الياباني ريوسوكي هاماغوتشي، مؤلف ومخرج فطِن ومُختلف
غير معروف عربياً. يستحق دراسة مفصَّلة لإشتغالاته
السينمائية، رغم إنها لا تتجاوز أربعة أفلام روائية
(من بين 13 أخرى وثائقيّة وتجريبيّة وقصيرة)، بيد أنها
كافية لرصد نظراته الإجتماعية الرشيقة والشفيفة لإحوال
طبقة متوسطة، تعاني من خيارات صعبة في مجتمع شديد
الحداثة والإنغلاق. اللافت، إن صاحب "الأعماق" (2010)
و"صوت الأمواج" (2011) يحتفي بمواطنه وعالمه الشخصي
ومحيطه وأسرته وصداقاته ومغامراته وأرائه وإيمانه
وأسراره، وهي مُحصَّنة داخل رحم ياباني خالص، حيث لا
يوجد أجنبي أو غريب يخترقان صورته أو حيّزه.
يهتم هاماغوتشي على الدوام ببطولات جماعيّة. هذه
فرادته، إذ لا وجود لبطل مطلق. نلتقي برجل أو امرأة
كُلّ على حدة، لكن سرعان ما يُحاط "هو" أو "هي" بوفرة
بشريّة، تجعل من مسرحهما العائلي أو المكاني أقرب الى
ديوراما ذات ترتيب أفقي، حيث لا مكان الى لقطة/ نظرة
من فوق (علوية). تقف كاميرته، وهي في الغالب ثابتة،
على مقربة من وجوه شخصياته، كما لدى المعلّمين
ياسوجيرو أوزو وميكو ناروسي.
نرى في تلك اللعبة البصرية، كُلّ من هو/هي والأخرين
يؤدون حواراتهم ضمن أَحياز هندسية محدّدة ومحكمة.
أنيقة، شديدة النظافة، متقشفة، وحيادية. وهم دائما
ضحايا حالة مرضية من التظاهر. يتناقشون، يضحكون،
يكشفون عن شيطناتهم أو إلتباس إدراكهم أو سوء ظنونهم،
إلا إن كل ذلك يؤدى بإسلوب متكلَّف، إصطناعيّ، لا
يُظهر ما يبطنوه حتى نقطة وقوعهم في حرج مفارقات لا
مفر من حدوثها، نظراً الى صبغاتهم الأدبية، التي تتطلب
عاملاً مساعداً، كي تجد صوابيتها الإجتماعية. هذه
الأخيرة، تَسْطِير مظهري يستخدمه هاماغوتشي من أجل
تحديد موقعهم الدرامي المميّز بصبغة الليّن، كما هي
شخصيات الـ"واغوتو" في مسرح كابوكي الشعبي. لذا، من
الصعب أن يُظهِر هؤلاء غضباً أو هياجاً أو احتداداً،
إنما يقعون تحت وطأة إصطناع حالات من التلوّي
والأُبَّهَة التي تصبح صفات لشخصيات شابة أو متوسطة
العمر، عليها أن تجد إنسجامها العاطفي ضمن نزعات
وورطات محيرة. لن يصنعوها أو يرتكبوها عن قصد، إلا
إنها تقف في طريقهم، وتقلب يقينهم.
*****
عليه، فإن الصدفة هي عصب درامي حاضر على الدوام ضمن
مرويات جندرية بإمتياز، حيث المرأة فيها كيان حكائي لا
يتوقف عن الكلام، يتعرض الى سلوكيات عامة شاذّة،
وعقبات مجتمعيّة غير مُنصفة، وتناقضات جنسويّة
إقصائيّة. وهي بالتالي عُرْضَة لإرتباك إستجابتها
الذاتية، حين تقع ضحية مصادفات طارئة بخصوص الحب
ومفاهيمه، أو الصدق وتلويناته، أوالخيانة وتبعاتها، أو
الغيرة وحرائقها، أوالعائلة وفروضها.
تتعاظم هذه القيم على شاشة هاماغوتشي من دون تلفيق أو
صخب، ويتم تداولها بين الشخصيات كأسس لأخلاقياتها
وفضائلها التي تبدو، للوهلة الأولى، أنها عصيّة على
الإعطاب، بيد أن عثرة ما أو توتر عابر أو إعتراف
مفاجىء، تقلب روابطها، وتعمَّم الحرج بينها، وتجعل من
تبادل الملامات، خط مقاضاة مسرحي الطابع، تطغي عليه
حوارات طويلة وتفصيليّة، تتطلب من متفرجها تنبُّهاً،
لا تنعدم فيه عناصر إمتاع سينمائي عالي الجودة.
أمام بساطة حدث سينما هاماغوتشي وعاديته، تصبح الأفكار
الأخلاقيّة لقصصه أكثر تحريضاً، بسبب إشاراتها الى إن
مجتمعاً يابانياً بهذا القدر من الرفاهية، يحمل
مواطنوه هشاشة لا نظير لها. من هنا، يتحول المكان
والمحيط والموقع والمنظر، وهي غالباً على قدر كبير من
الترف، الى خشبة عرض لوعات سوداوية، تعرَّي بشراً تعصف
بدواخلهم أنانيات وخداع وإستخفاف وحقد ولؤم، كما
نلتقيها في باكورته "عاطفة" (2008) حين تُذاع علاقة
غرامية سابقة لعريس أمام مدعويه، ليصبح حرج فضيحتها
غولاً إجتماعياً، يُحاصر الجميع في إستنتاجاتهم
وظنّونهم وردود أفعالهم. في المقابل، يخلق هذا المخرج
الأربعيني (ولد عام 1978) أجواء حميمية لإناس على قدر
كبير من الإنسانية والرحمة والتعاطف والروح الإيجابية.
يحتاج هؤلاء أيضا الى "عامل مساعد" كي تقودهم
إنقلاباتهم الى بوح شخصي يُطهَّر ضمائرهم، وهو ما يحدث
بالضبط في شريطه الثاني "هابي أوَر" (أو في ترجمة
تقريبية "ساعة إسترخاء"، 2015) لأربع صديقات، في
الثلاثينات من أعمارهن. هن، ممرضة وقيّمة على معرض
وعاملة مقهى وربَّة منزل، يسافرن الى مدينة كوبي، حيث
يصبح جيلانهن الطويل في أزقتها وحواريها، المصحوب
بحوارات مديدة، أقرب الى أوراق لعبة الـ"تاروت"
وتقليبها الهاديء والإستعراضي الذي يغطي 317 دقيقة زمن
الشريط الكلي، فكُلّ فصل يُسرد كعِرَافة إجتماعية،
تناقش مستويات حياتيّة متنوعة، تبدأ بالعائلة وتنتهي
بالخيانات، وتمر أيضا على الإستعارة السياسية والجندر
والأقدار والأمومة والغرام والمداهنة والتشوَّف والعيب
الإجتماعي.
إلا إن عمله الثالث "أساكو 1&11" (2018) يذهب مباشرة
الى لعب سحري سينمائي، عماده وهم "تشابه وجهين"، يقود
الى مصادفات غريبة لن تنتهي بسعادة مأمولة. تقع
الطالبة الجامعية الحسناء أساكو في حب زميلها باكو،
وهو شاب على قدر من الرعونة. يجعلها العشق غافلة عن
عدم مسؤوليته. يختفي من عالمها بغتة، ويتركها في حيرة.
بعد عامين، تعمل أساكو في مقهى بطوكيو. تُكلف بمهمة في
أحد المؤتمرات، حيث تلتقي بشاب وسيم ولطيف للغاية،
لكنه مملّ الى حد مثير يُدعى ريوهي. تلفها دهشة عارمة،
لإنه شديد الشبه بحبيبها المختفي، كما لو إنه توأمه!.
سرعان ما تُفتن به، ويتشاركا العيش معاً. مشكلتها إن
تماثل الوجوه، يرهن غرامها الجديد مع ضلّال رومانسية
مزوّرة. يقابل هاماغوتشي في حكايتيه بين مفهومين
متناقضين لمثالية بطلة لا تجد ضيراً من القفز على حبال
هيامها، إذ لا تقع ذمَّتها العاطفية تحت طائلة مساءلة
أو إستياء. تتعرض هذه الذمَّة الى ثلاثة أختبارات في
فيلم "عجلة الحظ والفانتازيا"، الفائز بالدبّ الفضي
جائزة لجنة التحكيم في الدورة الـ71 (الإفتراضية)
لمهرجان برلين السينمائي (1 ـ5 مارس 2021)، يسردها
مخرج الفيلم الوثائقي الشهير "حميميات"(2012)،
تفاصيلها ضمن حكايات ثلاث (من أصل 7). تختلف بإبطالها
وحوادثها، وتجتمع على كلمة واحدة هي "المصادفة" التي
تقود مشاهدها الى إستنطاق السُلُوك الإجتماعي للبشر في
ما يتعلق بغدر وصبوات وعواطف وإغتراب وتوحُّد وتصرفات
هجينة.
*****
سينما هاماغوتشي قائمة على براغماتية سينمائية باهرة،
ترى أن قواعد سلوكنا، تشكَّل عقائدنا ونظراتنا للحياة
ويومياتها، وترسم لنا معان معقولة لعلاقاتنا الإنسانية
القائمة على حظوظ وليس خيال وتخمين. ما نسعى اليه عبر
تلك المعاني هو تحاشي العثرات عبر إطلاق الطاقة
النقيّة فينا.
هذه الطاقة بالذات، تدفع ببطلة المقطع الأول المعنون
"السحر، أو شيء أقل توكيداً" الى وضع حد لتلفيق
تتعرَّض لها زميلتها. تطلب من سائق سيارة أجرة تقلها
أن يعود أدراجه: "معذرة، أعدني ثانية الى الطريق الذي
أتينا منه"، تقول كلماتها بعد مشهد طويل، تستمع فيه
الى إعتراف رفيقتها في عالم الموضة، حول شاب يرغب في
مواعدتها، لنفهم لاحقا إن ما طلبته من صاحب المركبة
ليس إلتماساً وإنما مناورة دراميّة، ستتكرر مرات عدة
ضمن الشريط.
عودة السيارة سبيل الى مواجهة لاحقة، تُحاصر فيها
المرأة حبيبها السابق بالمخادعة. عرفت بذلك من الأوصاف
التي كشفتها صديقتها. إمتلكت ميكيو (كوتوني فوروكاوا)
زمام مبادرتها ببسالة، وإقتحمت زيفه وصفاقاته. تبقى
حججه "أقل توكيداً" لإن الطرف الثالث يحتاج الى معرفة
حقيقة مشاعره عبر لحظة سحر، تحدث لاحقا داخل مقهى حيث
تتواعد الشابتان، و"يصدف" مرور العشيق كازوكي (أيومو
ناكاجيما) الذي يُرغم على مجالستهما. هنا، يمرّر
هاماغوتشي بناء سردياً فنطازياً يتكوّن من فرضيتين: أن
تُغادر ميكو الجلسة لحفظ كرامتها كأنثى تتعرض الى
جحود، أو أن تُشنع به إنقاذاً لصديقتها من "شرك غرامي"
جانح.
في المقطع الثاني "باب مفتوح على مصراعيه"، تحدث
مناورة أخرى، أداتها باب مكتب إستاذ جامعي وكاتب روائي
شهير، يُمعن في إهانة تلميذ أمام زملائه، يسعى الى
إعادة إمتحانه بعد رسوبه. ترى لو إن ذلك الباب كان
مغلقاً، أكان تحاشي إنتقام الشاب ممكناً، ومعه تفادي
الفضيحة؟، بل ولماذا على الباب أن يكون مشرعاً على
مصراعيه؟. الجواب: لإن سياسة عقاب التحرّش الجنسيّ في
الحرم الجامعي أصبحت سارية، والرجل الكبير يعرف فخ
الفاسدين. أما ثأر الشاب المهزوم، فالتحرش أداته حين
يُقنع عشيقته وهي أم خائنة، بإغواء الأكاديمي سيغاوا
(كيوهيكو شيبوكاوا) وتسجيل جريمته. تنتظر الفانتازيا
إطلاق سهامها مع مفاجأة قراءة المرأة الحسناء أمامه
مقاطع شبقيّة من روايته الأخيرة.
يخترق إلقاؤها للجمل الناريّة كيان العجوز. يتبادلان
الكلام حول الفعل الجنسي والإنتصاب وجسدها والرغبة
المحرَّمة. يجد الكاتب نفسه مكبَّلاً بنبرة الشهوة في
صوتها، غير ملتفت الى إن هاتفها الجوال يسجل
إعترافاته. بعد 5 أعوام، نلتقي المرأة ذاتها في حافلة
عمومية، عائدة الى منزلها بعد العمل. فجأة تقع
فانتازيا أخرى: يصعد عشيقها الطالب السابق ساساكي
(شوما كاي) الحافلة، وتبدو عليه أمارات موظف ناجح،
و"يشكرها" على مساعدتها التي أدت الى طرد الأكاديمي من
عمله نهائياً، بعد أن سربت نصّ محادثتهما المشؤومة الى
عمادة الجامعة. نعرف إن سمعة الرجل أُخترقت، قبل أن
نشاهد السيدة ناو (كاتسوكي موري) مكسورة لزلّتها
وحماقتها ودناساتها.
يداور المقطع الأخير، وهو الأكثر تهكماً وآنية،
فانتازيته بطريقة فريدة، تقوم على "إتفاق" إعادة تمثيل
حدث أساسي، و"المشاركة" في توكيد كذبته. وهما (الإتفاق
والمشاركة) ما يعطيان عنوان الحكاية "مرَّة أخرى"
مسوغه التركيبي. عند السلالم المتحركة في محطة قطار،
يتقاطع قدر المرأة الأربعينية ناتسوكو (فوساكو
أورابي)، وهي خبيرة كمبيوتر خسرت عملها بسبب إكتساح
فيروس دمر نظام الشبكة في البلاد، مع أخرى هي أيا
(أوبا كاواي) ذات الطلّة البرجوازية. طالبتان تزاملتا
في المرحلة الثانوية، ولم تلتقيا منذاك. سرّهما
المقطوع بينهما، إنهما أخفيتا عشقهما لبعضهما
كسحاقيتين، من دون أن تمتلكا الشجاعة للإعتراف به.
الحظ جمعهما، فهل لديهما الجسارة لإعلان ما خسرتاه؟.
يقارن هاماغوتشي بين طبقتين وسلوكين. عاملة خسرت
أمانها الإقتصادي، وسيدة منزل تعيش زهواً مالياً بسبب
منزلة زوجها. الأولى، خائفة من مستقبل غير محسوم، فيما
تشكو الثانية من صدود أولادها: "أنهم لا يلتفتون
إليّ". داخل الدارة المرفَّهة لأيا، يعتري ناتسوكو
الشكّ في إن إلتباس الصدفة، جعلها "تؤمن" إن المرأة
التي تقف أمامها عشيقة سابقة، وهي ليست كذلك. هل تستمر
بتمثيل الدور، أم إن عليها مواجهة عزلتها مرّة جديدة؟.
في حالة السيدة الأخرى، فإن الحصار المفروض عليها
أخلاقياً إنهار، وما عليها سوى التصريح بنهاية حرجها،
بيد أن عليها أيضا ضمان صدق مشاعرها في عالم فارغ
يتجاهلها. عند السلالم المتحركة مرّة أخرى، تقرران
"تكرار" فعل اللقاء، على أن تدعيا معرفة مسبَّقة،
وتعترفان بحب تركتاه معلقاً لعشرين عاماً!. حين يتم
الكلام الجاهز الخاص باللقاء المُرتب عنوة، تتعانقان
بشغف حقيقي، غير عابئتين بمارة أو خزي ـ لن نراه أبداً
ـ قد يتربُّص بهما.
الشخصيات الثمانية مرصودة عبر كاميرة مدير التصوير
يوكيكو إيوكا بزاوية واحدة ومقاس واحد، تضع الأماكن
وتصاميمها في قلب الإنتباه. فثبوت المشاهد واللقطات
الطويلة تتيح فرصة التفرّس مثلاً في مكتب كازوكي وذلك
المنظر الخلفي العام والبهي لطوكيو في الليل، الذي
يصبح إستعارة لمنزلة إجتماعية يعيشها المعماري الواعد.
وهو رغم الثراء الذي يحيط به، ليس أكثر من وغد حداثي،
يتصاغر بصورة صادمة داخل مشهد المقهى ونافذته الزجاجية
المطلة على بناية خرسانية صماء، بينما تحرس الجلسة
المتقابلة للشابتين قوّة قرارهما، وتضفي عليهما روحاً
نابضة: ميكيو في إفشاء هويته، والأخرى برفضه كرجل
كذوب.
في حين، يظهر مكتب الأكاديمي سيغاوا في الفقرة 2،
المحتشد بالكتب والمحاط بلون أبيض ناصع، وكأنه رحم
خيالي يخشى الإختراق. يبقى الرجل الحريص على سمعته،
مهووساً بمراقبة بابه بدأب عصابي، من دون أن يجعله
إحترازه في مأمن من المكيدة، أو أن يستر إفتقار عالمه
المعزول الى حب أو لذّات. بينما يصبح المشهد الليلي
للحافلة لاحقا، ترميزاً الى رحلة إكتشاف ساساكي
لجريرتها التي فلتت من عقابها. أما المشاهد الخارجية
المنفَّذة بضياء صيفي وتلك اللقطات العامة للطبيعة
المتفّجرة في القسم الثالث، فتجعل من لقاء الثنائي
ناتسوكو وأيا أشبه بحكاية خيالية لأميرتين طافيتين في
شوارع مدينة معلقة بحبل عصريتها المتطرفة. كائنان
إحتال عليهما الحب، وإنقذتهما فانتازيا سلالم متحركة.
|