أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

ســـينــمـــا الرعــب.. تجســيـــد المــخــاوف

بقلم: أمين صالح

يشعر الإنسان بالرعب عندما يعيش في عالم لا عقلاني، مضطرب، عنيف، لا يوفر الأمان. عندما يجد نفسه محاصراً داخل دائرة من التناحرات والصراعات بمختلف أشكالها، والتي هي من صنع الإنسان نفسه، أو وسط سلسلة من الكوارث والأوبئة والأمراض التي لا يستطيع أن يتنبأ بها، والتي تهاجمه بغتة دون أن يتوقعها ودون أن يتمكن من صدّها ومقاومتها. الإنسان يشعر بأنه مهدّد باستمرار، إن لم يكن من محيطه ومجتمعه فمن ذاته التي لا تمتلك حصانة كافية، وقد تدفعها الضغوطات والكوابح إلى اليأس والشلل أو الجنون. وكإجراء دفاعي أخير يُظهر ردود فعل تدميرية ضد الآخرين وذاته معاً. هو يحس دائماً بالخوف والشك، يعاني من فقدان الأمان، ينظر إلى المستقبل كشيء أو كمفهوم مبهم وغائم لأنه لا يعرف ماذا سيحدث في اللحظة التالية. وتأتي الحروب والمجاعات والكوارث لتعزّز المخاوف الفردية والجماعية. الخوف غريزة قوية وفعالة. إنه متأصل في الإنسان وتمتد جذوره إلى الطفولة حيث تُختبر، للمرة الأولى، مشاعر الإثم والارتياب عبر سلسلة لا تنتهي من المحرّمات والمحظورات والكوابح، وما يرافقها من تخويف وتهديد بالعقاب في أشكال مادية وميتافيزيقية تتّخذ من الخرافة مرجعاً. من هنا تنشأ العلاقة - المتسمة بالحذر والرهبة والارتياب - بين الطفل وواقعه، خصوصاً في مظاهر الرعب الموجودة في محيطه أو تلك الموجودة خارج نطاق إدراكه كقوى خفية تراقبه وتتربّص به دون أن يراها، منتظرة الهجوم عليه ما إن يرتكب إثماً أو فعلاً غير مقبول. لأن المخاوف بحاجة إلى متنفس ومنافذ كي يتمكن المرء من اختبارها ومواجهتها، أو تهدئتها أو قهرها، فإن الوسائط التي تلبي هذه الحاجة نجدها في الحكاية الخرافية والميثولوجيا والقصص المرعبة وأفلام الرعب.  إن ولع الطفل بالحكايات الخرافية نابع أساساً من توفيرها لهذه الحاجة، فهي في جوهرها حكايات مرعبة لكنها مموّهة من طريق الدعابة وأجواء المغامرات والتخيلات الطفولية والمغزى الأخلاقي، إذ نجد فيها كل مظاهر وعناصر الرعب: السحر، الأشباح، الغيلان، الوحوش، الانمساخ والتحوّل، القوى الخارقة والخفية. حكايات ألف ليلة وليلة أيضاً حافلة بالرعب. المجهول هو المصدر الأساسي للخوف. المجهول الكامن في المحيط، المتنكر في أكثر من هيئة، أو ذاك المتجذر في اللاوعي الجماعي من خلال القصص الدينية والأساطير والخرافة والفولكلور، أو المجهول الكامن في أعماق الذات متمثلاً في الطاقات اللاشعورية التي غذّتها شتى أشكال الكبت والكبح، والتي تنتظر الفرصة للانفجار والتعبير عن نفسها بأكثر الطرق عنفاً وتدميرية. إن قصص وأفلام الرعب تستغل هذا الخوف من المجهول، وتظهره بأشكال مختلفة ومظاهر متعددة. المسوخ والحيوانات المتوحشة والمجانين القتلة ومصاصو الدماء ومخلوقات الفضاء، وغير ذلك من الكائنات التي تقطن عوالم القصص والأفلام المرعبة، ما هي إلا انعكاسات لمخاوفنا وتناقضاتنا وصراعاتنا. المسخ، أو أي مخلوق آخر عدائي ومهدّد، قد يمثّل - عبر التحليل السيكولوجي - الطاقة الغريزية في اللاوعي، أو الذات الأخرى المقموعة من قبل أعراف المجتمع ومؤسساته، هذه الذات التي تحاول الانعتاق من أسر هذه الأعراف والقيم والتعاليم، وفي الوقت ذاته تسعى إلى تدميرها. من جهة أخرى، يجسّد المسخ - أو غيره - ذلك الخوف غير المبرّر أو اللاعقلاني المتواري في الأعماق، والذي ينعكس في صورة غريبة، بشعة، وغير سويّة. في أحد جوانبها، وكتأويل محتمل، يمكن النظر إلى أفلام الرعب كتمثيل طقسي للرغبات المكبوتة. أفلام الرعب تماثل الكوابيس في أجوائها وصورها، لكنها تختلف في البناء الذي - في الفيلم - يتّبع نظاماً عقلانياً خاضعاً للتحكم والتنظيم والتنسيق. إننا نجد الخاصيات ذاتها (في الرعب السينمائي وفي الكابوس) حيث انعدام الحصانة، قابلية الوقوع في الشَرَك، الشعور بالفزع، العجز التام إزاء قوى غير مفهومة لكن عدوانية وباطشة. سينما الرعب، بالأحرى، تجسّد الكوابيس الجماعية، وتعيد إلى الوعي ما كان مكبوحاً. إن أساس اهتمام وافتتان الجمهور بأفلام الرعب - كما يقول الناقد والباحث روبن وود - أنها تحقّق الرغبة الكابوسية في تحطيم المعايير التي تقمعنا. الحالة السويّة (بمعنى الامتثال إلى المعايير الاجتماعية السائدة) تتمثّل في العائلة، المؤسسات الاجتماعية والدينية، النظام برموزه وأجهزته. هذه الجهات تتعرض دوماً للتهديد ومحاولات الانتهاك والاختراق من قِبل الآخر، غير السوي، الذي يتمثّل في كل ما هو فوضوي وعدواني وغير ممتثل، والذي يتجسّد في أشكال وهيئات مختلفة: كالمسوخ، مصاصي الدماء، الحيوانات والطيور والكائنات المائية، الممسوسين، المجانين.. الخ. بالنتيجة، هناك دائماً ذلك الصراع بين السويّ والآخر، الخير والشر، النظام والفوضى، الطهارة والدنس، الاكتفاء والشبق، الوعي واللاوعي، الضوء والظلام، الحياة والموت. الهجوم على الحالة السويّة، برموزها ومظاهرها ومعطياتها، تضفي على سينما الرعب خاصية تدميرية استثنائية، وبعداً ثورياً قلما نجده في أنواع أخرى من السينما. وعند إخضاع هذه الأفلام - كمادة وشخصيات وعلاقات - للتحليل النفسي، سنصادف ثيمات ذات دلالة سيكولوجية تتصل بالتابو الجنسي والديني. إن سينما الرعب تخترق الحدود وتهدمها، تصل الواقع والخرافة، الحقيقة والوهم، الممكن والمستحيل، المرئي واللامرئي، الحياة والموت، الحاضر والتاريخ.. هنا لا تخوم ولا حواجز. يرتاد الجمهور أفلام الرعب من أجل اختبار مشاعر الخوف والصدمة. الأفلام، كما أشرنا، هي مثل الحكايات الخرافية، وسيلة تنفيس للخوف الكامن. من طريق المشاهدة أيضاً يحصل المتفرج على قدر كبير من الإثارة المتصلة باللذّة، والتي تشبه لذّة الطفل الذي تتجاذبه مشاعر الإثارة والرعب فيما يصغي بشغف إلى حكاية خرافية. الملاحظ أن أفلام الرعب تنتعش وتزدهر، وتلقى رواجاً شعبياً، في الفترات العصيبة التي تختنق بالأزمات والمواجهات الحادة، وتكون الكوارث بمختلف أشكالها محتملة ووشيكة الحدوث. عندئذ يكون هناك إحساس عام بالشلل والعجز والقلق، ولا يجد الجمهور تعبيراً عن مخاوفهم وهواجسهم إلا في أفلام الرعب التي تعيد تمثيل الكابوس الحقيقي في حالات متخيلة. إذا كان الجمهور يقبل على هذه الأفلام ويدعمها، فإن أغلب النقاد ينظرون إليها في استخفاف وازدراء وسخرية، أو يتجاهلونها ويرفضونها باعتبارها تافهة ومبتذلة ومقرفة. إن قلةً من النقاد تناولوا هذه السينما بالدراسة والتحليل من موقع الاحترام والتقدير، ووجدوا فيها مظاهر وعناصر وخاصيات جديرة بالتأمل، واكتشفوا صلات قوية بين الثيمات المطروحة في هذه الأفلام والقضايا المدروسة في علم النفس والاجتماع. من بين الكم الهائل من أفلام الرعب التجارية، ذات الموضوعات المتكررة المضجرة، المصنوعة على عجل تلبية لمتطلبات سوق استهلاكية، والتي تفتقر إلى الأصالة والجدّة، ولا تحمل قيمة فنية أو فكرية، وسط كل هذا تبرز أفلام جادة تحمل دلالات ومعان سيكولوجية وفلسفية، قابلة للعديد من التأويلات الاجتماعية والسياسية. أفلام مثل: سايكو (هتشكوك)، نفور (بولانسكي)، الشياطين (كلوزو)، الأبرياء (جاك كلايتون)، اللمعان (ستانلي كوبريك).. هي أفلام راقية، مصقولة فنياً، ذات رؤية خاصة وأسلوب مبتكر، تطرح موضوعات مركّبة تحتمل وجهات نظر متعددة ومتباينة. إنها غير موجهة لإخافة الجمهور أو إثارته لغايات مجرّدة، بل إنها تعالج قضايا مهمة ومقلقة بشأن الذات والآخر والمكبوت. استجابة الجمهور لأفلام الرعب هي مزدوجة: إنه يشعر تجاهها بالرعب والافتتان في آن. الحس الأخلاقي والمعايير الاجتماعية تجعله يشعر بالفزع والنفور من بشاعة المسخ، مثلاً، وما يمارسه من شرور، في حين يتعاطف، بل ويتماهى، مع ذلك الجزء الكامن في الذات والذي ينظر إلى أفعال المسخ كانعكاس للرغبة الدفينة في تحطيم ما هو كابح وقمعي. أذواق الجمهور تتغيّر مع تغيّر الزمن وتحوّل المجتمع. فما كان مثيراً ومرعباً في مرحلة معينة قد لا يعود كذلك في مرحلة تالية. ولأن السينما باستمرار تلبّي رغبة الجمهور وتراعي ذوقه ومتطلباته، فإنها تسعى دائماً إلى ابتكار ما هو جديد ومختلف وصادم. في أفلام الرعب، التفسيرات لما هو خارق وعجائبي من الأحداث والكائنات تقدّم في حدود ضيقة لا تشبع الفضول بل تضاعف الغموض، وتخضع المادة لتأويلات متباينة. الأفراد يتوارون خلف الأقنعة، الأشياء لا تبدو على حقيقتها، المظاهر تبدو خادعة ومضللة. تحت السطح الخارجي الهادئ ثمة مظهر آخر، سرّي وخفي ومهدّد. لا أحد قادر أن يتحكم في مصيره وفي ما يحدث.. لا الآخر العدواني ولا الضحايا. والجنس البشري يمضي بلا حوْل، وعلى نحو متعذر اجتنابه، صوب التشوّش والفوضى الشاملة.

الوطن البحرينية في

02.03.2009

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004