جديد الموقع

 
 
 
 
 
 
 
 

لاحق

<<

31

<<<

05

04

03

02

01

>>

سابق

 
 
 
 
 
 
 

سابرة الأغوار

بقلم: نادية كامل

 
 
 
 
 
 
 
 

جاءت عطيات لزيارة أهلي عن طريق صديقهم المشترك مصطفى درويش الناقد السينمائي الفريد – طويلة لذيذة قوية – تشوبها بعض الرهبة من أهلي فهم أكبر منها، وأنا تشوبني بعض الرهبة منها فهي أكبر مني – وظلت العلاقة هكذا – أمي الصغيرة يقول لها أبي "نادية عايزة تشتغل مخرجة، اكشفي لنا عليها" ونضحك كلنا. أحكي لها أني دخلت كلية العلوم كهواية ورغبتي ونيتي منذ البداية ان أكون مخرجة سينما ولكن خطتي تعطلت لأن "التحويل" من علوم إلى سينما اتضح مستحيلا – عندما أتحدث عن رغبتي في الإخراج السينمائي أقوم أقف وأتحمس وانفعل – رغبتي تتدفق من داخلي. كنت قد قابلت مخرجا أحب أفلامه (لا أريد ذكر اسمه لأني مازلت أحبه) – وكنت كلي ثقة أنه سيخر صريعا عندما يتعرض لشدة حبي للسينما، وما إن انطلقت أشدو حتى نظر إلي بملل "عايزة تشتغلي إيه في السينما؟" "زي ماقلت لك: مخرجة" "وانت تعرفي إيه عن الإخراج؟" صُدمت من التعالي – "أعرف اللي باتفرج عليه. عايزة أعبر عن نفسي بالطريقة اللي بتعجبني في الأفلام. مش هو دا الإخراج؟" "بتقولوا إخراج لكن بتبقوا عايزين تمثلوا وتتشهروا" "أنا مستعدة أكنس البلاتوه" مضى بلا اهتمام – ربما استمع إلي أصلا إكراما لأبي الكاتب المثقف. تحول الشغف من مصدر قوة إلى نقطة ضعف وبدأت أشك في تأثير رغبتي الجارفة، قلت لعطيات بحذر "طول عمري مدمنة أفلام، دا انا كنت باروح نادي سينما الغد ليلة إمتحان البكالوريوس علشان ما يفوتنيش فيلم" – "وايه اللي مانعك؟" شرحت لها إن أهلي ليس في داخلهم قناعة ولا معهم نقود لإرسالي للخارج وأن العمل مع مخرجين يبدو مستحيلا فكل مخرج لديه شلة – "ما عرفتش أثبت لهم عمق رغبتي" هزت رأسها مفكرة ولم ترد وتابعت زيارة أهلي وكأن ليس لديها ما تقوله، ولكن قبل أن ترحل – من بير السلم - التفتت إليّ "لو عايزة تعالي زوريني نتكلم" "امتى؟ فين؟" "أنا ساكنة في السويس" – وأعطتني رقم تليفون أرضي – كل التليفونات كانت أرضي وكنا نتصل بالترنك. "كلميني خدي مني موعد". لم تقبل أن نحدد موعدا في التوّ.

ركبت الأوتوبيس إلى السويس وجاءت في استقبالي في المحطة بالسيارة البيجو 504.

"أيوه وبعدين؟" – "وبعدين ماحدش راضي يشغلني وكبرت على معهد السينما" – رشحتني للعمل في فيلم كندي كانوا يبحثون عن مساعد/باحث مصري لأن الفيلم يتم تصوير أغلبه في مصر. ثم عرضت عليّ مرافقتها – كمساعدة - في فيلمها التالي – هكذا – قالت: "من ديلوقت مافيش حجة، المعهد زفت انا مبسوطة انك ما دخلتيهوش. أنا ماعنديش "شلة"، ومش محتاجة يكون عندك خبرة، لو ماعرفتيش تساعديني حاشتغل عادي من غيرك."

أنا ممنونة لها الآن باستعادة زمام أمور حياتي في تلك اللحظة.

آمنت بي كشخص به شغف – كانت تستمع لي – في العشرينات من عمري لم يستمع إلي أحد على الإطلاق. عطيات كانت تستمع باهتمام وتحكي باهتمام لساعات متواصلة.

كلمتني عن عبد الرحمن الأبنودي وحكت لي الغدر الذي كان من المفترض أن يقضي عليها نفسيا ومهنيا. شرحت لي أنها تعيش في السويس مملكتها الجديدة والمكان الذي ستخرج منه أقوى وأروع. المكان يعبر عن كل ما تريده في هذه اللحظة فهي تملكه – لا تستأجره – وهو خارج القاهرة المتغطرسة وبه طاولة مونتاج مافيولا وحقول جميلة والقناة، تستطيع أسماء ابنتها أن تنشأ قريبة من الأرض والطبيعة والناس ونحن نقف في البراندا نحتسي الشاي ونراقب السفن وهي تخترق الصحراء.

كنت مصعوقة من قسوة الغدر – ولكن كنت مصعوقة أكثر من أن عطيات تحكي لي حكايتها كأنني إنسان. وبدأت اكتشف علاقة الاستماع بالحكي. الاستماع لا يكتمل إلا بالحكي.

شرحت لي احتفاظها باسم الأبنودي بالرغم من الطلاق والقطيعة البائنة "الأبنودي اسمي أنا اللي اخترته – قرية أبنود عملت فيها فيلم "السندوتش" – أنا حبيت الصعيد – اسمي الأبنودي مش لأني اتجوزت واحد واخدت اسمه – غار في داهية لكن علاقتي بالأرض وبالصعيد ماحدش يديهاني ولا ياخدها مني." بعد تأمل شعرت أن هذا القرار رائع – لأنه يجرد الزواج من العطايا – الزواج كما الطلاق يحدث بين راشدين – هو ليس تبعية أو صك، وكأنها باحتفاظها بالاسم تجرد عبد الرحمن من ملكيته لها ولأبنود وللصعيد في نفس اللحظة – جرأة ونفاذ بصيرة، حولت التبعية إلى استقلال.

كتبت كتاب "أيام لم تكن معه" وهو كتاب عن حياتها أثناء ارتباطها بالأبنودي – وهي حياة غنية - بدونه -  كما تقول – يعتقد الرجال أنهم مركز حياة زوجاتهم – وكأن لا وجود لهن إلا كأقمار تدور في فلكهم. كتاب رائع لأنه ملئ بالحياة التي تقصها النساء نادرا ولكن لا تقصها الا النساء. "أيام لم تكن معه" العصارة المرة التي خرجت منها – وثّـقت حياتها وحررتها من ميراث الطلاق. رد وجودي لا إنتقامي - من بعد هذا الكتاب صارت عطيات عملاقة – لا يمكن إيقافها. أخرجت أفلام وكتبت كتب وربت ابنتها وزوّجتها وعاشت حياة مسئولة ككل امرأة مسئولة.

عملت معها إذا في فيلم "اللي باع واللي اشترى" – وهو فيلم عن تحول طريق فايد والإسماعيلية المطل على القنال الى ممتلكات خاصة، الأرض الزراعية الى بنايات ومرافئ الصيد الى شواطئ خاصة – تكهين سكان المنطقة وتحويل المكان إلى منتجع سياحي – "كيف انتزع الرزق من أيدي الكادحين؟ كيف يخول لنفسه هذا الحاكم الأخرق الحق في هدر قناة السويس؟ بعد أن حفرها المصريون بأيديهم – كيف كيف كيف؟" كان فيلم "اللي باع واللي اشترى" توثيق لكيف يغتصب رأس المال حقوق الكادحين من البشر – كما حدث في في فلسطين – لا يمكن أن نقول أن سكان القناة باعوا أراضيهم؟ - تعلمت الكثير من الفيلم نفسه ولكني رأيت العملاق وهو يخرج من جسم عطيات ويهرس العقبات. المشهد: ميكروباص به عطيات تجلس في المقدمة بجانب السائق وفريق التصوير من المركز القومي للسينما. طلبت لي مرتبا بسيطة جدا (عشرة جنيهات في اليوم) وكانت معنا رندا شعث صديقتي، للتصوير الفوتوغرافي. الفكرة بالنسبة لي كانت تتلخص في التواجد في هذا الميكروباص، المتجه إلى معجزة تصوير فيلم. كنت أبتسم من الإثارة والعرفان وأنظر لعطيات من آن لآخر باحثة عن تواطؤ ما – ولكن عطيات كانت قد تحولت – هي ذاهبة لاقتناص فيلمها – ومستعدة لطوفان الهراء الذي سيحول بينها وبين مشاهدها ولقطاتها. أدركت أن الإثارة الطفولية وابتساماتي البلهاء جزء من هذا الهراء – فتوقفت عن الابتسام واستشعرت خطرا.

ضحك مدير الإنتاج صغير الحجم ذو النظارة السوداء العاكسة وتغامز مع مسجل الصوت (الحمد لله لا أتذكر الأسامي) وتأكد الخطر. التفتت عطيات وخرج منها نباح في صوت جديد لم أسمعه منها من قبل – أهانتهم تماما وأنهت الوصلة بـ"اخرسوا خالص" وتركتهم يحدقون في الفراغ الواقع بين الميكروباص والكون. نزلنا عند قاعدة تمثال دليسبس الفارغة من دليسبس – "ايه دا فين التمثال؟" خيل الي إنها ابتسمت – "دي قصة يمكن نحكيها في الفيلم" ثم حامت حول القاعدة وطلبت الكاميرا في مكان معين – خرج لها جزء آخر من الهراء – فرد أمن قال لها ممنوع التصوير – ألقت به في البحر وطلبت من مدير الإنتاج المعصوف به في الميكروباص أن يخرج تصاريح التصوير – استدار مدير الإنتاج وتوجه إلى الميكروباص – "لو معاكش التصريح ما تخرجش من العربية" وقد كان –

طالت قامتها وطق الشرر من عينيها – وصورت بدون تصاريح – وبدون صوت – لأن جهاز التسجيل لم يعمل – ثم أمسكت بمدير الإنتاج ومسجل الصوت من تلابيبهم كأفلام توم وجيري – وقالت كلاما عن رجولتهم وعن أشياء لا يمكن أن أتذكرها بشكل دقيق لعظمتها. أتذكر فقط إنني شعرت بوطأة الموقف بشكل لا يحتمل جعلني أطأطئ رأسي وأنظر للأرض – مدير الإنتاج جاء بدون تصاريح ومسجل الصوت لم يختبر الجهاز قبل تسلمه من المركز – ولكني كرهت هذا العنف النفسي.

رجعت معها إلى شاليه ما لقضاء الليل – لم تبتسم عطيات ولم تأكل كثيرا ولم تلتق نظراتنا ودخلت للنوم – نامت أكثر من 9 ساعات كالفلنكة. كنت أشعر بحرج شديد من صوتي وكأن ما أقوله فارغ في أصله – وبالفعل لم يكن هناك شئ يقال – لا أنا عندي قول يخص التصوير ولا هي عندها أسئلة وهي قبطان في سفينة في عاصفة في عرض البحر – وأنا كلب كانيش يتجول على سطح السفينة يبحث عمّن يداعبه. فهمت فيما بعد تلك الحالة - هي لم تكن تراني أصلا.

نزل مدير الإنتاج الى القاهرة لإحضار التصاريح وتبديل النجرا (جهاز تسجيل الصوت) وتبديل رجل الكاميرا المكسور. قالت لي فيما بعد عندما عادت من العصبية – إنها كانت تعرف أن الهراء كثير ولذلك اختارت أول يوم تصوير في مكان لا يحتاج أي شئ تقريبا – حتى تتكشف المصائب ويتم استدراكها ويتم تحجيم كل شخص إلى حجمه الحقيقي في الفريق. ولكنها لم تكن تمثل العصبية – كان الفولت عالي جدا... جدا.

صورت عطيات السفن وهي تبحر في رمال الصحراء. عطيات هي القائد بلا منازع والفريق يتمنى فقط ألا تصيبه اللعنات – توقف التغامز أثناء التصوير واعتدلت القامات وتنبهت الأذهان وقلّ الهراء النابع من داخل الفريق – وكانت من أجمل التحولات تلك من الفولت العالي مع الفريق إلى ابتسامتها الصادقة في حوار مع شخص لفت نظرها وصدقته فصورت معه حوارا ثم موات عيناها بلا رحمة أمام شخص مدعي. مالت علي أثناء التصوير وقالت "بيكذب" وصاحت "cut" وأنهت الحوار بشكل مبتور– "كلام مش وحش بس لما حاجي أركبه مش حينفع. المتفرج مش حيصدقها". كان الخام أيامها قليلا وثمينا.

دعتني لأقيم معها في السويس لمدة أسبوعين تقريبا – أساعدها (أو لا أساعدها) في المونتاج – كيف أساعدها في المونتاج؟ هذه ليست ورشة تعليم – عليها أن تنظم المادة المصورة والمسجلة وتقوم بالمونتاج نفسه وتواصل الإخراج في آن واحد – لم أكن مفيدة – وكانت أيضا تطبخ وتتولى أمور بيتها وترعى أسماء ابنتها – بيت عطيات في السويس في وسط الحقول وأسماء ترجع من المدرسة تأكل وتلعب مع أولاد الجيران من الفلاحين – بينما أحاول أن أساعد عطيات ببناء قوائم بالمشاهد وقوائم باللقطات والأصوات المصاحبة – كانت هناك شماعة تعلق عليها ما تبقى من اللقطة المستخدمة ورف ترص عليه علب المادة المصورة بعد تحميضها وطبعها – بلا خبرة كنت امتص من هذه الورشة دون مشاركة حقيقية – تشرح قليلا وتطلب مني الصمت والسكون التام أغلب الوقت، كانت متوترة تحاول أن تجد مجرى دراما الفيلم – نالني في تلك الطلعة الكثير من عطيات الوحش الكاسر لدرجة أنني في نهاية الفترة كنت أحاول تفاديها تماما – كانت هناك فسحاية لا يفصلها باب عن الغرفة التي تقوم فيها بالمونتاج، كنت أتمدد على المصطبة الصغيرة وأحاول القراءة بينما أصوات المونتاج تتراجع وتتقدم مرارا وتكرارا كالحلم أو الكابوس. لم نعد نتكلم – كانت تأكل وهي متجهمة وأنفها في الطبق مستغرقة في ذهنها – خفت منها وشعرت أنها استفردت بي في مكان نائي وانها ستأكلني حية. في النهاية نادت علي لأشاهد نسخة أولى من الفيلم – فوجئت بالطلب – ابتسمت وقالت "لازم تتفرجي وتقولي رأيك أومال انت فايدتك إيه؟". وأنا أشاهد شعرت بأحاسيس تجاه الفيلم لم أفلح في رصدها جيدا ولكني استطعت أن أعبر عن عدم إعجابي بتأثير التعليق الصوتي – كانت قد سجلته بصوتها بصياغة ونبرة إخبارية – فكرت هي قليلا في الملحوظة ثم قالت "التعليق الصوتي غير مطروح للنقاش شكلا وموضوعا – إيه تاني؟" تناقشنا في فقرة عبد الناصر صمتت مفكرة – "إيه تاني؟" لم أجد الكثير لأقوله كنت أشعر أنني جوفاء تماما – "عندك حق – الفقرة دي خروج عن الفيلم – دي فيلم تاني لوحده" واقتطعت جزء من فقرة عبد الناصر – فوجئت لأن بعد كل هذا القهر آمنت أني لن أتعلم وأنها لن تأخذ برأي في أي شئ وأني أريد أن أرجع بيتي في حضن أمي – ولكنها كانت جادة في الإستماع حتى إذا رفضت الفكرة. وبعدها جعلتني أستخدم طاولة المونتاج تحت إشرافها لوضع علامات بقلم الشمع على بوزيتيف الفيلم استعدادا للمكساج الصوت – وكتبت قائمة موازية على الورق لتسلسل الفيلم وما نريده من الصوت. ثم نزلنا إلى القاهرة معا وحضرت مكساج "اللي باع واللي اشترى" مع مجدي كامل في مدينة الفنون.

دخلنا منذ تلك التجربة في علاقة صعبة – علاقة الخوف والثقة في آن واحد – علاقة فك فزورة عطيات كشخصية (أفلامها وكتبها موضوع آخر لمقال آخر يحتاج مني الى مجهود من نوع آخر) فزورة عطيات الإنسانة الفنانة – تسبر الأغوار وتفترسها أيضا.

كنت أترقبها بقلق عندما أكون معها – فشهر العسل الذي استمعت فيه لي وعن آمالي وتكلمت معي بحنان وصدق عن آلامها كان قد مضى ولم يرجع إلا مع مرض النهاية، عندما رأيت في عينيها إنها ليست عصبية، عيناها تقولان أنا مسجونة داخل هذا الجسد – ولكني أحبك. الفترة التي أتكلم عنها الآن – أواخر الثمانينات وكل التسعينيات لم يكن فيها غلالة اعتذار – كان جبروت صافي مصفي – وكل من تعامل مع عطيات عن قرب سيضحك عند قراءة هذه السطور – فكلنا... أسماء، عزة، جاسر وآخرون – لا أريد التحدث على لسناهم ولكن عندي شبه يقين أن أحدا لم يفوته طعم الإعصار – كلهم أيضا يعرفون كيف تستمع وتتعلم بصدق– استماع ذو جودة نادرة.

كان هذا القلق من جبروتها يتسبب في تباعد متكرر فكنت أحب أن أراها ولكن كنت أؤجل الزيارة والتواصل حتى أكون مستعدة لأي مزاج. فكانت تتصل بعد فترة "لا خلاص كدا تعالي" وفعلا كنت أذهب وأقضي يوما كاملا وأرجع منهكة مشبعة – وقوية.

ثم جاءت اللحظة التي قررت فيها السفر إلى فلسطين الضفة الغربية – لزيارة أصدقائي الجدد – فرقة صابرين، كميليا جبران وسعيد مراد ويعقوب وعيسى فريج – قصة طويلة ولكن ما يهمني هنا هو أنني عندما اتخذت هذا القرار الجرئ كنت أعرف أن هناك من لن يسأل لماذا؟ أو كيف؟ وسيرفض ويتهم ويخوّن الخ وكنت عاقدة العزم غير آبهة، "لازم أقول لعطيات" كنت مهتمة أحكي لعطيات كيف اتخذت قرار السفر الى فلسطين عبر الحدود التي يتحكم فيها الإحتلال الإسرائيلي. لم أكن لأغير قراري ولكن كنت بحاجة لمعرفة رأيها وموقفها. قضينا وقتنا نتكلم في كل شئ كعاداتنا ثم سألتني "وانت بتعملي ايه؟" حكيت لها كيف قابلت هؤلاء الناس وكيف بدأت أعيد النظر في الحدود والمجهود والتواصل وحقي في القرار "سياسيين ماعنديش ثقة فيهم أصلا، إزاي أسمح لهم يتحكموا في علاقتي بأصحابي؟" – ولم يمكنني قراءة صمتها – الخوف يعمي البصيرة. حاولت أن أكون رائعة في تقطير المعنى – اختصرت وراهنت على مربط الفرس – ولكني بدأت افكر وأنا أتكلم – ماذا سأفعل ان كان رد فعلها من النوع العصبي؟ ذلك العنف الذي يمتص النفس من الهواء. ماذا سأفعل؟ نحن في مدينة نصر في الدور الـ 14 في شقتها الصغيرة – قررت وأنا أختم حديثي – لو أهانتني سأصمت وأخرج بدون استئذان بل ذكرت نفسي بمكان حقيبتي ومفاتيح السيارة – 

انتهيت وانتظرت

لم يطل الصمت: "صح"

....

"كلامك صح" "لازم تروحي"

اندهشت من بساطة فهمها لما كنت أعتقد انه سيكون حوارا طويلا ومضنيا – واعتقد أنها هي أيضا اندهشت مني في ذلك اليوم.

بعد أكثر حوالي 30 عاما - فلم يكن المعنى واضحا في التو – أعتقد أنه منذ تلك الدهشة المتبادلة بدأت علاقة خلاقة بيننا – من ناحيتي أصبحت أقل خوفا – بدلا من قصر الشر المستمر بدأت اتحسس طريقي معها بشكل استراتيجي. أتوقع أن تفهم وأحاول تفهم منابع عصبيتها وصارت هي تترقب محاولاتي في الحياة. تلخص هذا التطور في لقاءات متقطعة واستماعات طويلة –

ربما أجمل ما نشأ بيننا هو إيمان متبادل إننا لسنا كائنات ثابتة، فكان هناك فضول وترقب لمعرفة ما آلت إليه أنفسنا – عند كل لقاء.

حكيت لها عن تجربة صناعة الصوت لأفلام شاهين في باريس وكانت تشرب التفاصيل وتجرأت وقلت لها "لازم نقلة في الصوت عندك – الصوت ردئ والسبب مش بس المكن ديلوقت ممكن أحسن" – وعرفتها على جاسر خورشيد، ثم حكيت لها عن تجربة المونتاج الرقمي مع يسري نصر الله وعرفتها على تامر عزت تناوشنا مرارا على الأسلوب الفني. لا يمكن بالمقابل حصر ما تعلمته منها – فهي مشروع إنساني ثقافي طاغ بسبعة أرواح تواجه الأهوال - ولكن ربما أحب ذكر إني بدأت أتعلم منها الاستماع الإخراجي – تتعامل مع كلامي على أنه مشهد درامي – تتابعني وأنا أبني قصتي بالكلام والعيون والجسد في طريقي إلى الذروة –– اللحظة المقطرة. فبدلا من أن أشعر أن علي الاختصار واللهوجة والوصول للقفشة بالعكس شعرت أني يجب أن أقودها بكلامي وإيقاعه إلى مربط الفرس. كانت أحيانا تشير بيدها بما معناه "هذا تكرار" وأحيانا تهز رأسها بعدم الفهم حتى أحوال إعادة الصياغة - هذا الخيط بين الحكاء والمستمع إن فقد ماتت القصة – ولكن الأهم بالنسبة لي كأنسانة تتعلم الإخراج – تعلمت كيف أن الإستماع – في حد ذاته – ممكن أن يعمق الحديث ويحفز الدراما. وبدأت أفهم تعلقي بها.

هذا التناقض بين الجبروت الشديد والاستماع العميق كان كالفزورة - بدأت أميز أن جزءًا كبيرًا من طغيانها مرتبط بمساحة مسئوليتها – تدافع عن عملها أو بيتها أو أدائها ولكنها غرضها ليس السيطرة على الآخرين – بالعكس.

أدركت أن الإختلاف معها في الرأي لا يستتبعه عنف في النقاش – وأن التعامل معها يتطلب حساسية لفهم مسئوليتها. تستمع لأبطال أفلامها وتسترسل معهم وتدعوهم لاقتيادها في حياتهم ومنطقهم ونظرتهم للأمور وفجأة تلتفت وتستعيد الزمام – "لا خلاص – انت ابتديت تنصب عليّ". في يوم كنا نزورها في بيتها – أعتقد عيد ميلادها – وكانت أسماء ابنتها لازالت صغيرة نسبيا – ربما في أعدادي جالسة معنا وكانت قعدة أنس لطيفة – فجأة قامت عطيات وقالت "خلاص – كدا كفاية" ونزلنا كلنا – كان الوقت قد تأخر قليلا وكانت أسماء تحتاج للنوم حتى تتمكن من الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي. وعندما كانت تصنع فيلم قطار النوبة – مادت الأرض تحتي من غضبها لأني اختلفت معها بشكل عابر في حق النوبيين في الاستقلال الثقافي أو شئ من هذا القبيل – غضبت لأن علاقة النوبة بمصر وعلاقة الهوية النوبية بالوطنية المصرية كان قيد مسئوليتها في تلك اللحظة – وكلامي العابر كان يعبث بموضوع غير عابر بالنسبة لها، حاولت أن أخرج من المأزق بعبارات من نوعية "فعلا عندك حق" ولكن هيهات. بينما في نفس الفترة أرسلتني للتصوير وحدي وعدت خالية الوفاض وكنت أتوقع زلزال – لم توبخني – كنت في نص هدومي ولم أستطع ان أرفع عيني في عينها وتحاشيت قاعة المونتاج لأسابيع متوقعة أن يحدث لي ما حدث لمدير الإنتاج في فيلم "اللي باع واللي اشترى". بعد أن اكتمل الفيلم – استدعتني لمنزلها وقالت لي بمنتهى الهدوء والرقّة "ماصورتيش حاجة – كادراتك حلوة لكن أعمل بيها ايه؟ مافيش مضمون" "ياااه بس كدا؟ أناعارفة، انا آسفة جدا يا عطيت خيبت أملك" "ما تخافيش انا صورت اللي عايزة أصوره، الفيلم مش معتمد عليك – بس إيه اللي حصل؟" حكيت لها ما استخلصته من أسباب – وافقتني وقالت "لما حتيجي تصوري فيلمك الكلام دا مش حينفع".

كنت أسعى لاستماعها في كثير من اللحظات الفارقة، خروجي البائن من مكتب يوسف شاهين، فيلم سلطة بلدي، فيلم السراب الأخضر، الثورة، موقعة الصوت في مصر، علاقاتي المفصلية، وفاة أمي، كتاب المولودة – أحمل لها الخطوة وأفردها أمامها واقرأ رد فعلها – وكأنه طقس تدشين لاستقلاليتي واكتمال قراري – أنا جاهزة لعطيات – إذا أنا جاهزة. وهي أيضا كانت ترفع السماعة وتطلب جلسة – وكانت هذه مفارقة تضحكني لأني لم أعرف بالتحديد معنى طقس الاستماع هذا، كنا نمتلك حق الفيتو على بعض ولكننا لم نكن نمتلك حق استخدامه – علاقة عضوية ولكن فيها غرابة –

كنت أعرف هواجس دقيقة عنها – بعد أن تطرح أطروحتها تنظر بركن عينيها في أم عيني – نظرة تهديد – فيها تنبيه إلى خطورة موقفي "إياك والكلام الفارغ" فكنت أكوّن رأي وأقوله بشكل مكثف – وكأني في امتحان صراحة.

في بداية المرض – جلطة في المخ بعد الثورة مباشرة – نجت ولكنها خرجت منها ضعيفة الحركة في النصف الأيمن وضعيفة القدرة على الكلام. وبقى ذهنها حاضرًا وحادًا كعادته. تطورت كفاءتها على التعبير المكثف المختصر بشكل لا يمكن وصفه – نظرة صغيرة – صوت – حركة يد – إيماءة رأس – بل ربما مجرد تعديل وضع الجسم أو لكزة كتف – يمكن للمتلقي أن يدعي أنه لم يفهم أو لم يرى – ولكنه فهم ورأى – وهذا يكفيها.

تركت لها عدد خاص من مجلة اسمها "الفيلم" خُصّص للسينما التسجيلية. في الزيارة التالية فتحت المجلة وأشارت على حوار معي عن مدرسة السينما التسجيلية بأسيوط – وقالت "كويس" ثم ألقت بالمجلة جانبا – فهمت أنها قرأت الحوار وأعجبها – والباقي؟ أشارت بيدها "ماذا؟" عرضت لها مقال عنها – نظرت إلي وقالت "قديم" – أشرت إلى موضوع تحليل أفلام كان قد أعجبني، "أيوه" ثم أخذت مني المجلة وألقت بها جانبا بشكل مسرحي– انتهى الكلام عن المجلة –

"أنت؟" انطلقت أحكي لها أخبار المدرسة وأخباري وغمرتني كيمياء التحدث في كل المواضيع تفاديا لأسئلتها المحددة – ترفع حاجبيها إعجابا بعبارة هنا أو هناك من كلامي – ولا تخطئ – تتصيد أدق عبارة وتبتسم لها فأشعر لا إراديا إني أكملت التعبير – أتلقى عيناها – وأرى اللمعة وحاجباها - "إنت بتمنتجيني يا عطيات؟" تضحك من قلبها كالطفلة – ثم ترفع يدها – اسكت – تجتهد للنطق بالكلمة التي تفكر فيها "انت.. انت؟" كل ما قلت لا يكفيها – "كل دا أنا يا عطيات انا غرقانة في أسيوط" تنفخ - تكشر غير راضية – تعتصر الجزء المصاب من مخها لتترجم فكرتها إلى كلمة "الكتاب! فين؟" كنت اكتب كتاب وهي تتابع المشروع منذ 4 او 5 سنوات وقرأت مسودّة منه – "باوضب الصور مع هبة خليفة – باشتغل – والله باشتغل" تسكت وبعد مدة "إمتى؟" "معرض الكتاب الجاي أول ما يطلع حاقول لك – "طيب". "انت ازيك يا عطيات؟" تفتح ذراعيها وتنظر الى باب غرفتها المفتوح على المنزل الصامت، ثم الى السقف وتهز رأسها – "خلاص - مش عايزة".

كنت أسكت فهي بليغة بلاغة جارحة – تنظر الي وتهز رأسها – وتنتظر – تنظر إلي – تعرف أني فهمت إنها ملت الحياة بهذا الشكل وتراقبني لترى كيف سأهرب من هذا المأزق – فأنا عاجزة عن مساعدتها – هل سأقول كلام عبط مثل "شدة وتزول إن شاء الله تقومي وتتعافي وترجعي تتحركي وتتكلمي" أم إني سأسلك القمع "لازم تقومي وتمشي وتاخدي علاج طبيعي وتتمرني على الكلام" أم انني سأغير الموضوع واتكلم عن الطقس والسياسة والإجتماع وعلم النفس؟ كم كان صعبا أن أساعدها على تقبل الألم، ما كنت أجرؤ على البكش أو الغباء معها. لم تكن قسوة منها بل كانت تشفق علي – وكنت أختار سكة مختلفة كل مرة حتى لا نمل من الفيلم الذي نمنتجه سويا في مخيلتنا: عطيات ونادية في حجرة عطيات – عطيات مقعدة تعاني من صعوبة في الكلام والحركة ومن الملل والوحدة ونادية عاجزة عن التسرية عنها في زياراتها المتقطعة المتباعدة – تنظر لي وهي تبتسم مقدما على طريقة هروب الفأر من المأزق وتتقبل هروبي بحب شديد.

هذه عطيات النهاية – قوية كثيفة ومعبرة.

كنت أقول لها فلان مات فتبكي أو فلان آخر مات فتهز أكتافها – "كلنا حنموت".

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004