جديد الموقع

 
 
 

لاحق

1<<

10

09

08

07

06

05

04

03

02

01

>>

سابق

 
 
 

«الشرق الأوسط» تنشر مذكرات «فاتن حمامة» (5)

 

«الجاسوس الخاص» والهزيمة التي لم أنسها

عن زيجتها الأولى: تزوجت الأستاذ مدفوعة بنزوعه إلى الكمال وليس إلى الحب

القاهرة: السيد الحراني

 
 

 

مذكرات وسيرة فاتن حمامة

 
 
 
 

لم تكن حياة الفنانة الكبيرة فاتن حمامة في زيجتها الأولى خالية من المشكلات، فهي ككل بنات حواء من الممكن أن تغضب وتصرخ لاختلافها في الرأي مع زوجها، ومن الممكن أيضا أن تترك البيت حاملة حقائبها إلى بيت أسرتها، وهذا ما حدث بالضبط في واحد من مواقفها مع عز الدين ذو الفقار، وهنا ما زالت فاتن حمامة تروي.

لقد مرت بي الأيام وبدأت أكتشف حقيقة غابت عني طويلا، وهي أنني أعيش للفن وحده، أما حياتي الخاصة وعواطفي فقد انزوت في ركن صغير من الوجود حتى كادت تتوه عن عيني، وذات ليلة وكنت وحدي في المنزل أنتظر عودة زوجي عز الدين الذي طال غيابه في الاستوديو تساءلت في نفسي: «هل أنا سعيدة؟»، وكان غريبا أن أواجه مثل هذا السؤال وأقول الآن حقيقة كان الأغرب أن أحاول البحث عن الإجابة عنه بعد أن تزوجت وأصبحت أما لطفلة رقيقة، وأيضا بعد أن اشتهرت وغدوت نجمة، ولكن الحقائق كثيرا ما تحتجب عن أعيننا فترة، ولكنها لا يمكن أن تحتجب دائما، وفي مقدمة هذه الحقائق أنني لم أكن راضية عنه، وبالتالي لم أكن سعيدة، وحاولت كثيرا أن أهتدي إلى السر في تعاستي.. «نعم تعاستي»، وعلماء النفس يؤكدون أن الوصول إلى أصل العلة فيه الشفاء من نصف الداء، ولذلك حاولت للمرة الأولى أن أحدد علاقتي بعز الدين ذو الفقار، وهذا سبب لي التوتر، ورغم أنني قلما أدخن، ولكني وجدت نفسي مدفوعة إلى إشعال سيجارة «وجلست على السرير العريض بملابس النوم» أجذب أنفاسا عميقة من اللفافة البيضاء ثم أتلهى بالنظر إلى دوائر الدخان وهي تتصاعد وتتشابك ثم تتلاشى في الهواء، فهكذا كانت حياتي حينذاك أوقاتًا واهية من السعادة تلامس سعادة الآخرين ثم تضيع كما يضيع الدخان في الهواء.

اكتشفت أن علاقتي بعز الدين كانت علاقة تلميذة مبهورة بحب الفن، وكان لقائي به للمرة الأولى في الاستوديو وهو يخرج فيلما استعراضيا تاريخيا لم يلق نجاحا كبيرا لحساب الفنان والموسيقار محمد فوزي، وكنت أقوم في الفيلم بدور صغير، وكان هو يخرجه، وأدهشني أن أشاهده وهو يؤدي الأدوار كلها «دور البطل والبطلة وحتى الكومبارس» وكأنه قد خلق وهو يتمرن عليها حقا، كان يمثل ببراعة وينفعل ويبكي ساعة اللزوم، ومن هنا أخذت بالصدق في إحساسه.

تزوجت الأستاذ مدفوعة بنزوعه إلى الكمال وليس إلى الحب.. «هذا ما اكتشفته بعد ذلك»، ومرت الأيام وبدأت أبحث عن الحب، أبحث عنه بهدوء وفي سكون كمن أضاع شيئا ثمينا وخاف أن يكشف الضياع للناس حتى لا يسخروا منه فراح يبحث عنه بالسر وقد ضاعف من حاجتي إلى الحب إحساسي بالفراغ.

أول أزمة تعرضت لها الحياة بيني وبين عز كانت بسبب «نادية»، فقد كانت نادية ابنتي الأولى وحبيبتي، في الرابعة من عمرها أو لعلها تجاوزتها بقليل حين أراد عز الدين أن يظهرها على الشاشة، حيث كنا نستعد لفيلمنا الأول معا، وأقصد بالأول أي الفيلم الذي أنتجته وأخرجه هو وكتب قصته يوسف عيسي. قرر عز وهو يضع اللمسات الأخيرة في الفيلم كعادته أن تقوم نادية بنفس دورها في الحياة «دور ابنتي» في فيلم «موعد مع السعادة»، وانزعجت للأمر، فأنا أعرف المتاعب التي يتعرض لها الأطفال عندما يعملون بالسينما وأعرف البصمات التي يتركها هذا العمل المبكر والشهرة التي تتولد عنه على حياة الإنسان فيما بعد، وقلت لعز: «أنا أحب الفن وأكبر دليل أنني فنانة وأن زوجي فنان والفيلم فيلمي، ولكنني على الرغم من هذا لا أريد لنادية أن تمر بتجربتي الأولى في الحياة، ولا أريد لها أن تفعل فعلتي عندما ظهرت وأنا طفلة في فيلم (يوم سعيد) فكان أن ارتبطت حياتي كلها بهذه الخطوة المبكرة».

استمع إليّ عز الدين وكأنه يستمع إلى ممثل يقوم ببروفة، ثم قال بهدوء: «وهل تكرهين لها أن تكون فنانة؟».

وأجبته: «لا، ولكني أريدها أن تختار بنفسها طريقها في الحياة، وألا أحاول أنا أو أنت رسم هذا الاتجاه من اليوم».

فقال لي عز بهدوء: «لا تنسي أنها ابنتي، وأنا المسؤول الأول عن مستقبلها. لم أرد عليه واكتفيت بالبكاء».

دموع كثيرة تساقطت من عيني في تلك الليلة على الوسادة وآهات خافتة تسللت من تحت الغطاء لتموت في الظلام. في الصباح خرج عز الدين مبكرا كعادته وشعرت بالفتور الذي أصبح يدب فجأة في حياتنا، فقد غادر عز المنزل دون أن يطبع على جبيني قبلته الصباحية المعتادة، وأنا أيضا تظاهرت بأنني نائمة حتى خرج، وغادرت الفراش بسرعة وارتديت ثيابي على عجل ثم توجهت إلى حجرة نادية، وملت على وحيدتي فرفعت جدائل الشعر التي تغطي وجهها ثم انهلت عليها بالقبل، قبلات كثيرة طبعتها على وجنتيها دون أن أشعر، وفتحت نادية عينيها وراحت تنظر إليّ بدهشة، فقلت لها وأنا أرفعها بين ذراعي من السرير: قومي يا حبيبتي، إحنا خارجين.

وسألتني وآثار النعاس ما زالت تثقل جفنيها ولسانها: «على فين يا ماما؟».

فقلت لها وأنا أضغط عليها في صدري كأنني أريدها أن تتخلل ضلوعي: «خارجين يا حبيبتي».

خاطر غريب سيطر عليّ في ذلك الصباح، لقد خيل إليّ ربما بتأثير التعب النفسي والإرهاق العصبي أنني سوف أفقد نادية وحيدتي ودنياي.. «فاتن الصغيرة»، وكما يتوهم الإنسان تحت تأثير الخمر والمخدر أشياء لا وجود لها انتابتني الهواجس وداهمتني الخيالات الغريبة تحت تأثير التعب والإحباط فصممت عليّ أن أنقذ صغيرتي مهما كان الثمن، وألبست نادية بسرعة نفس السرعة التي ارتديت بها ثيابي ونزلنا إلى الطريق وخيّل إليّ ساعتها أنني نجوت من خطر كبير، أي خطر هذا لست أدري؟ ووقفت على باب العمارة أنتظر سيارة أجرة، وفجأة لمحت شيئا غريبا، لقد لمحت سيارتي البيضاء واقفة في الجراج، ودق قلبي بشدة، فعز الدين لم يقبلني في الصباح كالمعتاد ثم هو لم يركب السيارة على أساس أنها سيارتي، وتوجهت بلا وعي مني إلى السيارة وعلى الرغم أنني لم أكن أجيد القيادة لأن عز الدين كان يقوم بهذه المهمة أو السائق في حالة غيابه، فإنني خطوت بثبات نحو السيارة وجلست على عجلة القيادة وشعرت بخوف مفاجئ، فقد شعرت أن اندفاعي بالسيارة وحيدة قد يعني انطلاقي في الحياة وحيدة أيضا، وبكيت بدموع صامتة خشية أن تلمح نادية القطرات في عيني، ووضعت نظارتي على عيني المتعبتين بسبب البكاء طوال الليل وهمست بصوت خفيض ثم أطبقت بيدي على عجلة القيادة واندفعت السيارة في الطريق الطويل تتلوى في البداية ثم أخذت الاتجاه الصحيح إلى حي المنيرة وسألت نادية بصوتها الرقيق: «على فين يا ماما؟».

فنظرت إلى الطريق قبل أن ألتفت إليها وقلت: «عند جدو يا حبيبتي».

وعادت نادية تقول: «ليه، هو النهارده الأحد؟».

وقلت لها وأنا أستجمع قواي المنهارة: «لا، لكن حنروح عنده».

كان من عادة نادية الصغيرة أن تقضي يوم الأحد، إجازتها الأسبوعية، في منزل أسرتي بالمنيرة، تقضيه في اللعب مع أشقائي ووالدتي التي كانت تتحول إلى طفلة كبيرة في ذلك اليوم لتجاري نادية في جميع تصرفاتها، وقد أدهشها وهي ابنة الرابعة أن تزور جدها في غير موعدها وقبلتها في شعرها، وصمتت وظلت يداي مطبقتين على عجلة القيادة كأنني أخشى أن تفلت مني.

عندما عاد عز الدين ذو الفقار في الساعات الأولى من فجر اليوم التالي فوجئ بالنور مطفأ، والبيت خاليا، لقد عاد إلى المنزل ليجده غارقا في الظلام وبحث طويلا في الحجرات عن خطاب أو شيء يدله على مكاني أو يفسر له سبب خروجي دون إخطار بذلك بلا جدوى، ورفع عز السماعة الداخلية واتصل بالجراج يسأل عن السيارة فقال له الأخير، إنها غير موجودة، فجن جنونه فنزل إليه بملابسه الداخلية وراح يمطره بالأسئلة كأنه وكيل نيابة يباشر تحقيق في قضية غامضة (هكذا قص عليّ العامل الموقف بعد ذلك)، وقال له المسؤول عن الجراج: لقد ركبت الست السيارة في الصباح وخرجت مع نادية.

وقال عز بلهفة وقلق: «وهل جاء السائق قبلها؟».

فأجابه: «لا، لقد قادت هي السيارة».

وعاش عز على أعصابه الليل بكامله، وعلى الرغم من هذا لم يشأ أن يدير قرص التليفون ليتصل بأسرتي يسأل عني، فقد كان رحمه الله «عنيدًا جدًا» معتزًا بنفسه إلى درجة مثيرة، وأمضيت ليلة مؤرقة أنا الأخرى إلى جوار التليفون أنظر إلى تلك العلبة الصغيرة السوداء، وأنا أتمنى في أعماقي أن ترن فقد شعرت بالندم لتصرفي وبت في أعماقي أتمنى أن يخطو عز الدين خطوة في سبيل إنقاذ الموقف ويفتح لي بالتالي باب التراجع، ولكن التليفون ظل على صمته كأنه مات أو قطعت عنه الحرارة لعدم سداد القسط، مما جعلني بدأت بالشك في أن التليفون معطل، فكنت أرفع السماعة بين وقت وآخر لأتأكد من أنه سليم ثم أعيدها مكانها بغيظ شديد.

وفي الساعة الثالثة صباحا رن التليفون فجأة، وبلهفة المراهقة التي واعدت صديقها على موعد معين رفعت السماعة، ورحت أصرخ قائلة: ألو.. ألو!!!، وظلت صرخاتي بلا رد، وخيّل إليّ أنني استمعت فقط إلى تنهيده عميقة أنهى بعدها المتحدث المجهول المكالمة، وصور لي تأخر الوقت وقلق زوجي وقد جلس يشرب الويسكي بإفراط كعادته في حالات الضيق. وكيف أنه أراد أن يطمئن عليّ فاتصل بي واستمع إلى صوتي واطمأن فأغلق السماعة، وبدأت أشعر بالارتياح، فالإنسان كثيرا ما يحلو له أن ينسج الطمأنينة من خيوط واهية. وفجأة، رن الجرس ثانية ومددت يدي إلى السماعة فإذا بصوت أجش يقول بلهجة آمرة: «فين المعلم شلبي؟».

وأجبت بغيظ: «لا، النمرة غلط».

وعدت إلى القلق ثانية فقد بددت المكالمة الجديدة أطياف الطمأنينة كلها وقلت لنفسي لعل المكالمة الأولى أيضًا كانت للمعلم شلبي، فلما سمع المتحدث صوتا أنثويا أغلق السكة، وبدأت أحاسب نفسي على لهفتي متسائلة: «لمَ أريده أن يتصل بي وأنا التي تركت المنزل باختياري؟!». وجاءني الجواب من أعماقي: «إنه الغرور، نعم غرور المرأة حتى عندما تزهد في الرجل»، وكان هناك سبب آخر هو شعوري بالندم. لقد عاتبني والدي عندما رجعت إلى منزله ورويت له باختصار قصة الخلاف فقال لي بهدوء القاضي الذي استمع إلى وقائع الدعوى بتريث: «قد يكون الحق معك، ولكن خروجك بلا إذن يدينك في الموقف كله وأنت قد تكونين نجمة في نظر الناس إلا أنك بالنسبة لزوجك ست بيت وزوجة وأم». وسكت والدي ثم أضاف وهو يتركني ليصلي العشاء: «لا أستطيع أن أقول لكي ارجعي لأنك في بيتي، ولكني أفضل أن تراجعي نفسك في ما فعلتِ».

ولهذا كله تمنيت أن يتصل بي عز ليلتها فقد كنت أريد مجرد كلمة عتاب تفتح لي باب التراجع.. «آه، ليته فعل ذلك» لاختصر عليّ وعلى نفسه الكثير مما حدث بعدها، ودخلت حجرة شقيقتي «ليلى»، الحجرة التي تخلت عنها لي ولابنتي وذهبت لتنام إلى جوار أمي، دخلت وكلي أمل في أن أجد نادية مستيقظة أو ليلى إلى جوارها، فقد كنت متلهفة إلى الحديث، لهفة السجين إلى التحدث في يوم الزيارة، لقد كنت أريد أن أفتح قلبي لأي إنسان، ولكنني وجدت نادية وحيدة وقد استسلمت للنوم ببراءة وبهدوء، وصعدت إلى جوارها في السرير واحتضنتها بين ذراعيّ بحنان ورفق، وعندما استيقظت في الصباح كانت هناك دموع كثيرة تتخلل شعر نادية الحريري، ودخل شقيقي «منير» إلى حجرتي ليحييني، فقد كان غائبا طوال الليل في مهمة خاصة بعمله، وضمني منير إلى صدره ثم قبّلني وهو يقول: «أهلاً تونة، هو عز مسافر والّا إيه؟».

وأجبت بهدوء: «لا، أبدًا».

فسألني منير: «أُمّال إيه اللي جابك؟».

كان سؤاله كما يبدو عاديا والواقع أنه كان يخفي بين كلماته استياء لتصرفي فقلت له: «أبدًا جيت أزوركم يا منير، هي الزيارة عيب؟».

فنظر في عيني طويلا، ثم قال بخبث ضابط البوليس: «إذا كانت زيارة أهلا وسهلا لكن..».

وقبل أن يكمل جملته قلت له مقاطعة وأنا أناوله مفاتيح السيارة: «والنبي يا منير توصل نادية المدرسة أحسن أنا تعبانة».

وفهم شقيقي أنني أتهرب من أسئلته المحرجة، فمد يده يلتقط المفتاح، وقال لي وهو ينظر إليّ بعتاب: «أمرك يا تونة».

وخرجت نادية مع خالها.. وتركتني للأفكار القاتمة والأحزان، فقد كانت أول مرة أختلف فيها مع عز، وكان احتمائي بالكبرياء مجرد تعبير عن تبرمي بالحياة إلى جوار رجلي الأول، وقد حاولت بعدها أن أنقذ الموقف مهما كلفني الأمر حتى لو حطمت كبريائي المزيفة، وكان الاستوديو الذي يصور به عز مشاهد الفيلم «جاسوس» بمثابة عين تراقب بين الحين والحين موقف عز من الفنانين والفنانات على الخصوص وتنقل إليّ ما يدور بصراحة وطلبت إلى خادمتي أن تتصل بالاستوديو تليفونيا حتى لا يتعرف العامل إلى صوتي، وأن تطلب من «الجاسوس» المجيء على الفور، وجاء فعلاً. وجاسوسي لم يكن إلا «رزق عبد الحميد»، وهو شاب طيب القلب من أسرة لها شأنها، عمل فترة طويلة مساعدا لعز وسكرتيرا له وتابعا أمينا، وسألت رزق: «عز أخباره إيه؟».

فقال لي وهو يبتسم ببلاهة: زفت يا مدام وكله جه على دماغي أنا، فضل يزعق فيّ من ساعة ما وصل لحد حضرتك ما ندهت عليّ، ثم اقترب مني رزق ليقول بصوت لا تسمعه الخادمة: «هو حضرتك زعلانة منه؟».

فقلت له: «يعني، حاجة زي كده».

فهز رزق رأسه، وقال: «علشان كده أنا قلت إيه اللي يخليه يشرب زجاجة ويسكي على الصبح؟».

وشعرت أن قلبي يدق بشدة مع الخبر الأخير، لقد كان عز الدين يشكو من روماتيزم قديم، وكانت هناك نوبات مفاجئة تصيبه فتعوقه عن السير، فكان يخرج وهو جالس على مقعد متحرك كمقاعد المصابين بالشلل، وكان الطبيب الذي يعالجه يحرم عليه تناول الكثير من الأطعمة والإفراط في التدخين وشرب الخمر، وكانت عودة عز إلى الويسكي وفي الصباح خطيرة، ومن هنا صممت على العودة أو لنقل إنني تعللت بهذا كي أتراجع وأعود.

عندما عاد عز في المساء وجدني في المنزل.. «كأن شيئا لم يكن»، وهو أيضا لم يتكلم ونظر إليّ بعينين معاتبتين وقبّلني في وجنتي بشيء من الفتور ثم قال لي: وحشتيني يا تونة.

فقلت له: عن إذنك أنا داخله أنام لأني عندي شغل بدري.

وتركته بضعف وتسللت إلى الفراش بهدوء وقبل أن أطفئ النور نظر إليّ بخبث وقال: أنت قابلت رزق النهارده يا تونة؟

وأجبت وأنا أتلعثم: لا، لماذا؟

فقال بهدوء: لا شيء، مجرد سؤال.

وشعرت حينذاك أن جاسوسي يعمل في الوقت نفسه جاسوسا لعز فعضضت على شفتي ونمت وأنا أكاد انفجر من الغيظ، واستيقظ عز مبكرا وسمعته للمرة الأولى يغني وهو يحلق ذقنه واقتربت منه فقبّلني بمرح زائد، ودهشت لتصرفه وشعرت بالضعف الشديد، فقلت له: أنت عاوز فساتين إيه لنادية علشان الفيلم؟

فنظر إليّ بعينيه الثاقبتين البراقتين ثم قال وآثار الانتصار بادية عليه: اللي تشوفيه، أنت عارفة الرواية جيدا، وذوقك في اللبس أحسن من ذوقي طبعا.

وخرج عز وقد غفر لي فعلتي دون أي لوم أو عتاب، أما أنا فلم أغفر له أو لنفسي أنني هزمت وضعفت وتراجعت وقبلت أن تمثل ابنتي «نادية» لأول وآخر مرة في فيلمي «موعد مع السعادة»، وخيّل إليّ أنني نسيت مع الأيام تمردي وتبرمي بحياتي، ولكن الذي حدث بعد ذلك أنني سافرت بعدها بشهور إلى بيروت ثم عدت لأواجه أقوى عاصفة هبت على حياتي.

* عز الدين كان يقضي نصف ساعات يومه في العمل والنصف الآخر في الاستعداد للعمل، وما تبقى من وقته كان يمضيه معي، ولم يكن هذا كافيًا لأن تصمد الحياة الزوجية أمام أزمات يعرفها كل بيت، ولم يكن هذا أيضًا كافيًا لأن تتوطد بيننا العلاقة أكثر وأكثر، فالعلاقة الزوجية مثل النبات الأخضر يحتاج إلى ماء كثير ليبقي على خضرته وإلا جف وذبل.

* عندما عاد عز الدين ذو الفقار في الساعات الأولى من فجر اليوم التالي فوجئ بالنور مطفأ، والبيت خاليا، لقد عاد إلى المنزل ليجده غارقا في الظلام وبحث طويلا في الحجرات عن خطاب أو شيء يدله على مكاني أو يفسر له سبب خروجي دون إخطار بذلك بلا جدوى، ورفع عز السماعة الداخلية واتصل بالجراج يسأل عن السيارة فقال له الأخير، إنها غير موجودة.

 

الشرق الأوسط اللندنية في

01.06.2015

 
 

مذكرات وسيرة فاتن حمامة ـ السيد الحراني

 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004