم الطبيعة ستيفن هوكينغ ومعاناته مع المرض، وهي معاناة
مستمرة حتى اليوم.
ستيفن هوكينغ هو العالم المشغول منذ أن التحق بجامعة كمبريدج عام 1963،
بموضوع أصل الكون، في علاقة الثقب الأسود بالزمن، وتفسير أصل الأشياء، وهل
هناك حدود للعالم؟ أم أن العالم متحرر أصلا من حدود الزمن؟ وهو ما يطرحه
بالفعل من خلال نظريته التي أدهشت العالم في كتابه “تاريخ الزمن”.
يصوّر الفيلم الذي كتب له السيناريو أنطوني مكارتن، عن الكتاب الذي تروي
فيه جين وايلد هوكينغ ذكرياتها بعنوان “الرحلة إلى اللامنتهى: حياتي مع
ستيفن”، الفترة الأولى من حياة هوكينغ في كمبردج، ونبوغه الذي لفت أنظار
العلماء من أساتذته في الجامعة. كما يتوقف بشكل خاص أمام علاقته العاطفية
التي تبدأ مع جين وايلد، وهي العلاقة التي ستستمر تلعب دورا كبيرا في حياته
حتى يومنا هذا.
لقاء ستيفن وجين، يبدو لقاء ساحرا، بين شاب وفتاة، يكتشفان من اللحظة
الأولى كيمياء خاصة بينهما، تجعل الارتباط أمرا لا مناص منه، حتى بعد أن
يسقط ستيفن ضحية لمرض يصيب الجهاز العصبي، ويؤثر بشكل مدمّر على حركة عضلات
الجسم، فيصبح تدريجيا عاجزا عن السير، تأتيه جين بمقعد متحرّك للمعاقين،
يصبح مكتوبا عليه أن يبقى فوقه طيلة حياته.
ورغم ما يقوله الأطباء لجين من أن ستيفن أمامه فقط عامان في الحياة، إلاّ
أنها تصرّ على الزواج منه، وتنجب منه ثلاثة أبناء، وتستمر في رعايته لسنوات
رغم انشغالها أيضا في إعداد رسالة الدكتوراه الخاصة بها في مجال يختلف
تماما عن مجال العلوم الطبيعية، فرسالتها عن الشعر الإسباني في القرون
الوسطى.
البطل الأول في الفيلم يكمن في ذلك التصوير السينمائي الأخاذ، بفضل براعة
مدير التصوير الفرنسي بينوا ديلوم
من الممكن القول إن البطل الأول في هذا الفيلم يكمن في ذلك التصوير
السينمائي الأخاذ بفضل براعة مدير التصوير الفرنسي بينوا ديلوم، فهو ينجح
في الانتقال من مرحلة الرومانسية الناعمة في الجزء الأول من الفيلم،
بألوانها الدافئة وإضاءتها الناعمة، إلى الطابع الداكن المليء بالظلال
تدريجيا مع تدهور الحالة الصحية لستيفن، وانعكاسها على حياته مع جين، التي
تصل إلى ذروتها بعد أن يزداد الاعتماد كثيرا على مساعدين من الخارج.
ما يحدث أن جين تجد تعويضا نفسيا لها عن الإرهاق العصبي والنفسي، الذي يبلغ
ذروته بعد ما يحققه هوكينغ من نجاح مع نشر نظريته عن الزمن، وانتقاله لعرض
نظريته في أميركا وما يحوطه من أضواء الإعلام، ثم الحصول على تكريم رسمي من
ملكة بريطانيا، وذلك في تلك العلاقة التي تقيمها جين بحذر، مع “جوناثان”
مدرب الكورال في الكنيسة الذي يصبح راعيا لستيفن، ويتحوّل تدريجيا بسبب
إهمال ستيفن لأولاده، إلى الأب البديل، ومن ثمّ إلى الزوج البديل أيضا.
لكن ستيفن نفسه، كما نرى في الفيلم، يميل أيضا بمشاعره إلى “إلين مايسون”
المرأة التي تأتي لرعايته وتدريبه على التأقلم مع العيش، بعد أن يفقد قدرته
على النطق نتيجة عملية فتح ثقب في القصبة الهوائية وتركيب أنبوب للتنفس من
خلاله، لإنقاذ حياته بعد أن أصيب بالتهاب رئوي حاد.
هناك لقطة مميزة كثيرا في الجزء الأول من الفيلم، عندما يلتقي ستيفن وجين،
يرقصان معا ويتبادلان القبلة الأولى، تحت أضواء متلألئة في الليل،
فالكاميرا تبتعد قليلا ثم ترتفع إلى أعلى تدريجيا إلى أن نرى البطلين من
زاوية مرتفعة يدوران في فضاء يحلق فوق المدينة بأسرها.
وهناك مشهد آخر يلخص بعد ذلك، الحالة الجسدية لستيفن هوكينغ، وعجزه عن
التعامل بطريقة طبيعية مع جسده، بل واحتياجه الحاسم للمساعدة. فهو يشعر
بأنه يعجز عن تناول الطعام بسبب ضعف عضلات يديه وأصابعه، بعد أن كاد يختنق
بسبب عجز عضلات البلعوم عن ابتلاع الطعام، فيهرول متعثرا نحو السلم الداخلي
للبيت، يريد أن يصعد إلى غرفة النوم، لكنه يتعثر على السلم، ويحاول أن يزحف
بصعوبة، وهنا يظهر طفله الصغير يزحف في أعلى السلم يتطلع إليه في دهشة
بعينيه البريئتين.
الطفل لا يمكنه أن يفعل شيئا لمساعدة والده، والأب يجد نفسه عاجزا أمام
طفله الذي يحبو. ويدير ستيفن وجهه إلى الجهة الأخرى، ليتطلع خلسة وكأنه
يستغيث استغاثة صامتة، نحو جين التي مازالت تجلس في غرفة الطعام، تشارك
الضيوف الأكل، غير مدركة في البداية لما يحدث بالضبط فوق السلم الداخلي،
إلى أن تنتبه إلى عجز ستيفن عن صعود السلم فتهرع لمساعدته.
العبء الأكبر في تجسيد هذه الدراما الإنسانية المثيرة، يقع تحديدا على عاتق
الممثلين، وخاصة اللذين قاما بالدورين الرئيسيين
ما يحدث أن ستيفن لا يموت بعد سنتين كما تصوّر الأطباء، بل يستمرّ في
الحياة حتى الآن مع كثير من التدهور الصحي، لكن التقدم العلمي يساعده على
اجتياز الكثير من المواقف العسيرة، فهو مثلا يستخدم جهازا إلكترونيا لكتابة
الكلمات التي يودّ التعبير عنها، هذه الكلمات تظهر على شاشة مثل شاشة
الكومبيوتر، مرتبطة بالكرسي المتحرك، ثم يضغط على أحد الأزرار لكي تتحول
الكلمات التي يكتبها بمعدل أربع كلمات في الدقيقة، إلى كلمات مسموعة بصوت
الجهاز.
وفي أحد المشاهد يعقد ستيفن مؤتمرا صحفيا يجيب خلاله على أسئلة الصحفيين
باستخدام هذه الطريقة.
ويستمرّ هو في الوقت نفسه، في العمل على نظريته الخاصة بتفسير كل شيء، أي
نظرية كل شيء، يختصر السيناريو الكثير من الأحداث والوقائع الحقيقية في
حياة ستيفن هوكينغ، ويتوقف طويلا أمام العلاقة بينه وبين جين، وكيف تتحوّل
من علاقة حب جارف إلى صداقة مستمرة في كل الظروف، وكيف أنهما يرتبطان بفهم
وتفاهم عميقين رغم اختلاف أفكارهما؛ بين ستيفن الملحد، وجـــين التي
تتمســك كثيرا بالقيم المسيحية.
من أجل كسر رتابة السرد، يلجأ المخرج ديفيد مارش حينا إلى استخدام ما يعرف
بالفوتومونتاج، أي المشهد الذي يلخص بعض التفاصيل والمواقف، ويربط بينها
ويشير إلى تعاقب الزمن، ويلجأ حينا آخر إلى بعض اللقطات الدخيلة المتخيلة
التي تتداعى من وعي ستيفن.
كما نرى، مثلا في حديقة قصر باكنجهام عندما يتخيل ستيفن أنه يلهو مع رجل
وابنه في الحديقة، مقعده المتحرك يدور معهما ويتحرك في حركات دائرية
(بالحركة السريعة)، أو عندما يتخيل وهو على المنصة في المؤتمر الصحفي، أنه
ينهض ويهبط درجات المنصة، لكي يلتقط قلما سقط من فتاة تجلس أمامه في الصف
الأول.
ولاشك أن العبء الأكبر في تجسيد هذه الدراما الإنسانية المثيرة، يقع تحديدا
على عاتق الممثلين، وخاصة اللذين قاما بالدورين الرئيسيين.
يؤدي الممثل إيدي ردمين دور ستيفن هوكينغ ببراعة ملفتة، تجعله أحد أبرز
الممثلين الذين قاموا بالأدوار الرئيسية في سينما 2014.
من أجل كسر رتابة السرد، يلجأ المخرج ديفيد مارش حينا إلى استخدام ما يعرف
بالفوتومونتاج، أي المشهد الذي يلخص بعض التفاصيل والمواقف
إنه لا يبالغ في انفعالاته، بل يميل إلى الهدوء ويؤدي باستخدام العضلات
المنقبضة لليدين، والالتواء الواضح في القدمين، والانحناءة الثابتة أثناء
السير في البداية ثم العرج، والرأس التي تميل على كتفه، كما يعبر بعينيه،
بالابتسام والتحديق والتأمل والتطلع الصامت، عن المشاعر التي لا يمكنه
التعبير عنها بالحديث.
ومن جهة أخرى تبرع فليستي جونز في دور جين، الحبيبة والصديقة التي تشعر أنك
تعرفها وأنك رأيتها من قبل، لكن ظهورها لأول مرة في الفيلم يجعلها مثل
الضوء الذي يبزغ ولا يفارق الشاشة أبدا.
إن أداء هذه الممثلة ينتقل ما بين الكثير من الرقة والثقة، القوة والاعتزاز
بالنفس، الضجر المكتوم والتمرد والرغبة والغيرة والإحساس في الوقت نفسه
بالمسؤولية. ولاشك أن مستوى الأداء هنا سينجح في أن يطرق بقوة باب
الأوسكار. |