أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

حديث: ثيو أنجيلوبولوس

سياسة ذات رؤية.. بين عصر يموت وآخر يولد

ترجمة: أمين صالح

أظن أننا قد بلغنا نهاية قرن حزين جدا.

في بداية هذا القرن، كان هناك الكثير من الآمال والأحلام.. الأمل بقدوم عالم أفضل، بتحقق العدالة للجميع، بالتوصل إلى تفاهم أشمل بين شعوب العالم. لكن عندما تنظر حواليك اليوم، ترى حدودا وتخوما وحواجز أكثر من ذي قبل. ولم يتوصل البشر إلى أي تفاهم مشترك من أي نوع.

على المستوى التقني، وسائل الاتصال بلغت درجات هائلة من التطور، وكان من المفترض أن تحدث اختلافا كبيرا، غير أني أخشى أنه مجرد مفهوم زائف، فكرة خيالية. الاتصال الحقيقي لا يكاد يوجد إلا في أحوال نادرة جدا.

رؤية العالم من غير تخوم، هي على الأرجح فكرة مثالية، طوباوية. لكن، ربما أكون حالما، ذلك لأني أعتقد أن المثالية وحدها قادرة أن تغيّر العالم، وتقوده إلى الأمام.

*  *  *

الهجرة والشتات، لاجئون مطرودون من أوطانهم يعبرون الحدود ويلتمسون المأوى والحماية.. هذه هي من بين أكثر القضايا الاجتماعية التهابا في زمننا.

هذا فضلا عن إفلاس المُثُل العليا القديمة، أو غياب المرجع الأخلاقي الذي يمكن أن يقدم باعثا خفيا أو هدفا لهؤلاء النازحين.

*  *  *

يستحيل علينا أن نفهم لماذا، في نهاية القرن العشرين، يقتل بعضنا البعض. هل يهتم السياسيون المحترفون حقا؟

العديد من الأمم، وبينها اليونان، تتسلق على أجساد القتلى من الأبرياء، وهذا ما حدث مؤخرا في اليونان. إني أشير إلى ذبح الألبان الذين رغبوا في مغادرة الوطن، من أجل مصالح سياسية.

أنا أنشد سياسة جديدة في العالم ذات رؤية. هذا سوف لن يكون مسألة بسيطة من مسائل التوازن الاقتصادي والعسكري. لابد أن يكون شكلا جديدا من أشكال الاتصال بين الشعوب.

*  *  *

المشكلات في دول البلقان معقدة بصورة خاصة لأنها تعود إلى سنوات طويلة عندما خضعت القبائل السلافية العديدة لحكم الإمبراطورية العثمانية في القرن الرابع عشر. لم تكن هناك حدود في الإمبراطورية، لكن كانت هناك حروب كثيرة، ليس بسبب النزاع العرقي بل من أجل الاستيلاء على الأرض ومن أجل الطعام. بعد ذلك، ومع انتقال أجزاء من الإقليم من الأتراك المسلمين إلى الإمبراطورية النمساوية – الهنغارية التي كانت كاثوليكية، ومع انتشار أفكار الثورة الفرنسية، فإن الشعوب – من يونانيين وصرب وبلغاريين وغيرهم – والذين كانوا يشكّلون خليطا من الأجناس، راحت تتعارك في ما بينها لأسباب دينية وعرقية. إذن هي قصة قديمة جدا.

*  *  *

من السهل تفسير اهتمامي بالسياسة وبالوضع في دول البلقان. أنظر إلى تاريخ هذا القرن وسوف تلاحظ بأن الحادثة الهامة الأولى وقعت في سراييفو (التي أشعلت الحرب العالمية الأولى). والآن، فيما نقترب من نهاية القرن، نكون مرّة أخرى في سراييفو. هذا يبرهن إلى أي مدى نحن أخفقنا جميعا.

بالعيش في البلقان، من الطبيعي أن أكون أكثر قربا من الأحداث وأكثر اهتماما من سائر أوروبا.

*  *  *

أوروبا متحدة هي أملنا الوحيد للإفلات من الشوفينية وما تفرزه من حقد وعدوانية. الآن يبدو أن أوروبا صارت قريبة من تحقق حلمها بأن تصبح كينونة اقتصادية واحدة، لكنها بعيدة عن فكرة الكينونة السياسية الواحدة. بدون هذه الوحدة السياسية لا يمكن للوحدة الاقتصادية أن تستمر.

*  *  *

إنه زمن صعب جدا بالنسبة للفنانين والكتّاب في دول البلقان اليوم. لا أحد يريد أن يصغي. لا أحد. مع القتل والحروب والصراعات والمشاكل. لا أحد يستطيع أن يصغي. والفن، الفن الحقيقي، يتطلّب إصغاءً. إذن في غمرة كل هذا، ما الذي عليّ أن أفعله؟ ببساطة، أستطيع أن أحقق أفلاما لأولئك الذين يقدّرون عملي.

*  *  *

في التعامل مع التخوم، الحدود، امتزاج أو اختلاط اللغات والثقافات اليوم، اللاجئين الذين هم بلا وطن وغير مرغوب فيهم، أحاول أن أبحث عن حركة إنسانية جديدة، عن وسيلة جديدة.

*  *  *

أشعر أن كل هذا – التطهير العرقي، التدمير، الحروب الأهلية، كل شيء – يُظهر لنا أن هناك خواءً في أوروبا الوسطى الآن، وفي دول البلقان تحديدا. إن عصراً يموت وعصراً آخر على وشك أن يولد. نحن "في الوسط" تماما. كلنا هنا. الناس يحتاجون إلى حس أو وعي جديد بالمجتمع، بالسياسة، بالمعتقدات. النعوت القديمة – يسار، يمين، شيوعي، اشتراكي، الخ – كلها قد انتهت. أنا لا أعرف ما الذي سيحدث الآن. لكن عهداً جديداً قد بدأ. الحدود، المواقف، العلاقات، الأمم.. كلها سوف تتغير.

*  *  *

أعتقد أن أمورا كثيرة قد تغيّرت من حولنا خلال السنوات التي حققت فيها أفلاما. سابقا، في "الإسكندر الأعظم" حاولت أن أصور مناضلا من أجل الحرية يتحول إلى طاغية مستبد. شعرت أن كل ما كنا نؤمن به يتغيّر ما إن نصل إلى السلطة. الفيلم كان تأملا في فكرتين: السلطة والمِلكية. إنهما يفسدان كل أولئك الذين ربما كانوا اشتراكيين مثاليين مخلصين.

لقد كنت أراقب كل الأمور التي تحدث في ظل النظم الاشتراكية. لم أستطع أن أمنع نفسي من ملاحظة التحولات التي تحدث لكل أولئك الأفراد الذين كانوا وراء أحداث مايو 1968. كل المُثُل العليا التي امتلكناها ذات مرّة قد انحرفت وتشوهت وتلاشت.

فيلمي الأول الذي نقل التاريخ من المقدمة إلى الخلفية كان "رحلة إلى كيثيرا".. هذا الفيلم الذي يتعامل مع أفراد كانوا يؤمنون ذات مرّة بالمنظور التاريخي والتغيير السياسي، فقط ليكتشفوا بعد ثلاثين سنة، وبعد أن ضحّوا عمليا بكل ما كانوا يملكونه من أجل الثورة، أنهم مرفوضون وغير مرغوب فيهم. إنها أوديسة سياسية تنتهي مع الرجل العجوز، البطل الذي حلم ذات مرّة بتغيير العالم، وزوجته، الوحيدة التي بقيت إلى جواره بعد أن تخلى عنه الجميع، وهما فوق طوف ينساق على مياه البحر.

تمثال لينين المفكك وهو ينجرف طافيا على سطح الدانوب في "تحديقة يوليسيس" يمثّل، بالنسبة لي، نهاية فصل في التاريخ الحديث. لسنوات عديدة، كان هناك اعتقاد قوي بأن العالم يمكن، بل وينبغي، أن يتغيّر إلى الأفضل. وغالبا ما يتم استخدام وسائل عنيفة، من كلا الجانبين، في محاولة لسحق أولئك الذين يحاولون إحداث هذه التغييرات.

طبيعة هذه التغييرات أضحت جلية في تلك الأقطار التي عاشت لعقود عديدة في ظل النظام الشيوعي. جيلي قد تأذى بقسوة نتيجة هذا الصراع العنيف. وقد عشنا في اليونان حربا أهلية خلّفت وراءها بلدا مدمرا.. ماديا وروحيا معا.

*  *  *

أفلامي هي عن معضلات السلطة. وهذه الأفلام هي سياسية بقدر ما تكون تلك المعضلات سياسية.

في ظل حكم الكولونيلات كان هناك تناقض واضح. كان ثمة التحام وتماسك أكثر بين الأفراد الذين قاوموا، تماسك وارتباط أكثر في وسط اليسار، بينما الآن نجد الكل مبعثر، متفرق، وفي حالة من التشوش.

*  *  *

أنا وآخرون بحثنا في جذور الحكم العسكري الدكتاتوري عبر التاريخ، المواقف، التحوّل الاجتماعي والسياسي.

من بعض النواحي، الدكتاتورية كانت مصدر إلهام لي.. لو لم توجد، لكنت قد حققت أفلاما مختلفة جدا. هذا أيضا ينطبق على الكثير من الأفلام الجيدة التي أنتجت في أمريكا خلال سنوات المكارثية.

*  *  *

هناك أنواع مختلفة من الأفلام لمن يرغب في مشاهدتها، لكن لا وجود للأفلام التي تُظهر بصدق ما يحدث من حولنا، خصوصا في هذا الجزء من أوروبا. إن جانبا مما أرغب في عرضه هو أن حياة كل فرد – أفكاره، أعماله، حتى حالاته العاطفية الحميمية، كل شيء – يتأثر بهذه المشكلات الرهيبة التي نواجهها والتي هي أكبر منا. إن ما يحدث "في الجو" من حولنا، يتحكّم بنا ويحددنا. وأنا أرغب في الإمساك بشيء من الانقباضية والسوداوية التي نشعرها اليوم ونحن محاطون بالجريمة هنا وهناك، وبالكوارث عموما.

*  *  *

المشكلة أن الفيلم التركي، مثلا، مطالب بأن يكون محليا في لغته واهتماماته، وأن الفيلم الفرنسي ينبغي أن يكون فرنسيا في لغته واهتماماته.

أفلام جون فورد "الويسترن" هي جزء من أمريكا والغرب، لكن صوته الجلي والمتميز يخاطب كل شخص وفي كل مكان عبر مناظره وشخصياته. بالتالي فإن أفلامه تعني للجمهور في كل مكان أكثر مما تعنيه الأفلام الأمريكية التي تحاول أن تكون أوروبية.

*  *  *

لست عضوا في أي حزب سياسي، لأني أجد اليسار في اليونان يتكلم الآن بلغة ميتة.

*  *  *

طالما أعيش في اليونان، فإني أعتبر نفسي كائنا غير سياسي. فقط حين أذهب إلى باريس، أختار، بوعي، أن أنضم إلى اليسار.

بالطبع، في الخمسينيات، شاركت في مختلف المظاهرات الطلابية، التي كانت تطرح شعارات عديدة ومختلفة. على سبيل المثال، شاركت مرّة في مظاهرة لدعم قبرص. لكن وقتذاك لم أكن أمتلك وعيا سياسيا. وكلما اندلع عراك في حرم الجامعة بين الطلبة اليساريين واليمينيين، نأيت بنفسي متجنبا أي تدخّل.

*  *  *

لقد انطلقت من موقع اليسار، لكنني رأيت الأمور تمضي في ذلك الاتجاه الذي يخون أحلام شبابي.. في النظرية والتطبيق معا. كنت أؤمن بالسياسة. الآن، فقدت إيماني بها.

*  *  *

لقد عشت مرحلة من خيبة الأمل السياسية الحادة. أعلم أننا جميعا كابدنا ذلك، لكنني كنت موسوماً به على نحو جدّي وخطير. كان ذلك ربما الصدمة الأقوى التي اختبرتها.

*  *  *

في أيام الدكتاتورية، الجهات الرسمية وافقت على منحي ترخيصا بالتصوير في مبنى البرلمان القديم، في حين لا أستطيع اليوم على الحصول على تصريح كهذا.

*  *  *

لزمن طويل اعتدنا أن نؤمن بأن السياسة ليست مهنة، بل هي عقيدة، إيمان، مثال أعلى.. لكن في السنوات الأخيرة صرت مقتنعا بأن السياسة ليست أكثر من مجرد مهنة، كغيرها من المهن الأخرى.. ذلك كل شيء.

*  *  *

هناك دوما تأويل سياسي لكل شيء، لكن لا ينبغي للمرء أن يبالغ في ذلك.

*  *  *

إن فوضى الأيديولوجيات قد أدت إلى دفع الطرائق المختلفة، التي اعتدنا أن نفسّر بها العالم، إلى خلفية الصورة.

في بداية انخراطي بالفن، كان ماركس وفرويد لا يزالان من الرموز الأساسية، تماما مثل هيجل ولينين، والمرء بالطبع سوف يستخدم تعاليمهم لرصد العالم. إن تجاربنا العقائدية المريرة، الوحشية جدا، في تاريخ اليونان الراهن، قد شجعتنا على توظيف الديالكتيك من أجل حل شفرة كل الظواهر الاجتماعية والجمالية من حولنا بإيجاز. كان لدينا إحساس بأن الواقع يؤكد النظرية، وأن النظرية والممارسة هما متوافقان.

إننا نتطلّع إلى طرائق جديدة، ويخامرني شعور بأننا نعود إلى ضرب من الوجودية. الفن، مرّة أخرى، يعتبر الإنسان حقيقة الكون المركزية أو غاية الكون القصوى.. وهناك من الأسئلة أكثر مما لدينا من أجوبة.

*  *  *

العالم أضحى رقعة شطرنج، والتي عليها الإنسان مجرد بيدق آخر، وفرصته لإحداث تأثير على الأحداث هي ضئيلة وتافهة.

*  *  *

السياسة لعبة متشائمة وساخرة، أدارت ظهرها لتعهدات الماضي. هذا لا يعني بالضرورة أن علينا العودة إلى البطل بالمعنى البدائي للكلمة، لكن على الأقل إلى القصة التي تضع الإنسان في المركز. إنها ليست عودة إلى السيكولوجيا، لكن الانتقال من عموميات الملاحم البطولية إلى سينما شخصية أكثر، والتي فيها يستجوب المخرج ذاته وفنه.

*  *  *

إذا أردت أن تتحدث معي في السياسة فيتعيّن عليّ أن أخبرك بأن فهمي يتناقص، وفي النهاية لا أعود أفهم شيئا. أظن هذه الحالة تنطبق على أغلب الناس. لكن إذا أردت أن تتحدث معي عن العلاقات الإنسانية، فلا يوجد هناك ما ينبغي فهمه أو عدم فهمه. الأشياء تظل على حالها. وعليك أن تقبل العلاقات الإنسانية كما هي وبكل ما تحمله من نقائض ولحظات فرح ولحظات ألم. الشيء الوحيد الذي تتعلمه، على الأرجح، هو الندم على أنك في لحظات معينة لم تدع نفسك تنطلق أكثر.

*  *  *

إن المعركة هي دائما معركة الذات، الذات ضد كل ما هو جائر ومتقلب. يجب على الفرد أن يحارب دائما ضد كل شيء في هذه الحياة، لأن هناك الوهم بأن ثمة معنى، هدفا. لكن ليس هناك أي معنى، أي نفع. المعركة هي الحياة نفسها. أنا لم أعد أتعامل مع السياسة، مع التعميمات.. لقد توقفت عن فهمها.

*  *  *

شخصياتي ليست خاضعة للتحليل، ليست معذّبة، مثل شخصيات بيرجمان. إنها كائنات بشرية أكثر: هي تبحث عن أشياء مفقودة، كل ذلك الفقد في التمزق بين الرغبة والواقع.

حتى وقت ليس ببعيد جدا، كان تاريخ العالم مبنيا على الرغبة، الرغبة في تغيير العالم بطريقة أو بأخرى. الآن، مع نهاية القرن، نحن ندرك أن كل ما كان مرغوبا لم يتحقق أبدا، وهو لم يتحقق لأسباب أعجز عن شرحها أو تعليلها. ربما كان من المستحيل تغيير الأشياء باستخدام الطرائق المحددة التي تم توظيفها في ذلك الحين.

على أية حال، نحن متروكون مع تجربة إخفاقنا، مع خيبة أملنا في الأحلام التي لم تتجسد أبدا.

*  *  *

نحن الآن نعيش مرحلة تاريخية هامة، منتظرين أن يتغيّر العالم لكننا لا نملك أية فكرة عن كيفية حدوث ذلك ومتى. على أية حال،  شيء ما ينبغي أن يحدث لانتشالنا من الحالة التي نتمرّغ فيها.

*  *  *

دوما كانت هناك ثغرات كبيرة، واسعة، في تاريخ البشرية، مراحل من الصمت العميق الذي يصعب فهمه. نحن الآن نعيش مثل هذه المرحلة، وهذا الصمت يمكن أن يسبّب ذعرا.

(من مصادر متنوعة)

الوطن البحرينية في

05.02.2009

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004