جديد الموقع

 
 
 

لاحق

1<<

10

09

08

07

06

05

04

03

02

01

>>

سابق

 
 
 

«الشرق الأوسط» تنشر مذكرات «فاتن حمامة» (7)

 

أحزان الخيانة.. والضحك مع يوسف شاهين

المكالمة التليفونية التي غيرت حياتي

القاهرة: السيد الحراني

 
 

 

مذكرات وسيرة فاتن حمامة

 
 
 
 

دائما وستظل فاتن حمامة هي الرحيق الدافئ الذي يريح صدورنا عندما نتنشقه، والصورة الهادئة التي نريح أبصارنا بمشاهدتها، والجملة المفيدة التي تظل راسخة في عقولنا ووجداننا نعيش بها ونستعيدها في أوقات المحن والأزمات، نقلت لنا عبر رحلتها السينمائية التاريخ والجغرافيا المصرية والعربية بكل ما كانت تحمله وتعايشه. تذكر، في مذكرات تنشرها {الشرق الأوسط} بالتعاون مع وكالة «الأهرام» للصحافة، زواجها من المخرج عز الدين ذو الفقار الذي أحبته كتلميذة تحب أستاذها، وجاءت ابنتها نادية لتملأ حياتها بمشاعر جديدة. ومع نجاحاتها في السينما قررت أن تنتج أول أفلامها «موعد مع السعادة»، لكن زوجها يصدمها بقراره ضم ابنتهما نادية لفريق الفيلم، لكن فاتن حمامة لم ترض عن هذا القرار وتركت بيت الزوجية برفقة ابنتها، لتغيب عن بيتها ويبدأ الندم في التسلل لأفكارها. تسرد أيضا سفرها لبيروت مع المخرج أحمد ضياء الدين وسؤال أحد الصحافيين هناك حول علاقة زوجها الغرامية مع إحدى الممثلات. وتستكمل السرد والذكريات..

كانت رحلتي إلى لبنان عصيبة لكل ما واجهته فيها من ألم نفسي كما ذكرت سابقا، لكني عدت إلى القاهرة، إلى الوطن الغالي، ولمحت وأنا في ردهات المطار المغطاة بالزجاج عز الدين وسط المستقبلين، وكانت معه شقيقتي ليلى، ونادية ابنتي العزيزة، وشقيقي الأصغر مظهر، وبعض الأقارب ومندوبي الجرائد والمجلات، ولوحت لهم من بعيد، ورد عز على تحيتي مرات عديدة.

ولم تطل وقفتي في المطار، فقد أسرع أحد الموظفين يرحب بي ويسهل لي مهمتي، وفي قاعة الاستقبال احتضنت نادية ورحت أقبلها بجنون وبحنان الأم (بلهفة الغياب الطويل) بعصبية من أضناها السفر بالطائرة، واحتواني عز بين ذراعيه وقبلني على جبيني وعيناه تشعان ببريق من استرد شيئا غاليا ضاع منه فترة، وطوال الطريق لم أتكلم تقريبا كنت أضم نادية الجالسة إلى جواري بشدة وأنظر إلى شوارع مصر الجديدة ثم القاهرة بشوق بالغ. ووصلنا إلى الزمالك ودخلت شقتي لأفاجأ بوجود والدتي، ونسيت نفسي وارتميت بين ذراعيها كأي طفلة صغيرة، وربتت أمي على شعري وقالت لي «انبسطت في رحلتك يا تونة؟»، وأجبتها بهدوء «جدا يا ماما». وسهرت الأسرة كلها معنا حتى الفجر تقريبا وأوينا إلى الفراش في ساعة متأخرة، واستيقظت نحو الساعة الحادية عشرة صباحا لأجد عز قد توجه إلى الاستوديو، ورن جرس الباب وفتحت ويا ليتني ما فتحت، فكان الطارق هو البواب النوبي الطيب الذي رحب بي قائلا: «الحمد لله على السلامة يا ست فاتن، مصر نورت».

فقلت له وأنا أبتسم: الله يسلمك متشكرة قوي.

ومد الرجل يده وناولني عدة أوراق مالية صغيرة، فسألته بدهشة: إيه ده يا عم إدريس؟

فقال الرجل ببساطة: «دول يا ستي باقي حساب بتاع الست اللي كانت نازلة عندكم».

وسألته بدهشة: نازلة عندنا فين؟

فقال ببساطة أهل النوبة الطيبين: «الست الضيفة ما كانش معاها فكة تركت لي جنيها وبعدين مشيت من غير ما تاخد الباقي».

وشعرت بالأرض تنهار تحت قدمي وجاهدت كثيرا في سبيل تمالك أعصابي، وقلت للرجل وأنا أغلق الباب: حاضر لما تيجي هابقى أديهم لها.

وقبل أن يختفي الرجل داخل المصعد سألته: هي الست دي شكلها إيه؟

فنظر إليّ بدهشة ثم قال: «سمينة شوية، وشعرها أصفر طويل». ووجدت الأوصاف تنطبق على «سامية كمال»، وعندما عاد عز الدين في المساء كنت قد اتخذت قرارا بيني وبين نفسي، فكنت قد اعتزمت أن أتكلم بما عرفته حتى أهتدي إلى الحقيقة كلها، وجلست إلى مائدة العشاء أمثل وأتظاهر بأنه لم يحدث ما يعكر صفوي على الإطلاق، وقلت لعز مداعبة أو متظاهرة بذلك على الأصح: يعني ما قلتليش جبتي لي إيه من لبنان؟

فنظر إليّ نظرة مليئة بالطيبة كادت تقلب خطتي رأسا على عقب، وقال: «مش مهم جبتي إيه، المهم انك رجعتي بالسلامة».

وسألته مدفوعة بتلك القوة التي تتحرك داخل المرأة والتي ترمي دائما إلى إرضاء غرورها: يعني وحشتك؟

فنظر إليّ ثانية نفس النظرة الطيبة وقال: جدا.. هوه أنا ليّ غيرك يا تونة؟

وشعرت بقطع الخبز الصغيرة في فمي تتحول إلى كتل من المرارة. لقد آلمني أن يكذب عز الدين عليّ، وأصابني في الصميم أن يحاول تضميد جراحي بضمادات الأكاذيب. لقد فهمت من حوار البواب الساذج أن هناك امرأة كانت تزوره في البيت «بيتي ومملكتي الصغيرة»، دنياي التي أملكها وحدي، فكيف تجسر امرأة أخرى على أن تدنسها؟ وتحولت حركة المضغ إلى عملية أوتوماتيكية، فلم أعد أشعر بما آكله، وقبل أن ينهض عز مد يده إلى تفاحة ناضجة من تفاح لبنان الذي حملته معي إلى القاهرة وقال لي وهو ينزل قشرتها بالسكين الحامية: «يظهر أن التفاح في لبنان معدي؟».

وسألته: ليه؟

فقال وهو يبتسم: «لأن لونه الجميل انتقل لخدودك».

ولم أحتمل عبارة المجاملة هذه فقد كانت ناعمة، لكن نعومتها كان فيها شيء من ملمس الثعابين، فقمت عن المائدة وأنا أصرخ: كفاية بقى.

وفي الصباح فتحت باب الحجرة لأجد عز قد غادر المنزل مبكرا، وبين الأغطية المبعثرة التي كان ينام تحتها وجدت رسالة صغيرة قال فيها: «فاتن.. لقد لاحظت في عينيك منذ اللحظة التي استقبلتك فيها على أرض المطار شيئا من الاتهام.. نظراتك كانت في أحيان كثيرة تنغرس في جلدي كأنها الإبر.. وقد حاولت أن أبدأ بالدفاع.. لكنني فوجئت بهجوم.. هجوم شديد.. نحن بشر.. والبشر عرضة دائما للأخطاء وللخطايا.. لكن القلوب الكبيرة لا تضن الغفران». لقد كانت الكلمات شاعرية وهادئة ومن النوع الذي يضيفه إلى حوار أفلامه فيكسبه حنوًا يرضي المتفرجين، لكن هذه الكلمات الشاعرية لم تكن كافية لتبديد غيوم الحزن المخيمة على حياتي، وفي الاستوديو حاولت أن أعرف من هي سامية كمال، وقيل لي يومها إنها راقصة مغمورة استغلت بعض الشبه بينها وبين الصديقة العزيزة سامية جمال لتحاول التشبه بها في أشياء أخرى كثيرة، حتى اسمها حاولت أن تسطو عليه بعد أن غيرت فيه حرفا واحدا، وكانت سامية كمال هذه تعمل مع شقيقة لها لا أذكر اسمها في بعض ملاهي شارع الهرم «ملاهي الدرجة الثانية أو الثالثة»، وفي أحد هذه الملاهي التقى بها عز وكان معه مساعده رزق، وقام رزق بمهمة التعارف بين الاثنين، وقال لأستاذه بمهارة القط المدرب على اصطياد الفريسة: «مش سامية تنفع في ديكور الكباريه بكرة؟».

ونظر إليها عز (وما أرويه مصدره رزق نفسه كما روى لأحد الأصدقاء)، وقال لها «والله فكرتني.. ابقي فوتي عليّ بكرة». وكانت عبارة عز مفتاحا إلى المجد، فكانت فرصة أكبر من أن تفلتها فتاة ناشئة بينها وبين الفن مسيرة آلاف الأميال، وقد أرادت المرأة أن تنتهز الفرصة فتمسكت بالموعد، وفي اليوم التالي كان عز في الاستوديو يستعد للعمل حين همس عامل البوفيه في أذنه: «فيه واحدة عاوزاك يا أستاذ»، وسأله عز: «ما قالتش على اسمها؟»، فقال العامل الصغير «سامية كمال»، وراح عز يردد الاسم دون أن يبدو عليه أنه يذكر صاحبته، وفجأة جاء رزق يبتسم في زهو يقول: «الجو بره يا أستاذ»، وفهم عز وسكت، وعملت سامية في الفيلم كومبارس لا يتعدى دورها الدقائق الخمس، ترقص خلالها رقصة خليعة وسط السكارى، وعندما انتهت من العمل سألت عز بدلال مفتعل: «عجبتك يا أستاذ؟».

فقال بلا حماس: «مش بطالة».

فقالت باندفاع: «فيه أدوار تانية أعجبك فيها قوي»، وأضافت بلهجة المبتذلات: «قوي قوي يا أستاذ».

وسافرت سامية بغتة مع بعثة العاملين في الفيلم إلى الإسكندرية على الرغم من أن دورها انتهى في القاهرة، لكنها كانت ترسم دورا آخر يؤديه المخرج نفسه في هذه المرة، وفوجئ عز بالتليفون يرن في حجرته بفندق «متروبول» ورفع السماعة ليسمع ضحكة خليعة عالية قالت له بعدها المتكلمة: «أنا صحيتك واللا إيه؟».

فقال عز بهدوء: «لا أبدا، مين اللي بيتكلم؟!».

ورنت ضحكة عالية أخرى ثم قالت المتحدثة: «أنا سامية كمال».

وأضاف عز بلا حماس: أهلا، أيه اللي جابك؟».

فردت: «أنا أصلا من هنا، والإسكندرية بلدي».

وقاطعها عز قائلا: «فيه خدمة أقدر أقدمها؟».

فضحكت ضحكتها العالية، وقالت: «طبعا، خدمة كبيرة قوي».

فسألها عن تفاصيل الموضوع فقالت له: «بعدين، بعدين هاقولك على كل حاجة».

ومر يوم واحد أمضاه عز في العمل المضني، فهو والحق يقال كان يعطي فنه كل اهتمامه، ويكاد يفني نفسه في سبيل إتقان ما يؤديه. وفي اليوم التالي عاد التليفون يرن ويرفع عز السماعة ليتفاجأ مرة جديدة بصوت الراقصة نصف المعروفة وهو يقول له: «إمتى هتفضي لنا شوية يا أستاذ؟».

فأجاب عز بطريقة عفوية: «والله أنا النهارده فاضي لأن فيه ممثل اتأخر في القاهرة وأجلنا الشغل».

فقالت سامية: «عال يبقي أشوفك النهارده».

فأضاف عز وهو يتسلم للحصار: «ما عنديش مانع».

والتقى عز بالمرأة التي عكرت صفو حياتي، ولم يكن لها وحدها وزن يذكر، أما وقد حاولت أن تقاسمني رجلي فقد جعلت منها الأقدار شيئا يذكر ولو في هذه السطور، وكان اللقاء في شاطئ ناء بعيد في الضاحية المعروفة باسم «أبو قير»، وفي مطعم «إلياس»، وهو مطعم اشتهر بطهي السمك الطازج وبتقديم البيرة المثلجة. وجلس عز ومعه سامية ورزق مساعده الأمين، وبدأت الراقصة نصف المعروفة تقول لعز الدين كيف أنها عملت طوال فترة الحرب في ملهى من الملاهي التي يقصدها الإنجليز، وكيف أنها جمعت من وراء هذا العمل ثروة لا بأس بها. ثم أنهت روايتها بطريقة لبقة سألته بعدها عن أنسب الطرق لاستثمار الثروة، فقال لها عز بهدوء: «افتحي لك دكان».

فذهلت سامية، فلم يكن هذا هو الرد الذي تنتظره أو ترمي إليه، وكانت أكثر صراحة عندما سألته: «طيب إيه رأيك لو نعمل فيلم؟».

ففوجئت بعز الدين يضحك عاليا، ضحكة كادت تلفت أنظار رواد المطعم الصغير جميعا، ثم قال لها: «فيلم؟.. فيلم إيه؟.. هي الحكاية كده سلق بيض؟».

وقالت له بغيظ: «ليه؟ يعني ما نفعش أمثل، ما هو فيه راقصات كتير مثلوا وأنتجوا من أول حكمت فهمي لحد رجاء يوسف؟».

فقال عز وعيناه تضيعان دليل الملل: «والله إذا كنت انت مستغنية عن فلوسك فأنا مش مستغني عن اسمي».

وصدمت سامية. انهارت الأحلام التي زينتها بخيالها شهورا طويلة، فقالت له: «خلاص أخلي حد تاني يعمله».

فرد عز على الفور: برافو عليكي.. أهو ده الحل المعقول».

ودفع عز الحساب ثم غادروا المكان معا في سيارته، وأوصل عز في طريقه منتجة الأحلام وليس الأفلام، ثم عاد إلى فندقه وهو يقول لرزق: «المجنونة فاكرة انها هتضحك عليّ بحكاية الفيلم».

وإذا كانت حيلة الفيلم قد فشلت فقد كان هناك فخ آخر قد أطبق على قدمي عز الطيب، حيث اتصلت به سامية مرة جديدة، وقالت له: «بكرة الأحد، وانت عندك أجازة.. إيه رأيك نتغدى سوا؟».

وقال لها محاولا إسدال الستار على علاقة ليس وراءها إلا المتاعب: «والله أنا بكرة عاوز أرتاح، ويمكن أنزل مصر».

فقالت له على الفور: «معلش نتغدى وبعدين انزل، أنا أختي جات من مصر وجايبة معاها بط يجنن».

فضحك عز وهو يستمع إلى وسيلة الإغراء البدائية ثم قال لها: «طيب يا ستي». ولبى عز الدعوة فذهب وحيدا إلى «الكابينة» الصغيرة التي وصفتها له في شارع متعرج من شوارع سيدي بشر، ووجد سامية وحيدة أيضا، فقد اعتذرت عن غياب شقيقتها بأن بعض أقاربها وصلوا في الصباح وطلبوا منها أن تزورهم لأمر عائلي مهم، ووجد عز نفسه وحيدا مع امرأة لها أهداف، وأكلا كثيرا وشربا كثيرا، وكان طبيعيا أن تقع الفريسة في الفخ الذي نصب تحت قدميها بمهارة يشوبها شيء من البدائية، ووجد عز في سامية (كما عرفت بعدها) لونا رخيصا من ألوان العلاقات العاطفية، وقد مال إلى هذا اللون وإن لم يحبه، وكان يقول لأصدقائه الذين يعاتبونه: «الواحد ما يقدرش ياكل بقلاوة على طول.. لازم برضه يأكل طرشي بلدي من وقت لآخر».

وكانت الراقصة نصف المعروفة هي قطعة المخلل التي هفت إليها نفس عز، وكانت قطعة المخلل هي السبب الذي من أجله قررت أن أنفصل عن عز، فكانت أمنية الطلاق قد اختمرت في ذهني، وكنت قد صممت بيني وبين نفسي أن أضع حدا لتلك العلاقة الزوجية التي أصبحت تنغص عليّ حياتي أكثر مما تسعدني، وكانت سامية كمال السبب المباشر لكن الأسباب الأخرى كانت عديدة. مرت الأيام وذات صباح اتصل بي يوسف شاهين، وكان قد عاد من أميركا بعد أن درس الإخراج هناك، وقدم للشاشة أول أفلامه فيلم «بابا أمين» الذي سبق زمنه بأعوام طويلة، وقال لي يوسف: «أنا عندي لك فيلم جديد».

فقلت له مداعبة: بس إوعى الفيلم يطلع مقلب زي «بابا أمين».

فغاب صوت المخرج الشاب ثواني ثم قال بأسى: «بذمتك كان فيلم وحش؟».

فقلت له (وكنت صادقة كل الصدق): أبدا يا يوسف الفيلم كان كويس جدا، وأنا شخصيا قمت بدوري وأنا سعيدة، لكن تعمل إيه للجمهور؟

فأجاب: «عندك حق، المرة دي الفيلم مختلف تماما».

فسألته: إزاي؟

وراح يوسف يروي لي ملخص القصة، فقال لي إنها قصة فتاة تعيش في الصعيد برفقة قريب لها، وفجأة يطمع القريب في مالها ويبدأ أكثر من محاولة للحصول على هذا المال وبمحاولات مشروعة وغير مشروعة، وفي النهاية قتلها ويكاد ينجح في خطته لولا شاب جريء يتدخل لإنقاذها، وينجح فعلا، وتحب البطلة منقذها وتتزوجه. ووجدت في القصة لونا من الإغراء الفني، فالواقع أنني كنت وما زلت أرتاح جدا للعمل مع يوسف شاهين على الرغم من الشائعات التي حامت حول ارتياحي لهذا، فقد قيل إن يوسف أحبني في فترة من الفترات وأنني بادلته هذا الحب، وأنا أقول إن نظراتي إلى يوسف لم تتعد في يوم من الأيام نظرتي إلى فنان مجتهد أعجب بأسلوبه في معالجة الأفلام وبشخصيته في الحياة، هذا هو كل ما في الأمر، أما ما قيل في فترة من الفترات عن حبه لي وعن محاولته الانتحار ذات مرة من أجلي فهو أمر لا أساس له من الصحة، أو لنقل إنه لا علم لي به.

وبالفعل أرسل لي «جو» ملخص القصة لأقرأه، واتصلت به تليفونيا أبدي بعض الملاحظات، فكان من الطبيعي أن أسأله: مين أبطال الفيلم؟

فقال لي: «محمود المليجي وفريد شوقي».

وعدت اسأله: «طيب والبطل؟».

فتردد قليلا ثم قال: «لا دي مفاجأة».

فقلت ليوسف شاهين بشيء من العصبية والفضول: أنا لا أحب المفاجآت في العمل.

فرد عليّ قائلا: «إنه صديق لي، جمعتنا معا الدراسة في فيكتوريا في الإسكندرية، وقد افترقنا لسنوات طوال ثم التقينا فجأة منذ أسابيع، فعرضت عليه فكرة التمثيل فلم يعترض».

وقاطعته قائلا: أنا لا يهمني أن أستمع إلى تاريخ حياته، أنا أريد أن أعرف من هو.

فقال يوسف بهدوء يشبه البرود: «سوف ترينه طبعا لكنني أحب أن أعطيك عنه فكرة قبل أن تقابليه. هو شاب مهذب، ورياضي، ووسيم، كان نجما لامعا في فرقة الكلية المسرحية».

وكاد صبري ينفد فقلت له: اسمع أنا أريد أن أعرف اسمه على الأقل.

ونطق يوسف بالاسم أخيرا فقال: «اسمه ميشال شلهوب».

وضحكت عاليا، بل استبدت بي نوبة من الضحك، فسمعت صوت المخرج الناجح يصرخ قائلا: «بتضحكي ليه؟».

فقلت له وأنا أغالب الضحك بصعوبة: «هوّه ده اسم ده؟».

فثار يوسف ثورته المحببة التي تجعل الكلمات صعبة النطق على شفتيه، ثم قال: «ما أنا غيرته وسميته عمر الشريف».

وانتهت المحادثة التليفونية وراح الاسم الموسيقي نوعا ما يطن في أذني كأنه أغنية سمعتها للمرة الأولى وأحببتها كثيرا. ودفعني الفضول إلى محاولات للكشف عن حقيقة بطل فيلمي (الذي قدر له بعد ذلك أن يصبح رجلاً مهمًا في حياتي)، فانتهزت فرصة الاستعداد للتصوير فقلت للصديق العزيز الحاج وحيد فريد: حاج، أنا عاوزة آخد رأيك في الماكياج. فنظر إلى مدير التصوير نظرة لها مغزى، فقد أحس بأنني أريد أن أفاتحه في أمر مشكلة من مشكلاتي العديدة مع عز الدين، فقال لي: «حاضر يا ستي، هاضبط النور وآجي حالا».

* دهش عز الدين لتصرفي لكنه شعر بذكائه أن هناك شيئا في الأفق فسكت.. أما أنا فقد دخلت حجرتي وأغلقت بابها بالمفتاح. ونام عز ليلته على أريكة في الصالون، ونبتت فكرة الطلاق المقيتة في تربة أفكاري المشوشة. رأيت أن حياتي إلى جوار عز لن تكون سعيدة، وكان عز فنانا كبيرا لكنه كان كما قلت من قبل كثير النزوات، ولم أكن في حالة تسمح لي باحتمال ما هو أكثر من تردد امرأة غريبة على بيتي. وأمضيت الليلة كلها مؤرقة.

* لم أكن أدري يومها أن مكالمة تليفونية عادية من مئات المكالمات التي تخللت حياتي الفنية يمكن أن تغير طريقي بل قدري، وحاولت أن أرسم الأوصاف التي ساقها لي يوسف معالم عن البطل الجديد المرشح للقيام بدور البطولة أمامي. قال إنه رياضي فرحت تارة أتخيله طويلا عريضا مثل «جوني ويسمولر» بطل أفلام «طرزان» في ذلك الوقت، ثم تتلاشى الصورة تطردها أفكاري لأرى عوضا عنها صورة إنسان أقل طولا لكنه أضخم من جهة العضلات. وظللت في هذه اللعبة الذهنية التي يغذيها الخيال والفراغ معا حتى توجهت إلى الاستوديو لأكمل العمل في فيلم كنت أصوره.

 

الشرق الأوسط اللندنية في

01.06.2015

 
 

مذكرات وسيرة فاتن حمامة ـ السيد الحراني

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004