شعار الموقع (Our Logo)

كتبوا في السينما

 

مختارات

جديد الأفلام الروائية القصيرة، والتسجيلية في السينما العربية

السينما المصرية الشابة ووعد التغيير

بعض الحقائق عن السينما العربية تكشفها الدورة الرابعة لمهرجان الفيلم العربيّ في روتردام 

إحتفاءٌ بالعلاقة بين مدير التصوير طارق التلمساني والمخرج خيري بشارة

مباشرة العمل في مشروع " صمت وذاكرة "

السينما الإيرانية

تجارب ما بعد الثورة

بقلم: عائشة المحمود

(الكويت)

 

خاص بـ "سينماتك"

 

 

 

 

 

 

 

 

السينما, وصناعة التاريخ:

لم يمض زمن طويل على إحتفال السينما الإيرانية بمئويتها، تلك الأعوام الطويلة المُنصرمة التي إستطاعت أن تضع “طهران” في مصاف العواصم السينمائية العالمية الهامة, وهو أمر ما كان له أن يتحقق بهذه الجدارة والتميز, لولا الإرادة الحديدية التي يتمتع بها أبناء الشعب الذي يتسّم بدرجة عالية جداً من الثقافة البصرية, وعلى الأخصّ السينمائية, ونستطيع أن نقسم المئة عام هذه إلى حقبتيّن منفصلتيّن: الأولى, تلك التي سبقت الثورة الإسلامية, وظهر من خلالها ما يُسمى بالأفلام الفارسية, بميزانيات منخفضة تشبه إلى حدّ كبير في صناعتها وتنفيذها الأفلام الهندية, إلاّ أن ذلك لم يمنع حصولها على إعتراف عالميّ مبدئيّ إستطاع إنتزاعه “زوهراب شاهيد ساليس” عن فيلمه “حياة ساكنة” الذي شارك فيه في مهرجان برلين السينمائي، أما الحقبة الثانية فعرفتها إيران بعد العام 1979, أيّ بعد قيام الثورة, ويمكن تقسيمها أيضاً إلى فترتيّن زمنيتيّن, أولهما, تلك التي شكلت عهد بداية الثورة, وفيها ظهر تيار جديد لم تكن تعرفه إيران من قبل في صناعة السينما, حيث  إنحسر الإنتاج, وتقلصت الموضوعات, وفُرضت رقابة مُشدّدة إتخذت نهجاً بوليسياً, وأُستخدمت السينما كوسيلة دعاية لخدمة الدفاع المًقدس, وفُرضت المحاذير على ظهور النساء في الأفلام.

ولكن, لم يمثل ذلك عائقاً أمام السينمائيين الحقيقيين من تحقيق مشروعاتهم, وقدموا إنتاجات سينمائية رائعة, ويمكن القول, بأنّ التقييد الشديد للإبداع السينمائيّ والفني الإيرانيّ في بدايات عهد الثورة, والذي شهد إنفراجاً جُزئياً في الفترة الأخيرة, منح هؤلاء المُبدعين دفعةً مُحفزة لمكامن الإبداع, فإستغلوا الفكرة, والإخراج, والمعالجة عوضاً عن الصورة, أو الجانب الدرامي في العمل الفنيّ، وبفضل  تلك الإنجازات العظيمة, حصل سينمائيّو إيران على الإعتراف العالمي الرائع في كافة المحافل السينمائية التي إستقبلت هذه الأعمال, ولم تتوقف عند هذه المرحلة فحسب, بل تعدتها, بتكريمها, والإحتفاء بها, فإرتفع عدد الحائزين على الجوائز بشكل لافت, فحصل “عباس كياروستامي” على السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي في العام 1997 عن فيلمه “طعم الكرز”, كما كُرم “جعفر بناهي” عن فيلمه “الدائرة “ في مهرجان فينسيا عام 2000, فضلاً عن ترشيح فيلم “أطفال الجنة“ لنيل جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبيّ، إلاّ أن الإعتراف العالميّ, والتكريم المميز, لم يعفي المنتجين والمخرجين الإيرانيين من واجب التقيّد بالقوانين الروتينية لإخراج أعمالهم إلى حيز الوجود, فلا يزال المخرجون ملزمين بإجتياز العديد من الإجراءات المُعقدة في وزارة الثقافة, قبل أن يتمكنوا من تحقيق مشاريعهم, وعن هذا يقول “مخملباف”: هناك خمس مراحل مختلفة من الرقابة في إيران.

هذه الرقابة, وتلك المُحرمات الكثيرة, لم تمنع خروج العديد من المحاولات المختلفة إلى دائرة الضوء بعيداً عن تيارات الرفض, فظهر فيلم “ليالي نهر زيانديه” للمخرج “محسن مخملباف” عن قصة حبّ بين جنديّ ثوريّ ملتزم, وممرضة, وعلى الرغم من منع الفيلم من العرض, إلاّ  أنّ تلك الخطوة لم تمنع ظهور محاولة سينمائية جديدة على يد المخرج “بهروز أفخامي” عام 1998 حمل إسم “شوكران”, والذي تحدث فيه عن علاقة يائسة بين رجل متزوج, وإمراة مطلقة, وهو أول الأفلام التي تتعرض لموضوع الجنس بصراحة.

والمُتابع للسينما الإيرانية, سوف يلمس فيها عدداً من الظواهر المُميزة, تلك التي شكلت علامات خاصة بهذه السينما الجميلة:

*الرمز في السينما الإيرانية:

للرمز بصمة واضحة في الأفلام الإيرانية, بل يكاد هذا النهج السينمائي رديفاً للسينما الإيرانية, (التفاحة، الباب، أطفال الجنة، السبورة السوداء) فالقاسم المُشترك هذه الأفلام, بأنها عبرت عن رسائل إنسانية عالية القيمة والمضمون عبر رموز ضئيلة ومُعبرة، ولعل أبرز المخرجين الذين أبدعوا على هذا الصعيد, هو “محسن مخمالباف” الذي قدم لنا أهم أفلام هذا التيار, منها فيلم “الباب” الذي قدم ضمن ثلاثية سينمائية بعنوان (الخاتم-السفينة-الباب), وتصدى مهمة إخراجها إلى جانب “مخملباف”, المخرج  “مجيد مجيدي”- الذي سنتعرض لأحد أعماله في موضع لاحق ـ ولكن, لنعود لفيلم “الباب” الذي قدمه “مخمالباف” في الدورة ال52 لمهرجان كان السينمائي, وفي هذا الجزء من الثلاثية تحدث عن مواطن بسيط لم يبق له من بيته سوى باباً متواضعاً يحمله فوق ظهره, ويرحل به من مكان لأخر, وقد إستعان المخرج برمز الباب للتعبير عن أزمة ضياع الوطن, فالمواطن الفقير الذي يحمل بابه خلف ظهره, ويرتحل به, ما هو إلاّ كناية عن حمل الوطن الجريح, وهمومه, وأثقاله على كاهل فئة معينة من أبنائه, تتحمل وحدها أزمته، ويشكل الرمز هنا عنصراً هاماً من عناصر البناء الدرامي لقصة الفيلم، ولم يقتصر الترميز على هذا الجزء من الثلاثية السينمائية, فقد كان حاضراً كذلك في الجزئين الآخرين من الفيلم.

و”مخمالباف“ ليس غريباً عن هذا النوع من الإخراج, فالرمز يشكل جزءاً رئيسياً من رؤيته الإخراجية منذ أوائل أفلامه, ولا يفوتنا الإشارة إلى أنه هو ذاته من أهدى العالم في سنة 1998 أصغر مخرجاته, إبنته “سميرة” التي حذت حذو والدها, وإتبعت نهج الرمزية في أول أفلامها “التفاحة”, وعادت بعد عامين لنفس المهرجان كان ال53 مع فيلم رمزي جديد “السبورة السوداء”, والذي أجمع النقاد, والجماهير على روعته, وتميزه، وفيه إستعانت بالسبورة التي يتعلم بها الأطفال, لتعبر عن أزمات الجهل, والخوف, والحرمان ضمن طرح مختلف عن كافة أطروحات السينما التقليدية, ووفق معالجة مُغايرة للمحاولات السابقة.

ولم يقتصر الأمر على “مخمالباف” وإبنته, إنما إنطلق ليشمل الكثير من المخرجين, كانت لهم مثل هذه الرؤية, الأمر الذي منح إيران هذه الصبغة الخاصة على صعيد إنفرادها بهذا الطيف السينمائي الصعب والخطيرعن سائر أشكال السينما العالمية الأخرى، ولكل ظاهرة عوامل, وأسباب دفعتها للظهور, فلابد أن يكون هناك أسباباً دفعت بإتجاه تأصل هذا النهج في التيار السينمائيّ الإيرانيّ, بحيث لم يعد الأمر مجرد محاولات سينمائية فردية، وإنما إتسع, ليشكل تياراً سينمائياً خاصاً برز عبر جيل بأكمله من السينمائيين, ولهذه الظاهرة أسباب وعوامل من أبرزها:

1.   أسلوب النقد المُبطن الذي إنتهجه كثير من رواد هذه السينما، ومن أهم أدواته الرمز المُتناهي الصغر, والعديم الأهمية.

2.   الوصول لمعان كثيرة, وبالغة التأثير, عبر رموز متناهية في الصغر, والضآلة, وهو أسلوب معترف به, وذا ثقل على صعيد المدارس السينمائية الكثيرة.

3.   محاولة الهروب من مقص الرقيب الذي فرض العديد من القيود, ووضع الكثير من الخطوط الحمراء ، مما دفع المخرجون للبحث عن منفذ جديد لعرض تلك الأفكار المنطلقة الجديدة.

4.   التملص من قيود المجتمع الإيراني المحافظ الذي لا يزال يضع الكثير من الضوابط على مظاهر الإبداع المختلفة, على الرغم من الإنفتاح الجزئي الذي تشهده الجمهورية في الفترة الحالية.

ولكن, أياً كانت الأسباب الدافعة وراء إتباع هذا النسق السينمائي, إلاّّ أنها في المحصلة, جاءت لخدمة الفن السينمائي بشكل عام, وثانياً لتمنح إيران وسام الجدارة على صعيد السينما العالمية, بإعتراف كبار النقاد, والسينمائيين في العالم, وهو الأمر الذي لا يختلف عليه إثنان، وإن كان الترميز هو جزء من المدرسة الإيرانية التقليدية في الإخراج, إلاّ انه يبقى رمزاً من الصعب التعامل معه, وتطويعه للوصول للمعنى المُراد إيصاله للمشاهد, أو المُتابع العادي، مالم يكن هذا المستخدم على دراية تامة, ومستوى معين من الإدارك الحسيّ والبصريّ يمكنه من إستغلاله بالشكل اللائق, وإلاّ فإنه سيعطي نتائج عكسية.

* الطفولة, والمرأة في السينما الإيرانية:

معلمٌ آخرٌ من معالم السينما الإيرانية التي باتت تميزها, وتعطيها طابعها الفريد, وهو اللجوء إلى موضوعات تتمحور حول مفاهيم الطفولة, كأفلام: مخملباف, ومجيدي, وكياروستامي, وسميرة,.. فكلّ هؤلاء المخرجين, بلا إستثناء, كان للأطفال ظهوراً واضحاً, ومؤثراً في أفلامهم, الأمر الذي أضفى على السينما الإيرانية سمة التعامل مع الطفولة بمنطلق شفاف, ومتميز يسلب اللب, ويتغلب على كافة الحواجز, فمن فيلم “التفاحة” لـ”سميرة” الذي يدور حول طفلتين يحبسهما والدهما في زنزانة, ويحرم عليهما الإتصال بالعالم الخارجي, وتكون التفاحة هي أداة الإتصال الأولى التي تعيد إكتشافهما للمحيط من جديد, حيث إرتكز الفيلم على فلسفة التعرّف على الواقع, وتلمس معطياته, وعناصره ضمن ثقافة المجتمع المحددة, ...إلى فيلم “مجيدي” الحالم, والمًؤثر “لون الجنة” الذي يدور حول الطفل الفاقد لنعمة البصر, ولكنه المُدرك لجماليات الحياة, المُستمتع بكافة منمنماتها, وتفاصيلها الدقيقة, وتتجلى المفارقة واضحة في عنوان الفيلم “لون الجنة”, هذا العنصر غير المدرك إلاّ  بالإبصار, إنه فيلم أقل ما يقال عنه بأنه أحد أجمل أفلام السينما العالمية, وأحد وسائل تعليم السينما لعشاقها, وأحب أن أتعرض كذلك لفيلم آخر لـ”مجيدي” حمل عنوان (أطفال الجنة) لما يحمله من إرهاصات, ورؤى بالغة الخطورة, والأهمية, حيث يروي لنا حكاية الطفلين “زهرة”, و”علي”, فقصة الفيلم تتلخص ببساطة بضياع زوج الحذاء الخاص بزهراء, ونظرا لمحدودية دخل والدها, ولخوفها من عقابه, فإنها تخفي أمر ضياعه, ولا تبوح به سوى لشقيقها الذي يساعدها على كتمان هذا الأمر عبر إقراضها زوج حذائه الخاص به, ففي ظل هذه اللعبة الخطيرة التي يقوم بها الطفلان هرباً من عقاب أخطر يترصد بهما, يرمز لنا المؤلف لفكرة ضياع الوطن, ومحاولات التحايل على هذا الضياع عبر عدد من القنوات.

فقصة الفيلم تعبيرًٌ عن أزمة أكبر, هي أزمة وطن ضائع في خضم متغيرات سياسية, وفكرية خطيرة, وفي ظل مفترقات طرق رئيسية، ولا يفوتنا التعرض في هذا السياق إلى فيلم “الدائرة“ لمخرجه “جعفر بناهي”, ويدور حول إشكالية وضع المرأة في ظلّ المجتمع الإيراني الذي يفرض عليها الكثير من القيود, والحواجز الخانقة.

            ولعل أبرز ماعبر عن هذا الموضوع هو رأيّ  أحد مخرجي إيران فضل عدم الكشف عن إسمه, حيث قال: "إنه بسبب القيود المفروضة على طريقة اللبس (الرداء), وبسبب المُحرمات المفروضة على العلاقات بين الرجال والنساء, فإنه من المستحيل التطرق إلى العديد من المواضيع الإنسانية, وبالتالي, فإنّ معظم الأفلام تعالج موضوع الأطفال الذين لا يخضعون لهذا النوع من القيود".

وهذه الحقيقية لا تُلغي بأن  للطفولة تأثيرات على صعيد أشكال السينما المُقدمة, الأمر الذي جعل من هذا التيار السينمائي الإيراني الجديد تياراً مهماً, وخطيراً يحمل العديد من التأثيرات, وللعولمة, والنظام العالمي الجديد أهميةً في  إزديادها, وتضخمها, وقد ساهمت التطورات السياسية الليبرالية المُنفتحة التي شهدتها ساحة الحكم الإيرانية دورها البارز في ترسيخ هذه  التيارات السينمائية الجديدة, ولاسيما في نهايات  القرن الماضي.

24 أغسطس 2004