زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 74

قودي سيارتي (Doraibu mai kâ) Drive My Car

«سينماتك».. تختاره كأفضل فيلم لعام 2021

"قودي سَيّارتي" للياباني ريوسوكي هاماغوتشي... أصلحوا أنفسكم بالمحبة

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
   
 
 
 

«سينماتك» في كان السينمائي الدولي

 
 
 

للوهلة الأولى، يبدو الرجل الأربعيني الممثل والمخرج المسرحي يوسوكي كافوكو، بطل "قودي سَيّارتي" للياباني ريوسوكي هاماغوتشي، شخصاً من طراز قديم وتقليديّ النزعات وبلا حيلة, كتوم ومكلوم في غَيْرته، وكأن أوانه تَصَرَّم. يصغي كثيراً من دون أن يصرف ذهنه عن إلتقاط حركات الأخرين. يحتفظ دائما برباطة جأشه، وغالبا ما يكون حيادياً، مُتَقَبّلاً بشكل منهجي عطاءات محيطه، بشراً كانوا أم ظواهر. بيد أن هزَّة شخصيّة، تقودنا الى التعرُّف على كائن "هاملتي" النزعة، أكثر إشراقاُ ونبلاً وسَويّة.

كائن يعيش ضمن عالم دراميّ غنيّ، مرسوم وكأنه فصول ممسرحة لممثل وحيد جَوَّال. تارة، نراه في الفراش مع زوجة، تسرد له حكايات جرائم نسويّة على خطى شهرزاد. أخرى، نقابله في غرفة فندق حيث يقرر إنتقامه اللاحق من عشيق شاب، هامت به تلك الزوجة. ثالثة، في صالة تدريبات، فارضاً سطوته الإبداعية. رابعة، أمام مرآة ماكياج، كاشفاً عن كينونة رجل يُسهِل خِداعه. تالية، في قاعة مآتم، مودعاً امرأة خَئُونة. لاحقة، عند طاولة عشاء، خاضعاً الى توبيخ ممثلة كورية بكماء: "أنا معتادة على سوء فهم الأخرين لي". تابعة، في عيادة طبيب، يخبره عن إصابته بعمى مؤقت بعد تعرضه الى حادث مروري، تورية عن غفلته من عِشْرَة غدر. أخيرة، في حانة حيث يقابل مَنْ يضاجع قرينته أوتو، مُسَمَّعاَ إياه ما يمكن إعتباره جرعة موت أخر مُقَدَّر: "لقد جمعتنا أوتو معا"، يرمي جملته اللئيمة في وجه اليافع تاكاتسوكي (ماساكي أوكادا)، قبل أن يرتكب هذا الأخير جريمة قتل لاحقا.

غير أن الدراماتورجيا الفاعلة ليوميات كافوكو (هيديتوشي نيشيجيما) تتفّجر لاحقا مع ما يجري "تمثيله" داخل سيارة حمراء من نوع "ساب 900"، سواء بمفرده مع صوت أوتو المُسَجَّل، يلقَّنه حوارات مسرحية الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف "الخال فانيا" (1897)، ويكشف له تداخل المَرَامَات الأخلاقيّة لكلماتها وتعابيرها مع حياته، والطعون التي وجهت الى صميمها، أو مع سائقته الخاصة الشابة ميساكي (توكو ميورا) التي سـ"تقوده"، من هيروشيما الى أقاصي البلاد، فى رحلة عرفانيّة حول الذنب وقصاصه، الخلاص وثوابه، التوبة ونداماتها، أو مع الشاب تاكاتسوكي الذي تصبح دموع إعترافاته حول قباحاته وأضراره ومفاسده، تطهيراً مقبلاً لمهجة البطل وغُصَّته بشأن خيانات أوتو التي يزفرها بتنهيدة حارة: "أريد رؤيتها كي أصرخ بها، أن أوبخها، لإنني لم أصغ لها، لإنني لم أملك قوّتي".

*****

شّريط هاماغوتشي، الحائز على جائزة أفضل سيناريو في الدورة الـ74 (6 ـ17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان كانّ السينمائي، والمقتبس عن قصة قصيرة بنفس العنوان لمواطنه الكاتب هاروكي موراكامي، والمُطَعَّم بإثنتين أخريين من مجموعته المعنونة "رجال بلا نساء" (2014)، مصاغ بقُدْرَة سينمائية خلّاقة لرحلة متواصلة، هي إستعارة عن دورة حياة فرد مبدع وقلق، يفشل في "إصطياد" الخبث من حوله، رغم قدرته على خلق عوالم ممسرحة، تصيب سهامها مشاهديه وقنائعهم، وتحضَّهم على التغيير. أذن ما كان المانع في إختراقه عماه الوجوديّ؟. إنها طريقة أوتو في "لعبة الحكي الشهرزادي" التي تجبر زوجها على تذكُّر عناصر قِصَّتها خلال مواقعتهما الجنسية التالية، وحين يفشل تحيك تفاصيل جديدة، تزيد من إرتباكاته وجزعه. إنها مناورات "لسانية" تجعل رجلها منذوراً الى أخر فقرة، كي لا يفوَّت عليه خيوط جامعة لوقائع لن تنتهي أو تتوقف عن إستنساخ نفسها، يشير اليها هاماغوتشي بصريا في بداية المقطع الثاني وعنوان "بعد عامين"، حين يمزج عجلتي السيارة مع طرفي الشريط الدائر في ألة التسجيل، الذي يُسمعنا صوت أوتو، وكأنه آت من أبديته.

من هنا، فإن قدر كافوكو يماثل قيادة سيارة تعطلت كوابحها، وهي تهوي الى واد سحيق. فلا حول له سوى وقوع معجزة، سرعان ما تحدث حين تموت أوتو فجأة، إثر تعرضها الى نزيف حاد في الدماغ. تتوقف اللعبة لكن أثامها تلطخ عالم رجل أرمل لن يجد بصيرته وشجاعته للإنتقال من حداده ومحنته الى كفارته الشخصية إلا بعد عامين، وبمساعدة امرأة أخرى لا ترغب في "الحكي"!. يصور مخرج "حميميات" (2012) لقاء الإثنين في موقف سيارات فارغ تابع لبناية "مسرح هيروشيما للثقافة والفنون"، حيث كُلِف الممثل الشهير إخراج نصّ تشيخوف الشهير، معتبراَ أن هذا الحيّز هو أرض فضائل ربّانيّة ("ليمبو" كما لدى دانتي)، ينتظران عندها عمادتهما الثنائية. هو، من لا طهارة حياته السابقة. وهي، من مصيبة فشلها في إنقاذ والدتها حين وقع إنهيار أرضي، جرفها الى حتفها.

*****

المرويّة السينمائية وتسلسلاتها في "قودي سَيّارتي"، وهو عنوان إستعاره موراكامي من أغنية لفريق "البيتلز" البريطاني، بسيطة البناء وآسرة العوالم حول عزلة إنسان يبحث عن سُلْوان، بعد أن "غابت" امرأة حياته، وهي ثيمة المجموعة القصصية الآنفة الذكر. ما تم صوغه على مدى الـ 179 دقيقة من طول الفيلم، هي أربع حالات يكون  فيها البطل خاضعاً الى إستماع. إنه رجل يُجِيد الإصغاء، ويبحث عمَّن يملك صبر الإنصات. في الأولى المستندة الى قصة "شهرزاد"، ينصت الى إمرأته بعد ممارسته الجنس معها، ساردة حكاية فتاة متيَّمة، تتسلَّل الى غرفة شاب يجهل مشاعر حبّها، كي تستنمي فوق فراشه... لكنها تفشل!. فيما يصغي في الثانية الى "ترجمة" إشارات ممثلة خرساء، أرادت إحتراف الرقص، غير أن تعرضها الى حالة إجهاض، قضى على حلمها، فـ"توجَّهت الى التمثيل لإن بإمكاني إدراك أمور لا تصفها الكلمات". أما الثالثة، فتحدث تفاصيلها مع سائقة، شرهة التدخين، تكشف له عن مأساة والدة معاقة وتَيَتُّم لاحق ومرارة توحَّد، قادتها جميعا الى "كُلّ ما يمكنني فعله"، أيّ قيادة سيارة "لإنها وظيفتي". لاحقا، وبين أكمات جليدية وأمام خراب كوخ مغطى بثلوج شتاء مغموم، تتلبَّس الشابة ميساكي الشخصية المقابلة لها سونيا في "الخال فانيا"، وتشدَّ من عَضُد الرجل الدامع أمامها حزناً على موت حبه: "عليك أن تُسلم أمرك، وتتقبَّل حقيقة حبّها لك، ورغباتها المستمرّة برجال أخرين". هذه الثنائية الغريبة عنصر حاسم لقدرهما الذي يلتقي عند نقطتي تظاهرهما ونشوزهما. تعترف الشابة إنها عجزت عن نخوتها، فخسرت أمها ومعنى حياتها، فيما أصطنع الثاني تغافلاً مقصوداً عن شهوات أوتو، معلناً هزيمته كونه لم "يصغ الى قلبه"، وإنه كان يخشى فقدانها.

في حين يُبقي صاحب "أساكو 1 و11" (2018) إنصات كافوكو الأخير في منطقة دراميّة وسطى، تهِب نصّه الذي كتبه بمشاركة تاكماسا أوي، فرصة تمهيد معقولة لرفع الجدار الطبقيّ والإعتباريّ بين مخرج شهير وإبنة أصول فلاحية، تعلمت مهنتها في معمل نفايات هيروشيما، قبل أن يحتضن بعضهما الأخر عند أطلال منزل شهد طفولتها الضائعة، إيذاناً بـ"إتفاق مشترك" على المواجهة وهداياتها. خلف مقودها، تستمع الشابة الى إعترافات تشيخوفية متبادلة بين تاكاتسوكي وكافوكو. الشريكان بجسد أوتو، الغريمان في عالمها المظلم والغامض (حقَّق هاتين الصفتين بصريا مدير التصوير هايديتوشي شينومايا في مشهد إفتتاحي، غلبت عليه تشكيلات غَبِش ليلي بألوان فاتنة). يستبيح البطل، بنبل مسرحي مكثف وبصوت آمِن وسحنة متطامنة، نجاسة الشاب على مدى 13 دقيقة، داخل سيارته وهي تعبر الشوارع السريعة لمدينة الإثم النووي الأميركي (هناك لقطة يتيمة وسريعة تعرض البناية التذكارية للقنبلة المشؤومة في "ساحة السلام")، ويواجهه بشَيْن أوتو:"كانت تنام مع ممثلي مسلسلاتها، وتجلبهم الى منزلنا. شهدت ذلك بأم عيني"، متداركاً: "لكنني لم أَرْتَب بحبّها لي". حين يُنهي مداخلته، يتحايل هاماغوتشي بفطنة درامية على مسار المواجهة، دافعاً بالعشيق الى "حكي" بقية قصة الفتاة المقتحمة لغرفة حبيبها، ومحاولتها إمتاع شهوتها فوق فراشه، ليتبين لنا ان الإثنين صنوان يتواجهان/ ينصتان الى إقرارات من لسان واحد لجسدين، وهما جالسان على المقعد ذاته، داخل مركبة متحركة في دورة أزلية (أشار هاماغوتشي الى إنه استوحى مقاطع الـ"ساب الحمراء" من المشهد الأثير لمطاردة السيارات بين البطل ليمي كوشن وأعوان الشرطة في فيلم "ألفافيل" (1965) للمعلم السويسري الفرنسي جان لوك غودار). إستمع كليهما الى الحكاية ذاتها من فم سيدة غائبة بنهايتين مختلفتين، لتوصلهما، وهي في ملكوت السماوات، الى حكمة تشيخوفية بإمتياز: "إذا أردت أن تُثمن الأخرين، عليك أن تُحسِن النظر الى قلبك أولاً".

*****

لئن جاء شريط هاماغوتشي "عجلة الحظ والفانتازيا"..(أنظر "سينماتك" بتاريخ 2021.3.14) بقصص ثلاث متتابعة، تحت عنوان مناورات الحب وأعاجيبه، فإن "قودي سَيّارتي" هو أفلمة لثلاث سرديات لموراكامي (منها قصة "كينو") تحت يافطة تشيخوف وترنيماته العائلية، حول خيبات وبَلايا، تستحوذ على كل مفصل من يوميات أبطاله، من دون أن يفقدوا إيمانهم براحة أبدية، تُكرم كافوكو ومسيرته وعثراته، بمشهد ختامي يؤدي فيه شخصية فانيا، مستمعاً تحت دموعه الى حماسات سونيا التي تقدمها الممثلة الكورية البكماء، أمام جمهور يقرأ كلماتها على شاشة عملاقة: "ما باليد حيلة. يجب أن نواصل الحياة رغم تعاستنا". هذا عرض يُكمل مثيلاته، تابعناها متناثرة طوال الشريط مع طاقم عالمي. يقول الممثلون حوارات المسرحية بلغتهم الأم، ما يجعل من كل فقرة تجهيزاً سينمائياً مبتكراً وشجاعاً لعالمية نصّ تشيخوف (نذكر إستعارات التركي نوري بلجه جيلان في "سبات شتوي" (2014)، إذ إن أفكار هذا النص لا تُلقى فقط خلال فقرات تدريب مسرحي بل تتسرب بمكر الى حيوات الشخصيات اليابانية الأربع. نسمع صوت أوتو وهي تردد يقينها بـ"إن الحقيقة، أيا كان جوهرها، ليست مخيفة"، بينما يواجهنا تاكاتسوكي بإقراره: "أنا صدفة فارغة. خاو في داخلي"، أما خراب ميساكي الداخلي، فمحكوم بالشرّ الذي مارسته بحق والدتها، في حين يبكي كافوكو خوف وحشته لإن "أولئك الذين كُتبت لهم الحياة، مجبرون على تذكَّر مَنْ سبقوهم في الرحيل. شاؤوا أم أبوا".

طوال الفيلم، أبقى ماهاغوتشي بطله ضمن لَمَّة بشرية، لإن مسؤوليته ككائن مبدع وقيادي، تجعله أقرب الى كاشف ألغام، مفوَّض بتفكيك أسرارها قبل أن تنال من سكينتنا الفردية ورحمتها، وتعطب إجماعنا وتطامنه، وتُفسد إيماننا بعقدنا الإجتماعي ومناعته. كافوكو هو ملاك جدير ببهائه وحزنه ونكباته. وسيط حيوي للتفاعلات البشرية، ومتمكن في قيادتها نحو أمجادها التي تتجلّى بألق ساطع النور في مشهد ختامي حيث نرى ميساكي تقود سيارة الـ"ساب 900"، على طريق سريع مشمس ومفتوح على أفق لا نهائي، منطلقة نحو مصالحة وجدانية متجدّدة، ودعوة لأصلاح النفوس بالمودات، وكأنها توكد على أن "المحبَّة لا تَنْسِب الشَّر الى أحد، وإنها لا تَسْقُط أبداً" (كورنثوس8:13ـ4).

سينماتك في ـ  26 ديسمبر 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004