جديد الموقع

 
 
 
 
 
 
 
 

لاحق

<<

31

<<<

10

09

08

07

06

>>

سابق

 
 
 
 
 
 
 

عطيات الأبنودي.. سينما امرأة من العالم الأول

رؤية نقدية لفيلمي: "حصان الطين" و"أغنية توحة الحزينة"

بقلم: سعاد أبو غازي

 
 
 
 
 
 
 
 

"أتعامل مع الناس باعتباري امرأة من العالم الأول لا من العالم الثالث، مصر فيها تراث أعرق الحضارات، على مستوى الثقافة والحضارة نحن دولة متحضرة، قد تكون فقيرة أو تعاني أزمة اقتصادية، لكنها حضاريا دولة من العالم الأول" هذه كلمات عطيات الأبنودي قالتها في حوار لها مع الناقدة صفاء الليثي، نُشر فى مجلة "الفن السابع" قبل 18 عاما من رحيلها، ويعتبر هذا التصريح تلخيصا لفلسفة عطيات الأبنودي التي شكلت الأساس الذي اختارت من خلاله موضوعات أفلامها، المنحازة للبسطاء ومعبرة عنهم سواء كمجموعات مثل فيلمي البداية "أغنية توحة الحزينة" و"حصان الطين"، أو التعامل مع شخصية واحدة كبطل للفيلم مثلما حدث في المرحلة التي بدأت بفيلم "الأحلام الممكنة" 1982. فلسفة أن رواية حكايات الفقراء لا ينتقص من مصر كدولة من العالم الأول-حضاريا، كانت ترى أن تصوير الفقراء لا يمكن أن يسيء إلى أي بلد مهما كان، لكن للمفارقة كانت "الإساءة إلى سمعة مصر" هي التهمة التي ظلت ملتصقة بأسمها طوال مشوارها!

عطيات عوض

عطيات الأبنودي المولودة في إحدى قرى محافظة الدقهلية عام 1939، واسمها الحقيقي "عطيات عوض محمود خليل"، حصلت على ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة عام 1963، ثم بكالوريوس المعهد العالي للسينما عام 1972، ثم درجة الزمالة من مدرسة الفيلم والتليفزيون الدولية في بريطانيا في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

قالت في حوار لها مع جريدة الجريدة الكويتية في يونيو 2008، قبل أن تبدأ العمل بالإخراج، عملت موظفة بالسكك الحديدية، ثم في مسرح العرائس، ثم التحقت بمسرح التليفزيون كممثلة، كما  إنها رغبت في العمل كراقصة "لكنني أخفقت في الاختبار الذي أعدته الفرقة القومية للفنون الشعبية"، هي عبرت عن تلك المرحلة من حياتها قائلة "أنا ابنة عائلة فقيرة، والدي هو عم عوض بياع القماش. لي سبعة إخوة أنا الوحيدة التي استطاعت أن تكمل تعليمها، وكان من غير الممكن أن أكمل تعليمي من دون أن أعمل، وبدأت بالفعل العمل في مصلحة السكة الحديدية أثناء دراستي بكلية الحقوق، وقبل نهاية دراستي انتقلت إلى العمل في المسرح لولعي الشديد بالفن بصفة عامة..".

هذا المزيج من دراسة مجالات متعددة والخبرة المكتسبة من العمل في قطاعات مختلفة، بالإضافة إلى رؤيتها المنحازة بالأساس إلى البسطاء الذين تنتمي إليهم، شكلوا ملامح عالم الفيلم التسجيلي لدى عطيات الأبنودي على مدار حياتها المهنية، منذ الفيلم الأول "حصان الطين" 1970، وحتى فيلمها الأخير "صنع في مصر" عام 2006. اللافت عندما سافرت للدراسة في إنجلترا صنعت فيلم اسمه "سوق الكانتو" عن الفقراء الإنجليز!

أعتقد أن هذه المقدمة الطويلة  ضرورية لفهم سينما عطيات الأبنودي، وخلفية يحتاج إليها المشاهد لأعمالها الأولى التأسيسية لهذا النهج، الذي اتبعته طوال حياتها، وأقصد فيلميها "حصان الطين" و "أغنية توحة الحزينة"، فالفيلمين يشتركان في "تيمة واحدة" هي "التناقض بين ظروف الحياة الخشنة القاسية وقدرة الإنسان على صنع الجمال رغم تلك الظروف" كما قال الناقد أحمد يوسف.

فيلم حصان الطين

تروي عطيات الأبنودي في هذا الفيلم قصة العاملين في صناعة الطوب اللبن في مصر، من خلال تصوير يوم عمل من الصباح الباكر وحتى غروب الشمس في مصنع طوب مسعود بقرية محلة أبو على مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، في نهاية الستينيات من القرن الماضي. ومن خلال 12 دقيقة فقط هي مدة الفيلم، نتابع رحلة إنتاج الطوب اللبن بداية من نقل المياه والطمي والتراب من خلال العمال والعاملات وحتى الصغار، بمشاركة الأحصنة التي تجري لمدة طويلة معصوبة العينين وفي شكل دائري لمزج خليط المياه والطمي والتراب، التماس بين البشر والأحصنة سيستمر حتى نهاية الفيلم، فالمعاناة واحدة هنا. بعد انتهاء الأحصنة من مزج الخليط، يحمله الرجال والنساء لكي يدخل المرحلة التالية القولبة ودخول الأفران.

هناك حالة ألفة بين العاملين والكاميرا، لا نجد من يتجنبها، بالعكس الجميع ينظر إليها ويبتسم، مهتما بأن يظهر وهو يعمل، هم يبتسمون بالفعل، لكن ليس معنى ذلك أنهم سعداء، ففي حين تنظر إليهم الكاميرا يبتسمون كرد فعل طبيعي، نسمع على شريط الصوت سيدة تقول "أبويا معلمنيش مع أني كنت غاوية التعليم (..) أنا مش عاجبني التعب".. هذه المهنة شاقة للغاية على الجميع-حتى على الأحصنة- لكنها السبيل الوحيد المتاح أمام من لا يتلقون تعليم وليس لديهم خبرة في عمل آخر، فالقروش الصغيرة التي يجنونها تكفي الطعام بالكاد، ومن أراد الادخار لشراء ملابس مثلا فعليه العمل أكثر وحمل المزيد من الطوب.

الأحصنة معصوبة العينين مازالت تجري في شكل دائري تحت ضرب السوط، وفتيات يحملن الطوب في صورته النهائية، ورجل يتحدث على شريط الصوت يقول "كل بنت تحمل من 20 لـ 25 طوبة في المرة الواحدة، أو 16 طوبة لو كانت بنت صغيرة.."

قرب نهاية الفيلم، وبعد أن تنتهي ساعات العمل الطويلة نرى النساء ينظفن أنفسهن، والحصان يُخلع عنه عصابته، ثم ينزل الجميع الأحصنة والعاملين رجال ونساء وأطفال إلى مياه النهر لكي يزيلوا آثار التراب والتعب أيضا، لكن النهاية حملت لقطة مدهشة ربما تعبر عن التمرد، لكن هذا التمرد لم يأتي من الإنسان، بل من الحصان الذي أصبح يعرج على ساق واحدة في نهاية يوم عمله الشاق، حاول الحصان الفرار والتخلص من قيوده، فصارع حارسه الذي حاول هو الآخر أن يسيطر عليه بكل قوته، لكن الحصان نجح في النهاية، تخلص من قيده وهرب بكل ما تبقى لديه من قوة. أنتهى الفيلم ونحن نتساءل عن هذه النهاية المدهشة، ماذا تعني بالنسبة للعشرات من العاملين والعاملات في صناعة الطوب اللبن في مصر-في ذلك الوقت، والذين يعملون تحت ظروف قاسية للغاية ومقابل أجر زهيد وبدون أي غطاء يحميهم من الدولة التي يعيشون مواطنين فيها، خاصة وإن هذا الفيلم أتى بعد سنوات قليلة من هزيمة 1967، وألقى الضوء على فئة مجهولة بالنسبة لصانع القرار، في وقت كان التركيز بالكامل على إعادة بناء القوات المسلحة، فأتت عطيات الأبنودي لتصور في 12 دقيقة معاناة قاسية يعيشها مصريون لا يعرفهم أحد. السينمائي المعروف هاشم النحاس يعبر عن هذا ظروف ظهور هذا الفيلم بشكل أفضل، في مقاله المنشور جريدة القاهرة أغسطس 2011 قائلا :"كان فيلم حصان الطين 1971 إخراج عطيات الأبنودي علامة فارقة في تاريخ السينما التسجيلية المصرية. المشاعر الغالبة على الأفلام السابقة عليه مشاعر الرضا والتأييد وكل شيء تمام. وجاء حصان الطين وما بعده لإعلان أنه ليس كل شيء تمام، ولكن لم تكن كل أفلام عطيات غاضبة على هذا النحو، وإنما عالجت من الموضوعات ما أثار مشاعر إنسانية آخرى وإن ظل التطلع إلى تحقيق الكرامة هو ما يجمع بينها".

فيلم "أغنية توحة الحزينة"

"أغنية توحة الحزينة" هو الفيلم الثاني في مسيرة عطيات الأبنودي، إنتاج 1971، وكان مشروع تخرجها من المعهد العالي للسينما، تتبعت خلاله الفنانين العاملين في سيرك متجول في الريف، ليس لدينا معلومات عن اسم السيرك أو المكان الذي كان يقدم فيه عروضه وقت التصوير-على عكس فيلم حصان الطين الذي تم توضيح فيه كل المعلومات في النهاية، وربما كان ذلك مقصودا فليس مهما أين يعرضون، فهم متجولون على كل حال، وكل يوم يقدمون فنهم في شارع مختلف في منطقة مختلفة.

تصاحب الكاميرا الفنانين حتى قبل أن يشرعوا في تقديم عروضهم، منذ الاستعدادات والتدريبات، وتزامن معها على شريط الصوت قصيدة للشاعر عبد الرحمن الأبنودي تقول:

الأرض كرة والكرة فيها ناس

قاعدة بتتفرج على ناس

حزين يا قلبي ولا سعيد

البيت قريب ولا بعيد

ولا الهنا يا زمان ليه ناس والهم ناس

وناس بتتفرج على ناس

والدنيا كرة

على عكس "حصان الطين" لم نستمع في هذا الفيلم إلى صوت أي من العاملين في السيرك، كنا نتابعهم من خلال الكاميرا، بالتحديد فتاة صغيرة تتمرن على الجمباز بطريقة بدائية، بدون أي إمكانيات تقريبا، تحاول أن تثني جسدها الصغير، التمرين مرهق، ومهمتها ليست سهلة. هنا فناني السيرك مبتسمين للكاميرا وأيضا أثناء أداء عروضهم، الابتسام هو جزء من مهنتهم، يرقصون ويعزفون ويؤدون عروضهن بابتسامة، عروض الأراجوز هدفها نشر البهجة لدى الكبار والصغار، لكن هم أنفسهم لا نستطيع أن نجزم أنهم سعداء، فهو مثل عمال فيلم "حصان الطين" يعملون بكد، لكن في العراء، أجسادهم هزيلة، وطعامهم بسيط، ودخلهم غير ثابت، فيمكن ألا يحصلوا على مقابل يكافىء جهدهم وعملهم الشاق، فهو يؤدون عملهم في الشارع، والجمهور في الشرفات، لا ضمان بأن يلقي الجمهور مالا لتحية الفنانين المجتهدين، يمكن جدا أن يرحلوا بدون أن يحصلوا على مال.

اختارت كاميرا عطيات الأبنودي أن تكون على مقربة بالقدر الذي يجعلنا جزء من الحدث أو الشخص الذي تتابعه الكاميرا، الرقص، العزف، الحركات البهلوانية، عروض الأراجوز، والتقاط تفاعل الجمهور معهم، الانتباه، الابتسامات، الضحكات، النساء في الشرفات يتابعن العروض. وعلى الرغم من إن عنوان هذا الفيلم هو "أغنية توحة الحزينة"، لا نستطيع الجزم، أن هذا الفيلم هو فيلم "توحة" وحدها، فـ "توحة" وسط المجموع، ربما تكون الأصغر بينهم، تؤدي عروضها، لا نعرف إذا كانت تملك خيارا أم لا، ولم نسمعها لندرك إذا كانت "أغنيتها حزينة"، لكن ربما أرادت عطيات الأبنودي أن تقول في فيلمها القصير بأن هؤلاء الذين يحاولون صنع البهجة ويرسمون على وجوههم ابتسامات كجزء من العمل، توحة وزملائها يعانون في داخلهم، فقراء، معدمون، يؤدون عروضهم في العراء بإمكانيات تكاد تكون معدومة، وآلات بالية، يمارسون ألعاب خطرة، ويعملون بكد لكن لا يتلقون الجزاء الذي يستحقونه، ويعملون مثل عمال "حصان الطين" بدون غطاء يحميهم، في ظل دولة -في ذلك الوقت- ربما لا تعرف إنهم موجودين ولا تهتم كذلك.

في "أغنية توحة الحزينة" لا يوجد إشارة لـ "الغضب" كما في فيلم "حصان الطين"، فالفنانون يرحلون من هذا الشارع إلى آخر، ليتكرر ما فعلوه أمام جمهور مختلف، على أمل الحصول على مكافأة أكبر، لم تقل عطيات الأبنودي ما يجعلنا نعتقد أن هؤلاء الفنانين في حاجة للتمرد والغضب على واقعهم، بل ربما يكونوا راضين بحالهم، ولديهم أمل أن يتحسن.

قالت عطيات الأبنودي عن هذا الفيلم ملحوظة لافتة للغاية عن طبيعة تعاملها مع أبطال أفلامها-المجموعات والشخوص- يجعلنا نفهم لماذا يبدوا الناس "مرتاحين" ومتفاعلين مع الكاميرا بدون خوف، أو تصنع، هم على طبيعتهم تماما، أحيانا ينسون وجود الكاميرا، وأحيانا يبتسمون لها عندما يجدوا أنفسهم في مواجهة العدسة، قالت الأبنودي في حوار لها مع الناقدة صفاء الليثي عام 2000، عن ظروف تصوير "أغنية توحة الحزينة":"في تجربتي الثانية (أغنية توحة الحزينة) كنت أصور حواه في الشارع، قرر مدير الإنتاج أن يحضر أثنين من العساكر لحمايتي في الشارع- رفضت بشدة أنا سأحمي شغلي، الناس يستفزهم وجود عسكري، رفضت أن احتمي من الناس بسلطة.. أريد أن أصور رد فعل الناس وفي إمكاني شرح طبيعة عملي والناس سيفهمون".

وأضافت في الحوار نفسه:"استفزهم ليكونوا بسطاء وأيضا أصارحهم بأن ما أصوره في ساعة قد يكون في الفيلم دقيقة أو دقيقتين. أبحث عن الجزء الحقيقي وأضعه في الفيلم. أنا مش التلفزيون محدش يقرع عليا. هناك لغة بيني وبين الناس. أحيانا أشخط فيهم أحيانا اسامح، الناس يفهمون طبيعة عمل الفيلم التسجيلي".

ملامح "سينما الناس اللي تحت"

هناك ملمحين في "سينما الناس اللي تحت" كما كانت هي تسمى فنها، ظهرا في فيلمي البداية "حصان الطين" و "أغنية توحة الحزينة"، الملمح الأول هو استخدام الموسيقى، فحتى لو لم يكن هناك بشر يتحدثون عن أنفسهم، مثلما حدث في "أغنية توحة"، فهناك الموسيقى الشعبية، أغاني الفلكلور، حاضرة وموظفة ليس بشكل عرضي أو لتعبئة شريط الصوت، ولكن لاستكمال وجهة النظر التي يقدمها الفيلم، ففي "حصان الطين" استهلت الفيلم بصوت لنساء يغنون ويصفقون بدون موسيقى، مع الوقت سنلمس إن هؤلاء المطحونين عمال مصنع الطوب يغنون في وقت الراحة، يحاولون الحصول على القليل من البهجة، أما في فيلم "أغنية توحة" موسيقى السيرك وأغانيه كانت هناك، حتى أغاني الأراجوز.

الملمح الثاني هو "قيمة العمل"، فقد ذكر تقرير عن عطيات الأبنودي بعنوان "عطيات الأبنودي عاشقة العمل وصديقة الفقراء"، نُشر في مجلة المصور أبريل 1999 أن "العمل هو القيمة التي لا تدانيها قيمة أخرى في عالم عطيات الأبنودي، الرجال والنساء، الأطفال والعجائز، أما إذا خلوا للحظة راحة فثمة طقس الطعام الجماعي وشرب الشاي. حياة شاقة قوامها العمل، لكن الوجوه تحمل لنا إنسانية عذبة وأملا في مستقبل قد يكون أفضل، لا تهبط المعجزة من السماء لكن ناتج الجهد والعمل والتطلع المشروع إلى الغد". وهو بالضبط ما يمكن أن نلمسه كمشاهدين لفيلمي عطيات، إنها مغرمة بالناس في حالة عمل شاق، تحب هؤلاء الناس، الذين يحاولون كسب رزقهم من عمل مرهق، وتسألهم لتعرف تطلعاتهم، طموحهم وأحلامهم، أو تعبر هي عنهم متمنية أن يتمردوا ويغضبوا لواقعهم المؤلم مثلما حدث مع الحصان الذي حمل الفيلم اسمه "حصان الطين" الغاضب الذي نجح في الفرار من ظروف عمل شاقة ومرهقة لا تضمن لهم حياة كريمة بالقدر الذي يستحقونه.

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004