قيل أن "رجل الأكاذيب يُطلِق الخُصُومة".
"بطل" شّريط الإيراني أصغر فرهادي (وهو عنوانه
العالمي) يناور الجميع، بما فيه ضميره وأقداره وسمعته
وخلّانه، قبل أن ينازع مؤسسات دولة ووسائط إتصال
وأعراف عائلية... وفريضة إسمها الأمانة. فرهادي حكَّاء
سينمائي لا يضاهى. قوّته في تركيب حجّجه ومصادماتها
التي تنال كثيراً من أعراف أخلاقيّة غير عادلة، لمجتمع
متنوّع وعريق ومتصادم لكنه شديد النَّخوة، رغم خضوع
طبقاته الى حيفين سياسي وثيوقراطي، ومثلهما الى مظالم
أيديولوجيّة وحروب وحصارات إقتصاديّة دولية.
نهج فرهادي بسيط. كُلّ حكاية لها تتابع منطقيّ، لكنها
تتحوّل الى معضلة دراميّة مميَّزة وإستفزازيّة، حين
يَكسِر فعل ما مفاجىء ومُلْغَز وعدائي ذلك التتالي.
هذا أسلوب فريد لا يشارك أحد فيه فرهادي (1972). هي
علامته الفارقة التي تجعل من نصوصه جميعها ذات بصمة
عرفانيّة متشابهة الى حد ما، بيد أن وقائعها لا تتناظر
بسهولة، أو ترفض التخصيص كمداورة سىينمائية على شاكلة
ثلاثيات أو رباعيات وغيرها.
أيّ شريط في فيلموغرافيا فرهادي هو كتلة واحدة من صدام
سينمائي مع رزايا بشريّة/ أسريّة، يخترقها بتأن صارم
البناء، ويسلخ عنها جلد أنانيتها، كما في "رقص في
الغبار" (2003) حول إشكالية الطلاق الزوجي وردَّ عاره،
أو أن يُشهّر بقسوة إداريين غُلاة وسعيهم المحموم الى
القصاص، كما في "مدينة جميلة" (2004)، أو أن يشي
بخيانة زوجيّة وملابسات شهوة مقموعة، كما في "ألعاب
نارية لعيد الأربعاء" (2006). امتازت هذه الإشتغالات
بسرديات تقليديّة، ومتن سينمائيّ شعبيّ وسَلِس ومباشر.
درب فيها فرهادي نفسه على صناعة جين سينمائي، تكرَّست
خوازميته المجيدة، وأعلنت تشكَّلها النهائي مع فيلمه
"عن إلي" (2009)، حيث أوجد فيها مكاناً إحتفائياً لما
يمكن تسميته بـ"لمسة فرهادي" التي تضع، منذ الأن،
المظنَّة كوِزْر جماعيّ. يصبح الحُمْق الشخصيّ فيه، مع
عنف غير مقصود غالباً، إدِعَاء سينمائياً محكم الصنع
ضد خلل إجتماعي، يعيه الجميع لكنهم يصرون على
استغفاله. يصيبهم بعورات شائنة، ويعجل فيهم مطاعن الذم
والغيبة.
هكذا، نرى مجموعة الشباب في "عن إلي" وهم يتناوبون
الشبهات حين يقع شرخ كبير في "كتلتهم" مع إختفاء إحدى
المدعوات، وهو فعل لا يحدث كمُبرَّر تشويق بل مساءلة
عقائديّة لصفوة مدينيّة، جاءت الى شاطىء بحر، لتنكشف
عوراتهم وإدعاءاتهم ودناءاتهم. يتكرَّر الصدع ذاته في
تحفته "إنفصال نادر وسيمين" (2011) مع موت جنين بسبب
حادث عرضي، يرتكبه البطل بفظاظة إستعلائية(مع تهمة
سرقة) بحق مدبرة منزله التي تخفي حملها عن زوج عصابي.
تنقلب قضية طلاق نادر المهموم بحالة والده الصحية، من
زوجة ساعية الى هجرة كندية الى عسر ضميري، يتعاظم مع
وقوع جريمة قتل غير معلنة، هي في تراكب مكروهها
القضائي، أشبه بدورة جحود عائلي، يُحاصر الجميع
بملاماته وخطاياها، وعوراته وقباحاتها، وجناياته
وطرائدها.
تبقى الريبة أحدى أهم عناصر "لمسة فرهادي". هي وسيلته
الدراميّة للنيل من شين إجتماعيّ عام، يضع أبطاله في
قلب أزماتهم الأخلاقية، ذلك أن مساعيهم في تصحيح عثرات
إجترحوها، تواجه في الغالب رجماً جماعيّاً لن يرحم.
هكذا، يُصاب أحمد بطل "الماضي" (2013) بلعنة عودته الى
حضن رفضه سابقاً، ويغرق في خزي أقارب، تنأى عنهم
التوبات. فيما يهتزَّ توازن الشاب عماد في "البائع
المتجول" (2019) حين يعرف أن الرجل الدخيل الذي تسبب
سهواً بإذى لزوجته رنا، لم يكن سوى عامل مساعد درامي
(يتداخل مع عرض حيّ لمسرحية الأميركي أرثر ميللر
بالعنوان نفسه)، كي يفضح فظاظته ولا سويَّته و"وقوعه
في وسواس ثأري". هذه اللا سويَّة عصب جديد فرهادي
"قهرمان" (بطل) حيث الخصومات تتناسل بين أطراف غير
متكافئة، والصدام بين الإعتبارات يأخذ منهج تصفية
شخصيّة.
* * * * *
هذا النصّ المجيد يختلف قليلاً عن نظرائه بخلاصتين.
الأولى، معنية بـ"التكُّتل" البشري، إذ يحشد فرهادي
على الدوام مجموعتين من العائلات تتناحر فيما بينها
(كما في "عن إلي"، و"الكلّ يعلم")، أو ضد قوّة أكبر
(القضاء في "إنفصال"، والعفة في "البائع المتجول")،
بيد أنه في "بطل" يختزل الصراع الدرامي بفرد واحد ضد
إئتلافات مجتمع مدني، تبدأ بسلطة سجون، وتنتهي بجمعيات
خيرية. الثانية، معنية بالإنحياز المسيَّس لنصوص
فرهادي الذي لم يشأ إظهاره بشكل فاقع، كون موقفه ـ
بإعتباره قامة سينمائية دولية ـ لا يرتضي مسايرة
تحزَّبات وعداوات ومناكفات. ان "لمسة فرهادي" ذات بُعد
تطهيريّ إنسانيّ لا يتماشى مع التعارض السهل ومراوغاته
وتدليساته. رغم ذلك، يمكن للمشاهد النبيه أن يرصد
بوضوح إنحيازاتها (اللمسة) الى جهة فضح قهر يومي
تواجهه شخصياته، ومثلها أذيَّة مستترة تنال من قطاعات
إيرانية واسعة، وأن كانت تُقدم برونق بصري محسوب
الأبعاد والتصميم.
في "بطل"، الحائز على الجائزة الكبرى للدورة الـ74 (6
ـ 17 يوليو/ تموز2021) لمهرجان كانّ السينمائي، يخطو
فرهادي للمرة الأولى نحو تحميل نقديّ مباشر، تقوله
شخصية شعبية ثانوية فقط، وضمن سياق منطقيّ لغضب عارم،
يتفجّر على شكل مراحل متساوية في حجومها الدرامية، وهو
ما يتساير مع ما ذهبنا اليه بشأن "تركيب الحُجَّة"
الذي يبدأ مع مقطع أول، نرى فيه الشاب رحيم سلطاني
(إداء قدير من أمير جديدي)، مستفيداً من فترة مغادرة
سجنه المدني لإيام كي يحسم أمر دين مالي بذمَّته،
وينهي فترة ما تبقى من محكوميته.
لم يرتكب الرجل جرماً كبيراً. ما فعله هو "تلاعبه"
بزمن الإيفاء بإلتزامه، أيّ إنه ضحية ظروف مهنة خطاطة
ورسوم تزينية، تشهد بواراً حاسماً مع إنتشار تكنولوجيا
الطباعة. رحيم فنان فطري مجالد لكنه سيء الطالع، حين
سعى الى تجاوز أزمته بإستلاف مبلغ من أجل البدء بمشروع
جديد. أمام بوابة سجنه، يفشل في اللحاق بحافلة نقل عام
التي تعود في لقطة الختام، في إشارة الى مصائر
متبدّلة. تتركه وحيداً وسط جزعه وكيس ملابسه وعامل
تنظيف لاهٍ. إنها إشارة بصرية أساسية، تُمهد الى
إنتكاساته المتوالية لاحقا. لن تكتمل حُجَّة هذا
المقطع إلا مع مشهد رمزي لسير رحيم أمام واجهة جبلية
عملاقة، تحمل أثار الأمبراطورية الأخمينية البائدة قرب
مدينة شيراز، ذلك أن حفيد ملوكها ليس سوى ضحية
تكنولوجيا متغيّرة بعجالة لا تجارى. لا أحد يشفع له من
وحشية هذا الوافد الجديد وإستبداده اللذين يجدان في
نظام قضائي عقائدي معاصر، مؤازراً شرعيّاً لنيل القصاص
من "أبطال"عزل من أمثاله.
هذا التمهيد الذي يقدمه فرهادي بتقشف زمني طوله دقائق
ست، يرصد كينونة رحيم العفوية واللا جسورة وطواعيتها
للنظام العام. كائن مهزوم سلفاً (هناك إشارة خاصة لها
تتجلى في شخصية إبنه المصاب بإضطراب الطلاقة
أوالتأتأة)، عليه أن يخوض حرباً من خصومات، لإن
"أكاذيبه" السابقة لا تريد ترك سيرته السيئة الصيت.
هناك بهرام (محسن تنابنده) رجل السُلْفَة، العازم على
إسترداد ماله بالكامل، الذي يصفه بـ"حقير، لا ثقة فيه،
متخاذل، لا يستحق معروفاً"،. هناك حسين الذي يتمسك
بالقرابة وعنادها في إنقاذ صهره بإيّ ثمن. فيما تقف
بينهما كل من مَلي شقيقة رحيم (مريم شاه داعي)
المشحونة بهاجس رفع الغُمَّة عنه، وكف رغبته بالخداع
عبر إنذاره: " إياك أن تفعل أمراً من شأنه أن يخزيك
ويخزي عائلتك الى الأبد"، أما حبيبته فرخُنده (سحر
كلدوست) فهي سند مستقبله ومُخِلّصته لإنه "بهجتي
الوحيدة في الحياة"، وأمله الأخير في قطف نقاوته
العصيّة. سرها مخبوء في حقيبة نسائية وجدتها صدفة، وفي
داخلها عملات ذهب. لم يلتفت فرهادي كثيراً لهذه اللقية
وتفاصيل العثورعليها، كونها "عاملاً مساعداً" يكسر
تتالي عُذْر الوصول الى مال القرض وسهولة سداده. الأهم
هو ما يحدث حين تلمع الإرادة، وتقود صاحبها الى صحوته،
وتالياً مقاومته لإنظمة وممارسات صارمة تُشكك بنواياه،
أو على حد تعبير شقيقته: "الفرق شاسع بين ما يقوله
الناس وما يفعلونه". |