أمين صالح

 
جديد أمينكتب في السينماجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة
 

جريدة الأيام البحرينية

غرفة الإبن

وصدمة الفقد

بقلم: أمين صالح

ناني موريتي مخرج، ممثل، كاتب ايطالي. بدأ ممثلاً ومع أواخر السبعينات من القرن الماضي تحول إلى الإخراج وقدم عدداً من الأفلام الكوميدية مثل: أحلام سعيدة (1981) بيانكا (1984) القداس إنتهى (1985) الكرة الحمراء (1989) ابريل (1998).. ليكون بذلك أحد أبرز المخرجين في السينما الايطالية المعاصرة. حاز على جائزة أفضل مخرج في مهرجان كان عن فيلم Dear Diary (يومياتي العزيزة) .٣٩٩١.  أما فيلمه الأخير، الذي نحن بصدد الحديث عنه (غرفة الإبن 2001 The Son Roomفقد حاز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان.. وهو إنتاج إيطالي ـ فرنسي، شارك ناني موريتي في إنتاجه وكتابة السيناريو له، وقام بتأدية الدور الرئيسي.

وهذا الفيلم يتميز، من جهة التناول والطرح، بأنه الفيلم الأول لموريتي والذي يخلو من أي عنصر هزلي، فأعماله السابقة كلها مبنية حول عناصر هزلية، لكنه هنا يبعدها ويتجاهلها بجرأة محتكماً إلى العواطف والمشاعر الأعمق.

موريتي هنا يقدم دراما عائلية مباشرة عاطفياً وسيكولوجياً، وفي إطار ميلودرامي. ففي بلدة إيطالية صغيرة، يعيش الطبيب النفساني (يقوم بالدور موريتي نفسه) حياة هانئة ومستقرة مع زوجته وابنه وابنته اللذين هما في طور المراهقة. هو قانع وراض عن حاله، زوجته جذابة وذات مكانة اجتماعية، وهو يرتبط بعائلته الصغيرة بعلاقة تتسم بالدفء والحب والسعادة، ويتعامل مع مرضاه بصبر وهدوء وحكمة. لكن هذه الواجهة الجميلة، المثالية، تتصدع وتنهار مع الموت المفاجئ للابن الذي يلقى حتفه غرقاً. فمع غياب الابن ترتج العلاقة الأسرية، ووحدة العائلة المنسجمة والمتناغمة تبدأ في التشظي، والحياة الرائقة والهادئة التي كانت مغلفة بالحب والتفاهم تصبح حافلة بالتوتر والاضطراب.

الزوجة تستسلم لنوبات من الحزن والأسى، الابنة توجه غضبها الى الآخرين وتزداد توتراً وعدوانية في علاقاتها بالآخرين، أما هو فينسحب منطوياً على نفسه، يعذبه إحساس هائل بالذنب (فقد ألغى موعداً مع ابنه وقد خططا لقضاء بعض الوقت معاً لمناقشة مشاكل له في المدرسة، في يوم الحادث ليلبي اتصالاً عاجلاً ولحوحاً من مريض لديه مشكلة نفسية) ويجد شيئاً فشيئاً صعوبة في معالجة مرضاه والتعامل معهم، كما أن علاقته بزوجته تصبح متوترة ومشدودة إلى حد أنهما لا يعودان يحتملان بعضاً.

إن وراء السلوك الهادئ والمظهر الساكن الذي يتخذه هذا الطبيب، نكتشف حالة من العصاب (الاضطراب العصبي الوظيفي) الكامن، وهشاشة مستتره، واهتزازاً لذلك الاحساس الخادع بالأمان.

وإذا كانت الزوجة والابنة تلجآن إلى التنفيس عن الأسى والحزن، بتجسيد وابراز مظاهره ونتائجه على المستوى الفيزيائي والفيسيولوجي، من خلال البكاء أو الغضب أو الانفعال أو التوتر العصبي، فإن الطبيب ينغلق على نفسه ويكبح مشاعره وانفعالاته ويحبسها عميقاً في داخله لكنه لا يطمرها ولا يتغلب عليها بل أن الحزن يسمم علاقاته بعائلته وبمرضاه وبمن يتصل بهم. واحساسه بالذنب، اللاعقلاني والذي لا طائل تحته، يمزق أعماقه وينهش ذاته شيئاً فشيئاً.

كل منهم الآن يعاني العزلة، ويكابد الحزن والألم وحده، مستسلماً للمحنة.. محنة الفقد والغياب. الشعور الداخلي بالغضب والعجز يفتت أي احساس بالالتزام تجاه الآخرين. والعائلةلا تجد بصيصاً من الأمل في التخلص من هذا الكابوس الثقيل إلا مع دخول صديقة الابن، عن طريق الصدفة، إلى المحيط العائلي عبر زيارة قصيرة تقوم بها وهي في طريقها مع صديق شاب إلى الحدود الإيطالية ـ الفرنسية. وهنا تتطوع العائلة لتوصيلهما إلى المنطقة الحدودية حيث يستعيد الثلاثة ـ الأب والأم والابن ـ ذلك الانسجام السابق من خلال سيرهم معاً على الشاطئ تحت خيوط الشمس الأولى، ليتكون لدينا إحساس قوي وعيمق بأن عبء الحزن والذنب سوف يزول عن كاهل العائلة، وأنهم سوف يستعيدون لحظات الدفء والحب، وسوف يعودون لممارسة حياتهم الطبيعية من جديد.

الفيلم هو تأمل موجع في الموت والحزن عبر منظور سيكولوجي. وهو بتركيزه على المشاعر فإنه ينجح في استنباط استجابة عاطفية مباشرة من المتفرج.

الفيلم، من جهة أخرى، هو أقل اهتماماً بالمنحى السياسي والهزلي. ففي السابق كان موريتي عبر أفلامه يوجه نقداً ساخراً إلى مجتمعه وعائلته وأصدقائه وحتى نفسه.. وكما يعبر هو: »من البداية، تعاملت مع نفسي وعالمي ليس فقط بحب وعاطفة بل أيضاً بتهكم وتحفظ.. كنت أسخر من نفسي وجيلي والجمهور.

كما أن الفيلم هو أقل أعمال المخرج اتصالاً بالسيرة الذاتية، ففي أعماله السابقة نجد مظاهر ووقائع من حياته الشخصية، وتأخذ أفلامه منحى السيرة حتى ضمن الإطار الخيالي. أما هنا فيبتعد عن مجال الذات، وفي ذلك يقول: »الشخصية ليست أنا، لكنها ولدت في داخلي، نبعت من نفسي، حاملة بعض صفاتي المميزة واضطراباتي العصبية وأوهامي وغضبي«.

وبذلك فإن الفيلم يمثل تحولاً قاطعاً وحاسماً في الطابع والاتجاه. أما في الأسلوب فإنه يتسم بالبساطة والتحفظ حيث لا يشعر المخرج هنا بضرورة حشو اللحظات الأساسية بحركات كاميرا خاطفة أو استعراضية، أو بلقطات قريبة قسرية.

في عدد قادم، سوف ننشر ترجمة لمقابلة مع المخرج حول هذا الفيلم.

الأيام البحرينية في

14.12.2003

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004