أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

الموسيقى في أفلام أنجيلوبولوس

ترجمة وإعداد: أمين صالح

للموسيقى أهمية كبرى في أعمال المخرج اليوناني ثيو أنجيلوبولوس. الشخصيات تعبّر عن نفسها ليس من خلال الحوار فحسب، بل أيضاً من خلال الأغنية والرقص. بدلا من الحوار المباشر بين الشخصيات، الموسيقى (والأغاني الفولكلورية والترنيمات السياسية والألحان) تكون الصيغة الأساسية للاتصال.

مثلما الدراما اليونانية القديمة، في المجالين التراجيدي والكوميدي، كانت تبدأ بالأغنية والرقص، فإن فيلمه "إعادة بناء"، مثلا، يبدأ وينتهي بلحن شعبي جبلي.

فيلمه "الممثلون الجوالون" يبدأ وينتهي بعازف أكورديون، في حين تنشب أغلب الصراعات والتعارضات "السياسية"، ضمن الساعات الأربع (مدة الفيلم) من خلال الأغاني المتعارضة. بمعنى أن الصراع الطبقي يجد صداه في المجابهة بين الأغاني. الأغاني هنا تخدم في خلق المناخ الموسيقي للفيلم. 

في فيلمه "رحلة إلى كيثيرا"، حين يعود العجوز من منفاه في روسيا، بعد ثلاثين عاما، الى قريته في مقدونيا، فإنه يؤدي رقصة شعبية على قبر صديقه المناضل، ويردّد أغنية شعبية تقليدية (الأغنية تصبح موتيفاً طوال بقية الفيلم). الموت هنا منظور ليس كمحنة فحسب بل كانعتاق بهيج للروح من الجسد. إنها لحظة احتفال.

في نهاية الفيلم، عندما تنفيه السلطات مرة أخرى، ويشعر بأنه مخذول من ثقافته وأصدقائه القدامى، يبدأ في ترديد الأغنية ذاتها مرة أخرى. الأغنية هنا توحي، على نحو تهكمي، بأن النفي هو أيضا نفى عن الثقافة الشعبية وعن الماضي من قبل القرويين المعاصرين الذين يلهثون وراء الثراء السريع ببيع أراضيهم الى المستثمرين.

في دمج الموسيقى داخل المشهد، بدلا من تصوير المشاهد في صمت ثم تسجيل الموسيقى في ما بعد، يقدم أنجيلوبولوس الموسيقى في الموقع حتى يشعر العاملون باللحظة، وكما يؤكد هو: "الموسيقى كلها تكون مسجلة وقت التصوير. كنا نعمل مع آلة تسجيل وجهازيّ ميكروفون، أحدهما للحدث والآخر للموسيقى، دون إضافة أي شيء في ما بعد".

منذ فيلمه "رحلة إلى كيثيرا" عمل مع المؤلفة الموسيقية إيليني كاريندرو في تأليف موسيقى كل أفلامه اللاحقة. موسيقاها لا تبدو يونانية، وليست متجذرة في أي تقليد موسيقي قومي، مع أننا نشعر بأنها أوروبية.

إيليني قد أكدت بأنها - وبتوجيه من أنجيلوبولوس - قد تفادت أن تبدو موسيقاها فولكلورية، يونانية، أو حتى شعبية. والطابع الكلاسيكي لم يكن ملائما.

ما يبدو مهماً بشأن مقطوعات إيليني، أنها توحّد الفيلم صورة وصوتاً، وتربط صور اليونان- البلقان التي نراها بشيء أكبر، شيء وراء المكان والزمان، إن موسيقى إيليني تساعد على خلق مستوى "روحاني" للصورة. إنها موسيقى المكان الداخلي بالإضافة إلى المناظر الطبيعية.

كيف هي علاقته بالمؤلفة الموسيقية، والموسيقى عموما؟

ما هو دور الموسيقى في أفلامه؟

*  *  *  *

يقول أنجيلوبولوس:

* علاقتي بالموسيقى في الأفلام لها تاريخ طويل. بدأت برفض أي نوع من الموسيقى الخلفية، أي الموسيقى المصاحبة للحوار أو الأحداث. قبلت فقط الموسيقى التي تأتي من مصادر طبيعية. الأغنية الشعبية في فيلمي "إعادة البناء" لم تكن خلفية، إنما امتدادا للأحجار والوجوه في ذلك الفيلم. بالنسبة لي، هذا النوع من الموسيقى أساسي لأفلامي كما المطر، على سبيل المثال.

الموسيقى في "أيام 36" مقتصرة على ما يذاع في الراديو، والملتقطة اتفاقاً عن طريق الصدفة. وفي "الممثلون الجوالون" هناك الكثير من الموسيقى، لكن تلك أغان يؤديها الممثلون في عروضهم، أو لأجل جذب الجمهور إلى العرض. القاعدة نفسها اتبعتها في فيلم "الصيادون".

فقط في "الإسكندر الأكبر" قررت أن أغيّر. بما أن بنية الفيلم ذات موسيقى طقسية بيزنطية، فقد اخترت موسيقى شعبية قديمة جدا مؤداة بآلات موسيقية قديمة، ومستخدمة في التقليد الطقسي، حيث تتراوح بين العمل المنفرد والمقطوعة المؤداة جماعيا. لقد استخدمت في هذا الفيلم نوعين من الموسيقى: البيزنطية، وموسيقى الفوضويين الإيطاليين الذين كان لديهم أغنياتهم الخاصة. بطريقة ما، إنه تجاور الشرقي والغربي.. واليونان، بالطبع، في الوسط.

في "رحلة إلى كيثيرا" غيّرت طريقتي في استخدام وتوظيف الموسيقى. ومع هذا الفيلم بدأ تعاوني مع إيليني كاريندرو، واستمر حتى آخر أفلامي.   

* القطعة الموسيقية دوماً تبدأ بالموسيقى التي أستمع إليها بنفسي. في "رحلة إلى كيثيرا"، كمثال، كان النموذج كونشرتو فيفالدي على آلتيّ المندولين. الموسيقى تصبح هاجسا. إنها ليست مصاحبة وبلا مصدر. دائما هناك مصدر. والمقطوعات التي من تأليف إيليني، أتصرف فيها كما أشاء.

* للموسيقى في أفلامي صفة مميزة وخاصة جدا. لها ضرب من الخاصية الاستحواذية، المتصلة على نحو صارم بالسمة المحددة.

البطل في "رحلة إلى كيثيرا" يستيقظ في الصباح ويدير مؤشر مذياعه ليصغي إلى مقطوعة موسيقية. في ذلك الحين، كنت –على نحو خاص- مغرماً  بكونشرتو فيفالدي على آلتيّ المندولين، التي بالنسبة لي هي مثال للكمال.

جلست مع إيليني نصغي إلى هذه الموسيقى، وقلت لها إنني أرغب في شيء مشابه لهذه الكونشرتو، تحمل طابع وروح فيفالدي. وهي ألّفت الموسيقى التي تسمعها الشخصية في الصباح. في ما بعد، هذه الثيمة نفسها تتغيّر، تتحول إلى جاز، إلى أغنية شعبية، إلى عمل منفرد على الفيولين، منتحلة خصوصية الحالات التي تمرّ بها الشخصية.

الثيمة الثانية متصلة بالأب، الذي جذوره الفلاحية تتجسد في الموسيقى التي تصاحب المشهد الذي فيه هو يرقص تكريماً لقبور الرفاق الذين تركهم وراءه عندما غادر البلاد إلى المنفى. المقطوعة الموسيقية الختامية توحّد الثيمتين معا، ثيمة الابن وثيمة الأب، في نوع من كونشرتو الكمان، نسمعها فيما الرجل العجوز (الأب) وزوجته يبتعدان في البحر.

* علاقتي بإيليني حميمة جدا. في البداية، أسرد لها قصة الفيلم، وهي تسجل ما أقول على آلة تسجيل. هي لا ترغب في قراءة السيناريو، تلح على سماع صوتي، والتغيّرات التي تطرأ في نبرات ومقام الصوت، وأنا أسرد القصة.

الغريب أن هذا هو ما أطلبه من جميع الممثلين المشاركين في أفلامي. ليس السيناريو ما ينبغي التآلف معه، وتعويد أنفسهم عليه، بل تأويلي للسيناريو. ذلك على الأرجح لأنني عندما أسرد القصة فإنني لا أفعل ذلك في تسلسل طولي ومنطقي. إني أحاول أن أخلق مناخا ملائما لها. الكلمات التي أختارها للتعبير عن أفكاري، بناء الجمل، تركيب المقاطع، لحظات الصمت.. كل هذا يؤسس اتصالا مباشرا بيني والمستمعين إليّ، شيئاً لا يمكن الحصول عليه بقراءة السيناريو.

إن إيليني، بعد تسجيل صوتي، تذهب إلى بيتها وتصغي إلى الشريط، ثم ترتجل. بعدئذ نلتقي ثانية. هي تجلس أمام البيانو وتعزف ثيمات متنوعة، وأنا أصغي، وعندما يعلق شيء ما بأذني، أسأل عما إذا بوسعها أن تعيد المقطع الموسيقي الذي عزفته للتو، لكن بحيث تغيّره من السلّم الكبير إلى السلّم الثانوي، وأن تجرّب إيقاعا مختلفا.. وهكذا.

عندما نجد المقطع الرئيسي الذي أحتاجه، نشعر معا بأننا على المسار الصحيح. في "الأبد ويوم واحد"، مثلا، طلبت منها أن لا تؤلف مقطوعة حزينة ، على الرغم من واقع أن ذلك قد يكون الخيار الواضح لفيلم يدور حول شخص يواجه احتمال الموت. لكن في رأيي، الفيلم هو تقريبا دعوة إلى الحياة.

إيليني كانت قد ألّفت موسيقى حزينة جدا، ربما بسبب حالتها الذهنية الخاصة، فوالدها كان قد توفي قبل فترة قصيرة. لكن ذلك لم يكن أبدا ما أبحث عنه. أخبرتها بأن ما ألّفته جميل، لكن ليس مناسباً لي. هي حاولت بإلحاح أن تقنعني، إلا أنني لم أغيّر رأيي. عندئذ أخبرتني بأنها ارتجلت بعض الثيمات التي لم تجدها مثيرة للاهتمام. وعندما شرعت في العزف، قلت لها على الفور: هذا هو المطلوب.

ذلك كان المقطع الأساسي لكل موسيقى الفيلم. حالما اتفقنا على الثيمات، حتى طلبت منها تقديم تنويعات على آلات موسيقية معينة.. آلات يتوجب علينا الاتفاق بشأنها سلفا.   

استخدام آلة الأكورديون لفيلم "تحديقة يوليسيس" كان بطلب خاص مني. هذه الآلة تمثّل، بالنسبة لي، المناخ الموسيقي لهذا الجزء من العالم. إنها الآلة التي تسمعها خلال رحلة تمثال لينين عبر الدانوب. مرّة واحدة فقط اختارت إيليني شيئاً خاصا بها، وحتى الآن لست واثقا تماماً ما إذا كانت مصيبة أم لا.. فقد قررت أن تستخدم ساكسفون يان جاربارك لفيلم "مربي النحل". كنت راضيا عن الموسيقى، لكنني كنت أتساءل عما إذا كانت هناك حلول أخرى، ذلك لأنني شعرت بشيء من القلق، الإحساس أحيانا بأن الموسيقى ليست متحدة أو مندمجة على نحو وافٍ في الصورة.

* إني أحاول أن أحقق نوعا من الحساسية الموسيقية، أن أعطي السيناريو شكل المقطوعة الموسيقية. المؤثرات الصوتية ليست عرَضية أو غير مقصودة، إنها تتبع إيقاعات معينة في علاقة بعضها ببعض.

(من مصادر متنوعة)

الوطن البحرينية في

09.02.2009

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004