أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الوطن البحرينية

أنجيلوبولوس والسياسة..

إشكالية الشكل والمحتوى

بقلم: أمين صالح

في الماضي، تحديدا في سنوات الشباب، كان أنجيلوبولوس متصلا بالفكر الماركسي في رؤيته وتحليله للواقع اليوناني وقضاياه. لكن التاريخ المقدم في أفلامه يتحدى أي رسالة سياسية بسيطة أو تعليمية. بالتأكيد يمكن قراءة ما قدمه من موضوعات تاريخية – خصوصا الحرب الأهلية اليونانية - على أساس أنها انحياز صريح إلى القوى التقدمية، وباعتبارها تخدم مصالح اليسار اليوناني.. مع ذلك، فإن دمج أنجيلوبولوس للمستويات الأسطورية والثقافية، وحتى الروحية، من التجربة اليونانية، يوحي بأن التاريخ والزمن قد خضعا لاستجواب واستنطاق خارج التخوم المعتادة للسرد الخطي والمفاهيم التقليدية لما هو تاريخي.

إنه لأمر ذي دلالة أن يكون وعي أنجيلوبولوس قد تشكّل أثناء سنوات الستينيات في اليونان، عندما كانت البلاد تختبر ليس فقط ثقافة الستينيات لكن أيضا الاضطراب السياسي الذي أدى إلى سيطرة الكولونيلات على البلاد في العام 1967. وهو يؤرخ "تربيته السياسية" من لحظة تعرّضه للضرب بالهراوة في مظاهرة يسارية نظمت في 1964.

لا شك أن عمله لثلاث سنوات كصحفي، ولفترة وجيزة، كناقد سينمائي في صحيفة يسارية، قد أتاح له فرصة الانفتاح على قضايا مجتمعه، واستقصاء عدد من القضايا التاريخية.

من المهم التذكير هنا بأن أنجيلوبولوس بدأ تحقيق الأفلام في ظل الحكم الدكتاتوري (67- 1975) مع وجود رقابة قمعية وصارمة جدا. في أبريل 1967 جاءت دكتاتورية بابادوبولوس التي فرضت رقابة مشدّدة أدت إلى هجرة العديد من السينمائيين، ذوي الخلفية السياسية اليسارية، خارج البلاد، ومن بقي لم يستطع إكمال مشروعه. لكن مع حلول 1970، خففت الدكتاتورية من قيودها الرقابية إلى حد يكفي لمجموعة صغيرة من المخرجين الموهوبين أن يحققوا أفلامهم، وكان من بينهم أنجيلوبولوس الذي استطاع أن يحقق فيلمه الأول "إعادة بناء" في 1970.

وهو يعزو الفضل إلى الحكم العسكري الدكتاتوري، بوصفه الحدث السياسي المقلق، الذي أجبره هو والعديد من اليونانيين الشبان في فترة الستينيات على إعادة النظر أو التفكير في التاريخ والثقافة اليونانيتين. بالنسبة لأنجيلوبولوس، فإن كشف النقاب عن الحقائق التاريخية أمام عيون الأبرياء هو الدور الرئيسي للأفلام السياسية.

في الستينيات، دار جدل واسع وعنيف بين يسار الوسط السينمائي حول كيفية تقديم القضايا السياسية، بشكل أفضل، على الشاشة.  كان هناك اتجاه يفضّل أن يقترن المضمون الراديكالي بأشكال شعبية، حيث سوف يسهّل هذا حرية وصول الأفلام إلى الجمهور الأوسع. بدلا من استخدام أساليب سينمائية إشكالية تتنافس مع المحتوى الراديكالي في إثارة الاهتمام، فإن الشكل الشعبي سوف يكون الخيار الأفضل الذي يخدم هذا المحتوى.

في تعارض مع هذه الإستراتيجية، التي تميل إلى توصيل البعد السياسي من خلال توظيف الأنواع الترفيهية، كان هناك من يرى أن المحتوى الراديكالي لا يمكن أن يخدمه، بصدق وأمانة، إلا شكل رافض لتقاليد الوسط السائدة مثلما هو رافض لأيديولوجيتها. إن جماهير الطبقة العاملة، خصوصا، تحتاج أن يتم التعامل معها بطرائق جديدة في الرؤية لا أن يتم تهدئتها أو استرضائها بامتيازات أنواع تجارية مألوفة..(كما فعل كوستا جافراس منذ فيلمه Z )  

مع مرور الوقت، وتغيّر الأحوال السياسية في اليونان ودول أوروبا كلها، فإن المفاهيم الحادة والصارمة التي تتصل بمسألة التعارضات بين الخير والشر، الصواب والخطأ، اليمين واليسار، قد صارت مغزوّة من قِبل مناطق فسيحة من اللون الرمادي. لقد توصّل إلى قبول حقيقة أن السلطة لا تفسد اليمين فحسب بل اليسار أيضا.. وقد حقّق "الإسكندر الأعظم" ليعرض الخطر الذي يتهدد تحويل أي سلطة أو قوة أخرى، بصرف النظر عن مدى نبل أهدافها الأوليّة، إلى حكم استبدادي مطلق.

إن سحق الواقع لحلمه بتغيير العالم قد سبّب له الكثير من المرارة وخيبة الأمل. أولئك الذين آمنوا بالتغيير، بالثورة، مثله، دفعوا ثمنا باهظا من أجل مثل عليا لم تتحقق أبدا.

منذ ذلك الحين، هو يلمّح، المرّة تلو الأخرى، في العديد من مقابلاته، إلى أن السياسة قد أدارت ظهرها إلى التزامات الماضي،  وصارت لعبة مغلّفة بالشك والتشاؤم. السياسة التي كانت، ذات مرّة، قوة محرّكة رئيسية لمصادر الطاقة الخلاقة، بدأت تفقد نكهتها شيئا فشيئا.

في فيلمه "تحديقة يوليسيس" ثمة مشهد مصور ببراعة يظهر الانحدار الأخير للحلم الشيوعي في الجنازة المهيبة لتمثال لينين الضخم، المربوط إلى مركب كبير لنقل البضائع، وهو يطفو على نهر الدانوب. الفلاحون الواقفون على الشاطئ مراقبين ما يجري، أثناء مرور التمثال، يرفعون قبعاتهم احتراما ويرسمون شارة الصليب، في إشارة واضحة إلى أن الشيوعية والدين، بالنسبة إليهم، لم يكونا مختلفين إلى ذلك الحد.، أيا كان الموقف الرسمي للحزب بشأن تلك القضية.

يتعرض أنجيلوبولوس في أفلامه إلى سوء استعمال السلطة، بكافة أشكالها، وما ينجم عن هذا الفعل من عنف ومعاناة. كما يتعرض إلى النظرة الأحادية، المتعصبة، العدائية، الموجهة نحو الآخر، المختلف،  والذي يعتبر عدواً لمجرد اختلافه في المعتقد أو الموقف أو السلوك، إنه يظهر حجم المعاناة عند الآخرين التي يسبّبها إخفاقنا في قبول أو محاولة فهم الآخر المختلف.

حتى عندما يتناول أشكال الفاشية فإنه لا يلجأ إلى الأنماط المعروفة والنماذج المبسطة، ولا يطرح الأحكام المسبقة النابعة من موقف أيديولوجي ما. هو بالأحرى يجعلنا نعي جذور وطبيعة الفاشية، وندرك بأن هؤلاء الذين اعتنقوا الفاشية ليسوا بالضرورة مستبدين وقساة وأشرارا بالفطرة بل هم جوهريا أسرى إغواء لا يقاوم: المال، البزّة العسكرية، القوة، النفوذ.. مثل هذه الإغواءات كافية لأن تجتذب الآلاف أو الملايين من الشباب.

من خلال أفلامه يتساءل أنجيلوبولوس: كيف يمكننا أن نؤسس مجتمعا يزدهر فيه الفرد بلا خوف ولا قمع؟ كيف يمكن تأسيس نوع مختلف من التجمع البشري؟ كيف يمكن إذابة التعارض بين الفرد والجماعة؟ 

في نظر أنجيلوبولوس، الحدود هي الشر الذي ينبغي إلغاءه ومحوه. مع كل فيلم جديد يبدو مهتما أكثر بمصير الأفراد المنفيين، النازحين، اللاجئين. تحديدا، لديه اهتمام خاص بماضي وحاضر دول البلقان كأقاليم جغرافية وثقافية وروحية. هو واع على نحو موجع لحقيقة أن الحدود كانت دوما متغيرة ومتحولة في دول البلقان.. "كم  تخم علينا أن نعبر حتى نصل إلى وطننا؟".. هكذا تسأل إحدى الشخصيات في فيلم "خطوة اللقلق المعلقة"، والجملة ذاتها تتكرر في فيلمه "تحديقة يوليسيس".

المنفى ثيمة سياسية واجتماعية تتكرر في أفلامه. مارشيلو ماستروياني، بطل "خطوة اللقلق المعلقة"، يعلن أنه لاجئ سياسي في وطنه. برونو غانز، بطل "الأبد ويوم واحد"، يقول أنه عاش طوال حياته في منفى.

الوطن البحرينية في

20.01.2009

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004