ها هي الذكرى الأربعون لوفاة الفنان الكبير «عماد حمدي» تمر علينا دون أدنى
ذكر، هذا الفنان الذي توفي في الثامن والعشرون من يناير عام 1984. إذاً مرت
هذه السنوات من دون عماد حمدي، من دون فتى الشاشة ونجمها الأول الذي ملئ
الدنيا سينما وفن على مدى ما يقارب الأربعين عاماً. وكان بلا شك جزءاً
هاماً من تاريخ السينما المصرية ومن النهضة السينمائية في مصر والبلاد
العربية. ولابد من أي متتبع لتاريخ هذه السينما، من الوقوف طويلاً عند
تجربة الفنان عماد حمدي.. فهو أحد الأبطال الذين قامت على أكتافهم السينما
المصرية، وهو فتى الشاشة الوسيم والهادئ الذي سحر فتيات الشاشة العربية
والجمهور العربي على السواء، وذلك بأدائه الأخاذ.
ولد الفنان عماد حمدي في مدينة «سوهاج» بالصعيد المصري في الخامس والعشرون
من نوفمبر عام 1909، هو مع شقيقه التوأم «عبد الرحمن». وقبل أن يبلغ
الشقيقان شهراً من العمر، انتقلت الأسرة الى القاهرة، حيث رقي والدهما ـ
الذي كان يعمل باش مهندس بالسكة الحديد ـ في وظيفته ونقل الى هناك، حيث
أقاموا في حي شبرا، وبالتحديد في شارع علي بك النجار. وفي هذا الحي تربى
الشقيقان وكان يطلق عليهما لقب «الشبيهان».
فقد كان الاثنان شديدي الشبه، سواء بملامح الوجه أو بالطول أو بالعلامات
الفارقة.. حتى أن والداهما كانا يتوهان في التفريق بينهما. وفيما بعد بات
التمييز بينهما أسهل، وذلك عندما بدأ كل منهما يعرف أسمه.
وقد كان الوالدان يقدمان الرعاية الكاملة للطفلين الشقيقان، حيث أحضر لهما
والدهما مدرساً خصوصياً يعلمهما اللغة الإنجليزية، فيما كانت والدتهما
تعلمهما اللغة الفرنسية، باعتبارها تنحدر من أصل فرنسي. وعندما أصبح
الشقيقان في سن الدراسة، التحقا بمدرسة عباس الابتدائية في شبرا. وبعد
حصولهما على الشهادة الابتدائية، التحقا بمدرسة التوفيقية الثانوية وحصلا
على شهادة البكالوريا، ومن ثم التحقا بمدرسة التجارة العليا، وكانت في شارع
«ريحان» بالقاهرة.
وقد كانت حياة عماد وعبد الرحمن ظاهرة غريبة تستحق الاهتمام، فهما لا
ينفصلان عن بعضهما أبداً، سواء في البيت أو في المدرسة أو حتى في أوقات
الفراغ. وكانت الظاهرة الأكثر غرابة في المدرسة، حيث كان ترتيبهما
متماثلاً، بالإضافة الى أنهما كانا يقعان في نفس الخطأ.
وإذا كان الشقيقان يشبهان بعضهما في كل شيء، فهما ـ فيما بعد ـ أخذا
يختلفان، ولكن في الهواية.. ففيما كان عبد الرحمن يميل أكثر الى اللعب
والرياضة، كان عماد يميل الى الفن بشكل عام والى التمثيل بشكل خاص. وقد بدأ
هذا الميل يظهر ويتوضح في المدرسة الثانوية، عندما انضم عماد الى جماعة
التمثيل فيها، وكانت وقتذاك تحت إشراف الفنان الكبير «عبدالوارث عسر»،
والذي درب عماد حمدي على فن الإلقاء. وبالرغم من ذلك، فإن عماد حمدي كان
يعتبر التمثيل مجرد هواية فقط، ولم يكن يأمل أن يصبح ممثلاً في يوم من
الأيام، وكان كل أمله أن يصبح طبيباً وكذلك شقيقه، إلا أنه ولظروف العائلة
المادية اتجها لدراسة التجارة. هذا وقد تابع عماد حمدي هوايته الفنية هذه
في مرحلة تعليمه العالي، حيث انضم الى فرقة «أنصار التمثيل والسينما» والتي
كان يشرف عليها «سليمان نجيب» و«عبد الوارث عسر».
وفي عام 1932، وبعد أن تخرج الشقيقان من مدرسة التجارة العليا، افتتحا
مكتباً للإعلانات الصحفية مع شريكين آخرين، وذلك بمساعدة رجل الاقتصاد
البارز «طلعت حرب»، واستطاع هذا المكتب أن يثبت وجوده بسرعة وظل يمول
الجرائد والمجلات المصرية بالإعلانات. ونجح المشروع الى أن طور بحيث ضم صنع
لافتات الإعلانات في الشوارع. مما جعل طلعت حرب، بعد رضاه عن هذا المشروع
طبعاً، أن يطلب بضم هذه الشركة الى شركات «بنك مصر». إلا أن الشقيقان رفضا
ذلك، فانفصل الشركاء الأربعة، وظل عماد وشقيقه في شركتهما، الى أن ساءت
الأحوال بعد أن فقدو إعلانات بنك مصر وشركاته، ومن ثم أعلن الشقيقان
إفلاسهما وأغلقا المكتب.
وقد أدى إغلاق مكتب الإعلانات، الى أن يفترق الشقيقان على الصعيد العملي.
صحيح بأنهما لم يفترقا في البدء، وبدأ الاثنان في البحث عن عمل يجمعهما،
باعتبار أنهما لم يتعودا أن يتركا بعضهما، ولكن الظروف كانت أقوى منهما.
فاشتغل عبد الرحمن في الجمعية الزراعية الملكية، واشتغل عماد في مستشفى أبو
الريش.
في المستشفى المذكور تذكر عماد حمدي شغفه بدراسة الطب، والتي حالت الظروف
المادية من تحقيق ذلك ـ كما أشرنا سابقاً ـ وهو بالطبع لم يدخل هذا
المستشفى بصفته طبيب، وإنما بصفته موظف حسابات (باشكاتب) للمستشفى، وهي
مهنة كتابية يتقنها كخريج تجارة، ويمارسها دون رغبة حقيقية بها. وقد قضى في
المستشفى ثلاث سنوات، كان خلالها قد توطدت علاقته بالأطباء، مما جعله يتردد
كثيراً على حجرة العمليات مع الأطباء، بل إنه قد دخل المشرحة أيضاً.
وبالرغم من انشغاله عماد حمدي بعالم المستشفى، إلا أن ذلك لم يبعده عن
هوايته الفنية. فقد كان يذهب كل يوم الى «جمعية أنصار التمثيل والسينما».
كما أنه بدأ وأخوه عبد الرحمن الاهتمام بالموسيقى، الى حد أنهما التحقا
بمعهد «تيجرمان» للموسيقى العالمية، الذي كان يضم خيرة المدرسين
البولنديين، حيث أن معظم الموسيقيين المصريين الكبار قد درسوا في هذا
المعهد، حتى الفنان «محمد عبد الوهاب» استفاد منه أيضاً.
وقد درس عماد حمدي البيانو وأجاد العزف عليه، ومن ثم تعلم النوتة
الموسيقية، بل قرر دراسة الهارموني وتمادى في الأحلام لدرجة أنه قرر أن
يكون فرقة أوركسترا أيضاً. وكان الأصدقاء والأهل يصفقون طويلاً لعماد، وهو
يعزف مقطوعات صعبة لـ (بيتهوفن، موزارت، باخ).
ومرة أخرى لم يجد عماد حمدي نفسه في هواية الموسيقى، ومرة أخرى تغلب حبه
للتمثيل على ذلك، وكان لعماد صديق يشاركه الهواية، فاتفق معه على أن يترجما
إحدى المسرحيات العالمية، لكي يقدماها لإحدى الفرق المسرحية. وعندما نقل
صديقه هذا الى الفيوم، كان عماد يسافر إليه مرة كل أسبوع حتى يتابعا العمل،
أو يأتي صديقه في نهاية الأسبوع الى القاهرة.
وذات مرة كان عماد مسافراً الى الفيوم فرأى في الطريق مجموعة كبيرة من
الناس يتمايلون ويهزجون على دقات الطبول والمزامير. وعندما سأل عما يحدث،
قيل له بأن ذلك كان عبارة عن تصوير إحدى مشاهد فيلم (وداد) السينمائي الذي
كانت تمثله «أم كلثوم» والذي ينتجه «ستوديو مصر». وبمجرد أن عاد الى
القاهرة، بدأ يسأل كل من له علاقة بالفن عن ستوديو مصر، والذي أنشئ بفضل
جهود «طلعت حرب». ويسأل عن العاملين في هذا الأستوديو، وأثار انتباهه اسم
«محمد رجائي»، فهو زميل قديم لعماد حمدي، حيث تخرجا معاً من مدرسة التجارة
العليا. لذا قرر عماد الذهاب إليه ومقابلته، وبالفعل قابله محمد رجائي
بترحاب وطاف معه على كل أنحاء الأستوديو، وعندما سأله عن عمله الحالي، أجاب
عماد بأنه يعمل باشكاتب في مستشفى أبو الريش. ولم ينسى عماد أن يسأله عن
إمكانية توظيفه في أستوديو مصر، حيث قال له: أنا غاوي فن، وعملي الحالي لا
يتناسب مع هذه الهواية، فهل أجد عندك وظيفة؟ فأجابه: عندنا وظيفة رئيس
حسابات، فهل ترغب فيها؟ وخلال دقائق، تم كل شيء، وذهب عماد الى المستشفى
وقدم استقالته، وداوم في اليوم التالي في أستوديو مصر.
وبالتالي أصبح عماد حمدي، بحكم وظيفته، قريباً من هوايته الفنية، وكان كل
يوم يجالس كل الفنانين الذين يأتون للأستوديو، ويلتقي معهم لكي يحاسبهم
ويعطيهم رواتبهم وعلاواتهم. إلا أن علاقة عماد حمدي توطدت أكثر بالفنانين
عندما صدر قرار بنقله من رئيس قسم الحسابات الى مديراً للإنتاج، حيث جاءته
فرصة الانغماس أكثر بالعمل الفني، فوظيفة مدير الإنتاج هي وظيفة الاحتكاك
المباشر بكل الفنانين والفنانات، مما ساعده على إيقاظ ملكة التمثيل عنده
بشكل أوسع وأشمل.
ومن خلال عمله الجديد، عاصر عماد حمدي إنتاج أفلام كبيرة ومهمة، خصوصاً
أفلام «نجيب الريحاني»، وشاهد من خلف الكاميرا ما يحدث أمامها، فكل تفاصيل
العمل السينمائي داخل البلاتوه كانت تقع أمام ناظريه. كانت هذه الخطوة
تكفيه ولا ترضيه، لأن صوت الممثل في داخله كان يناديه لتمثيل أول فيلم
سينمائي.
إن الفنان عماد حمدي لم يخلق للعمل وراء الكاميرا، بل للعمل أمامها. ومع
ذلك فقد أبت عليه نفسه أن يقول هذا للفنانين الذين كان يتعامل معهم، حتى لا
بفسر هذا على أنه استغلال لطبيعة عمله. مع أنه كان يتعرف كل يوم على فنان
جديد.. فقد تعرف على «نيازي مصطفى» و«صلاح أبو سيف» و«كمال الشيخ»، وهم
يعملون في قسم المونتاج.. وعلى «حسن الإمام» عندما كان لا يزال عامل
كلاكيت، يتقاضى 17 قرشاً في اليوم.
ثم جاءت فرصة عماد حمدي عن طريق وزارة الصحة، وذلك عندما طلبت من أستوديو
مصر أن ينتج لها أفلاماً تسجيلية ذات طابع إرشادي صحية عن البلهارسيا
والإنكلستوما. وحين بدأ المخرج «جمال مذكور» في إخراجها اختار عماد حمدي
للمشاركة في تمثيلها.
بعدها صدر قرار بنقل عماد حمدي من قسم الإنتاج الى قسم التوزيع كمدير، ونقل
الى مكتب خاص له في قلب المدينة. ومضت أربع سنوات الى أن جاءته مكالمة
هاتفية من المخرج «كامل التلمساني» يرشحه فيها لدور البطولة في فيلم (السوق
السوداء)، هذا بعد أن شاهده في الأفلام الصحية، وقابله في مكتب «قاسم وجدي»
(أول ريجسير مصري). وبالطبع لم يصدق عماد حمدي نفسه، فقد وافق على الفور
وبدون أي تردد، بعد أن وعد المخرج التلمساني بأن يلقاه في قريباً جداً.
وفي اليوم التالي لم يهدأ له بال إلا بعد أن صحب صديقه قاسم وجدي وذهبا الى
كامل التلمساني، الذي كان يستعد لخوض تجربة الإخراج السينمائي لأول مرة،
ولا يريد أن يتعامل مع أي ممثل معروف، وقد اختار عماد حمدي لأنه وجه مصري
صميم. وكان عماد يتقاضى في ذلك الوقت 60 جنيهاً كراتب شهري من أستوديو مصر،
لذلك لم يشأ كامل التلمساني أن يطلب منه أن يترك عمله من أجل الفيلم، واتفق
معه على مواعيد عمل مناسبة، وعلى أجر عن دوره في الفيلم قدره 200 جنيه.
وسوف تشاركه البطولة «عقيلة راتب» مع «زكي رستم».
وكانت البداية، ولكن عماد حمدي صور الفيلم بنفسية محترف، يعرف كيف يتعامل
مع الكاميرا، باعتباره سبق وأن وقف أمامها، إضافة الى أنه كان يحبها. وفي
ليلة العرض الأول، ذهب مع أبطال الفيلم الى دار السينما، وكان بالطبع
خائفاً من نتيجة التجربة الأولى، تماماً كالطالب الذي يخشى نتيجة الامتحان،
حيث كان يعرف بأن هذا الفيلم هو الذي سيحدد له طريق الاستمرار في الفن أو
العودة الى الوظيفة. وحين انتهى عرض الفيلم شاهد عماد مئات المتفرجين يقفون
أمام دار السينما، وهم يهتفون: سينما أونطه.. هاتو فلوسنا!! وفكر عماد في
الخروج من الباب الخلفي، عندما أدرك إن الجمهور يحيط تماماً بدار السينما
ويسد كل المنافذ، ولم يجد مكاناً يختفي فيه سوى دورة المياه حتى انصرف
الجمهور الثائر.
وسقط أول فيلم في حياة عماد حمدي الفنية. إلا أن عماد فوجئ بأن الفيلم هو
الذي سقط وليس هو، بدليل أن النقاد هاجموا المخرج والسيناريو، ولكنهم
امتدحوا البطل كثيراً، وقالوا إنه ظلم، وإنه وجه جديد يبشر بالخير، وإن
الجماهير أيضاً أحبته وتعاطفت معه. المهم بأن عماد، رغم سقوط الفيلم، بات
مشهوراً. وبدأ المخرجون يرشحونه لأفلامهم، بل وبدأ كل من يريد أن يخرج
فيلماً لأول مرة يستعين به أو يطلبه، وكان على رأس هؤلاء: «صلاح أبو سيف»
الذي قدم أول أفلامه (دايماً في قلبي) وشارك عماد حمدي البطولة الفنانة
«عقيلة راتب» أيضاً. وفي هذه المرة عندما عرض هذا الفيلم، صفقت له
الجماهير، لم تصفق للبطل فقط، وإنما للبطلة والمخرج أيضاً، ونجح الفيلم
نجاحاً كبيراً وأشاد به النقاد.
ثم تعامل مع المخرج «هنري بركات» في أولى تجاربه الإخراجية أيضاً بفيلم
(سجى الليل)، وكان هذا هو الفيلم الثالث في حياة عماد حمدي، حيث شاركته
البطولة هذه المرة فاتنة الشاشة المصرية في ذلك الوقت «ليلى فوزي» مع «كمال
الشناوي» و«محمود المليجي».
وكان عماد حمدي قد بات سينمائياً، لا بوصفه ممثلاً فقط، بل لأنه كان في
الأساس موظفاً بأستوديو مصر ومديراً للإنتاج وللتوزيع، وبالتالي يعرف سوق
الأفلام الرائجة. لذلك كان خائفاً من نتيجة هذا الفيلم، إلا أن «بركات»
طمأنه، وكان نجاح (سجى الليل) نجاحاً خرافياً.
لقد كان عماد حمدي خائفاً من أن يفقد كل رصيده الفني في فيلم (سجى الليل)،
لأن الجمهور في ذلك الوقت قد تعود على مشاهدة الأفلام الكوميدية
والاستعراضية، في الوقت الذي كانت قصة هذا الفيلم ميلودرامية مؤثرة، تنتهي
بموت البطل، وهذا ما لا يحبه الجمهور، لولا أن «بركات» قد أقنعه، فمثل
الفيلم بتمكن.
وعندما عرض الفيلم في صالة سينما «ريفولي»، والتي كانت مخصصة للأفلام
الأجنبية، كان الاتفاق المبدئي على أن يعرض (سجى الليل) لمدة يومين فقط، ثم
ينقل الى صالة أخرى. ولكن حدث ما لم يتوقع، فقد استمر عرضه لمدة أربعة
أسابيع متواصلة. وكان ذلك رقماً قياسياً بالنسبة لمدة عرض الأفلام الجديدة
في تلك الفترة، فالفيلم الناجح جداً هو الذي يستمر عرضه لمدة أسبوعين فقط.
هذا وقد أصبح مشهد عربة الإسعاف الواقفة أمام باب دار السينما مشهداً
يومياً مألوفاً. وغالباً ما كان رجال الإسعاف يخرجون من كل حفلة من الحفلات
اليومية الأربع وهم يحملون إحدى السيدات وهي في حالة إغماء أو فقدان الوعي.
أكثر من حالة إغماء في اليوم، وأكثر من سيدة تحمل كل يوم من داخل السينما
الى عربة الإسعاف. وبعض السيدات كن يفقدن السيطرة على دموعهن ومشاعرهن أمام
هذا الفيلم الميلودرامي المؤثر، عندما يشاهدن عذاب المرض على وجه البطل
الشاب، وبؤس الفراق بين الحبيبين، وموت الشاب في النهاية موتاً حزيناً
وصامتاً.
ومنذ ذلك الوقت، ارتبط اسم عماد حمدي بالأعمال السينمائية الأولى لأكثر من
مخرج جديد، والذين أصبحوا فيما بعد من كبار مخرجي السينما العربية، وتلك
مغامرة فنية جريئة وناجحة، باعتبار أن المخرج الجديد لا بد أن يقدم، خلال
تجربته السينمائية الأولى، أفضل ما عنده من أفكار جديدة. فقد قام أيضاً
ببطولة فيلم (الحرمان) أول أفلام المخرج «عاطف سالم»، حيث كان مساعد مخرج
لـ«حلمي رفلة»، ونجح الفيلم نجاحاً كبيراً، حيث تألقت فيه الطفلة المعجزة
«فيروز». كما أنه، عندما أراد المونتير «كمال الشيخ» التحول الى الإخراج،
قام ببطولة فيلمه الأول (المنزل رقم 13) أمام «فاتن حمامة»، هذا الفيلم
الذي كان يمثل انطلاقة جديدة في نوعية أفلام التشويق والحركة. وقد حقق هذا
الفيلم نجاحاً كبيراً حيث استمر عرضه أربعة أسابيع أيضاً في دار سينما
«مترو». وبالتالي أصبح عماد حمدي هو الورقة الرابحة لكل مخرج جديد.
وبعد هذا النجاح والتألق، انغمس في العمل تماماً، فما يكاد ينتهي من تصوير
فيلم حتى يبدأ بآخر، بحيث أرهقه العمل المتواصل، مما جعله يشعر بحاجة ماسة
الى الاستقرار العائلي. فقد كان يقضي أوقات فراغه القليلة في نقابة
الممثلين ليلتقي بزملائه الفنانين والفنانات. وكان يشعر بالوحدة والفراغ
العاطفي، ويشعر بحاجة شديدة لزوجة يحبها وتحبه، يقدرها وتقدر ظروفه وطبيعة
عمله، وتقف الى جانبه لتخفف عنه متاعبه وتشاركه رحلة العمر وما فيها من
نجاحات سينمائية متواصلة. وكانت الفنانة «فتحية شريف» هي تلك الزوجة التي
اختارها، والتي كانت تعمل في ذلك الوقت كبطلة في «فرقة الريحاني»، وتؤدي
ألحان «سيد درويش» و«الشيخ سلامة حجازي».
يتحدث عماد حمدي عن زواجه هذا، فيقول: (...تزوجت «فتحية شريف» عام 1946،
واستمرت حياتنا العائلية هادئة وموفقة، وزاد من تفاهمنا أنها كانت فنانة
مثلي، تقدر ظروفي وطبيعة عملي. إضافة الى أنها ضحت بعملها الفني من أجل
إسعادي، فماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك. ثم أن زواجي من فتحية كان فألاً
حسناً عليّ، فبعد الزواج انهالت عليّ عقود العمل وتوثقت علاقاتي بالمخرجين
وباتوا أصدقائي...).
وقد كانت مرحلة ما بعد الزواج مليئة بالحماس والأمل وبالعمل المتواصل، وسط
أسرته الصغيرة بعد أن أنجبت له فتحية شريف ابنه «نادر»، الذي أضفى نوعاً من
البهجة والسعادة الأسرية.
في عام 1949 استقال عماد حمدي من وظيفته في أستوديو مصر، بعد خدمة ثماني
سنوات، متنقلاً من وظيفة باشكاتب الى مدير إنتاج الى ممثل سينمائي، تدفع له
مكافآت مالية نظير عمله كممثل. ولكنه الآن قد أصبح نجماً سينمائياً
مرموقاً، واستمراره في الوظيفة يسبب له نوعاً من عدم الاستقرار. لذلك كان
عليه أن يختار بين الاستمرار في الوظيفة أو الاستقالة، فاختار الاستقالة
بالطبع. واستلم مكافأة نهاية الخدمة مودعاً السلك الوظيفي ومستقبلاً من
جديد حياة الأضواء.
ومضت سبع سنوات وعماد حمدي يعيش حياة زوجية سعيدة مع «فتحية شريف» وابنهما،
الى أن التقى بالفنانة «شادية» في رحلة «قطار الرحمة»، حيث رأى الفنانون
بأن يقوموا بتظاهرة فنية تعبيراً عن ترحيبهم بإعلان الثورة، وذلك في قطار
ينطلق من القاهرة الى أسوان، حيث يتوقف في كل المحطات لتقديم حفلات غنائية
يرصد ريعها لأعمال الخير ولدعم الثورة. في هذا القطار تقابل عماد وشادية،
وكان لا بد أن يتبادلان كلمات المجاملة التي لم تلبث أن تحولت الى كلمات
شكر، ثم تعبيرات أطول عن التقدير المتبادل، الى أن انتهت الى مشروع حب ثم
زواج. صحيح بأن موقف عماد حمدي كان شائكاً، فهو متزوج ويحب زوجته، إلا أنه
لم يستطع مقاومة ذلك الشعور الجارف نحو شادية. كان يقول لنفسه: (...أية قوة
مجهولة تحاول أن تغير اتجاه سفينة حياتي؟ والى أي شاطئ مجهول سأنجرف؟...)
ووجد عماد نفسه في موقف لا يحسد عليه، موقف رجل متزوج وله ولد، وقع في الحب
ولم يعد أمامه سوى حل وحيد، وكان الحل في منتهى القسوة.. أن يطلق زوجته
فتحية شريف ويتزوج شادية!!
وتزوج عماد حمدي شادية عام 1953، في الإسكندرية التي شهدت أول لقاء سينمائي
لهما، وكان فيلم (أقوى من الحب). حينها فكر عماد أن يخوض تجربة الإنتاج
السينمائي، صحيح بأنه عمل مديراً للإنتاج في أستوديو مصر، لكنه اليوم يفكر
بالمغامرة بأمواله الخاصة. وكان من أهدافه الفنية في الإنتاج بأن يضع شادية
في المكان المناسب، بعد أن تخصصت في الأدوار الخفيفة وفي الأفلام ذات
الطابع الكوميدي الغنائي. بينما كان عماد يرى في هذه الفنانة كنوزاً كانت
خافية على الجميع لم تكشف بعد، ولا تحتاج إلا لنبشها وإظهارها للعلن. لذلك
عقد العزم على أن يخوض تجربة الإنتاج مهما كانت نتائجها وعواقبها. وأول أسس
النجاح هو اختيار القصة المناسبة، حيث وفق عماد في العثور على قصتين
جيدتين، هما: (شاطئ الذكريات) و(ليلة من عمري). ونجح هذان الفيلمان، اللذان
أرخا لبداية جديدة في مشوار شادية السينمائي، ومن ثم اتجهت لأداء الأدوار
التراجيدية، وقدمت فيلمي (موعد مع الحياة) و(المرأة المجهولة) اللذان حققا
لها أكبر النجاح الفني والشعبي.
فجأة، توقف الحب بسرعة، كما أتى بسرعة. فقد بدأت الفوارق في وجهات النظر
بين عماد وشادية تظهر الى السطح، وأدى ذلك الى ثورة شادية، واستسلام عماد
لهذه الثورة، ثم الى توقفه عن العمل لفترة طويلة، نتيجة للمشاكل العائلية
الكثيرة، إن كانت من الزوجة الأولى أو الزوجة الثانية. ويمكن القول بأن تلك
الفترة كانت بمثابة النكسة في حياة عماد حمدي، حيث تم الطلاق بينه وبين
شادية بعد ثلاث سنوات.
بعد توقف عماد حمدي عن التمثيل لفترة طويلة، عرض عليه المنتج «رمسيس نجيب»
بطولة فيلم (حتى نلتقي)، وكانت قصة هذا الفيلم مشابهة لقصة حياته مع
الزواج. في البداية، رفض عماد القيام بهذا الدور، إلا أن «رمسيس نجيب»
استطاع أن يقنعه، باعتباره قد لعب هذا الدور في الحياة. وإنه سيكون الدور
الهام في مشواره السينمائي. وبالتالي استطاع رمسيس نجيب أن يخرج عماد حمدي
من عزلته التي فرضها على نفسه، بعد أن أفهمه بأن «فاتن حمامة» ستلعب دور
شادية، و«زهرة العلا» ستلعب دور زوجته فتحية شريف. ولعب عماد دوره في هذا
الفيلم كما لم يلعب دوراً في حياته.
وبدأ عماد يعمل بكثرة متفانياً في عمله لكي ينسى، يخرج في الصباح ولا يعود
إلا بعد منتصف الليل، منهكاً ومستنزفاً كل قواه، من أجل الحفاظ على لقب
الفتى الأول، هذا اللقب الذي لازمه سنوات طويلة، وهو يمثل مع «فاتن حمامة»
و«مديحة يسري»، وبقية نجمات السينما المعروفات. فتى أول من نوع مختلف، فيه
وقار الكبار الذين لا يعتمدون على صغر السن أو وسامة الملامح، بل على حسن
الأداء والانغماس في الشخصية.
لم يعد عماد حمدي شاباً، لقد تقدم به العمر، وتسللت الشعرات البيض الى
رأسه، والتجاعيد أصبحت واضحة فوق وجهه. لكن المخرجين لم يقتنعوا بذلك، ظلوا
يصرون على ترشيح عماد حمدي كفتى أول مدة عشرين عاماً وأكثر. ولكن زمن هذا
الفتى قد تغير، ولا بد من الانعطاف نحو أدوار أخرى.
وفي عام 1960، اختاره المخرج حسن الإمام للمشاركة في بطولة فيلم (زوجة من
الشارع). وكان ضمن طاقم الفيلم الوجه الجديد «نادية الجندي»، والتي لم يسمع
عنها عماد حمدي من قبل، وعندما رآها رأى فيها وجه الشابة الجميلة والشديدة
الحيوية. ومن خلال العمل أمام الكاميرا والظهور معها في عدة لقطات، كان لا
بد أن يجري بينهما حوار جانبي ما، وتعليقات وإرشادات فنية، كأي ممثلة جديدة
تحتاج الى العون. وفي فترات الاستراحة ما بين التصوير، بدأ عماد ـ للمرة
الثالثة ـ يفكر بعمق في حياته المجدبة والموحشة مثل صحراء قاحلة، ليس فيها
خضرة ولا ماء ولا حياة. الظمأ للحنان يقتله، والشعور الحاد بالوحدة يعذبه.
فبعد الأربعين تشتد حاجة الإنسان الى شريكة لحياته. انتابته كل هذه
الهواجس، لحظة شاهد «نادية الجندي»، لم يفكر بفارق السن بينهما، ولم يفكر
بمصيره معها في المستقبل. انحصر تفكيره في عواطفه فقط. ومع انتهاء تصوير
فيلم (زوجة من الشارع) كان عماد يتأبط ذراع «نادية»، وبعد عام من زواجهما
أنجبت له «نادية» ابنه «هشام».
بعد الزواج الثالث، عاد عماد حمدي يفكر في الإنتاج مرة ثانية. كان قد أنتج
لزوجته السابقة «شادية» فيلمين، وها هو يستعد لإنتاج فيلم (بمبة كشر)
لزوجته الثالثة نادية الجندي. والفيلم من النوع الاستعراضي، أي إنه يتطلب
نفقات غير عادية. لكن عماد حمدي لم يبخل على الفيلم بشيء، كان يريده فيلماً
ناجحاً. ولكي يتحاشى متاعب الضرائب كتب الفيلم باسم زوجته. فقد بلغت
التكاليف خمسين ألف جنيه، واتفق الزوج وزوجته على أن تأخذ هي نسبة من
الإيرادات. وبعد عرض (بمبة كشر) حقق نجاحاً كبيراً، واستمر عرضه أسابيع
متواصلة وحقق إيرادات كبيرة. وبالرغم من أن عماد حمدي هو الذي صنع اسم
«نادية الجندي» بهذا الفيلم، إلا أنه لم يحصل على شيء من إيراداته، والتي
أخذتها الزوجة «المصونة». ولم يحزن عماد بسبب هذه الخسارة المادية، بل حزن
لأن الوفاء لم تكتمل فصوله، وإن الزوجة التي اختارها لم تكن على مستوى
تضحية الزوج ورغبته في دفعها الى الأمام. ومن الطبيعي أن يشب الخلاف بين
الزوجين، حيث حزم عماد حقائبه وخرج من بيت الزوجية. لم يندم عماد حمدي على
شيء، لا على الإنتاج السينمائي الذي كلفه الألوف، ولا على شقة الزمالك التي
كتبها سابقاً باسم نادية، والتي يبلغ ثمنها حوالي الربع مليون جنيه. فقط
غرق في الحزن والصمت، وآثر راحة البال. فقد علمته الحياة أن من يخسر المال
هو أسعد من الذي يفقد نفسه وحريته وإرادته.
في مرحلة الشيخوخة، لم يكن غريباً من أن يستكمل عماد حمدي تألقه الفني في
الأدوار الجديدة، أدوار الأب أو الجد، فلكل مرحلة أدوارها. بل إن عماد حمدي
يعتبر هذه المرحلة (...من أهم وأخصب سنوات عمري، إنها سنوات النضج
والاكتمال، قدمت فيها أهم وأنجح أفلامي...). ومن أفلام عماد حمدي الهامة في
مرحلة الشيخوخة، أدواره في (أم العروسة، ميرامار، ثرثرة فوق النيل،
المذنبون، سونيا والمجنون، أسياد وعبيد).
أما بالنسبة لآخر أدواره، فقد كان فيلم (سواق الأتوبيس)، حيث رشحه المخرج
عاطف الطيب لهذا الدور الذي أعجبه فيه المغزى الإنساني الذي يقدمه (الوفاء
المفقود في عالم مادي، ضاعت فيه كل القيم الإنسانية). وبالرغم من شعور عماد
حمدي بالإجهاد والإرهاق أثناء فترة التصوير، إلا أنه كان يحاول التماسك حتى
انتهاء التصوير. وتحامل على نفسه وهو يصور المشهد الأخير، مشهد الوالد
الملقى على فراش الموت. وقد أدى عماد حمدي هذا الدور باقتدار وثقة، وكان
نهاية المشوار الفني الطويل للفنان الكبير عماد حمدي.
وقبل أن يموت عماد حمدي بعامين، وبعد أن تآمرت عليه أمراض الشيخوخة، بدأ
يصاب بالاكتئاب، لذا آثرت زوجته الأولى أن تكون بجانبه في أيامه الأخيرة،
إلا أن الموت خطفها قبله، وشاء القدر أن يشهد نهايتها ويحرم من اليد
الحانية الوحيدة. مما أدى ذلك الى زيادة اكتئابه، والى المزيد من الإحباط
وحب العزلة والبعد عن الناس. وهذه هي الأمراض الحقيقية التي كان يشكو منها
النجم الكبير حتى وفاته في الثامن والعشرون من يناير عام 1984، لينهار صرح
كبير من صروح الفن السينمائي في مصر والوطن العربي. |