لـقد كـتب "كـامل التلمساني"
سـيناريو فيـلم (الـسوق الـسوداء)، إضافة الى الإخراج، خلال فترة الحرب
العالمية الثانية، ومن ثم قدمه مباشـرة الى مـديـر الإنتاج في إستوديو مصر
في ذلك الوقت "أندريه فينو" الـفرنـسي الأصـل، والـذي أعـجـب بمصـريـة
الفيلم وجدِّيته.
ويعتبر فيلم (السوق السوداء) إستمراراً لمدرسـة "كــمـال ســـــليم"
الـواقــــعــية في فيـلمه (الـعـزيمـة ـ 1939)، إلا أن فيـلم التـلمـساني
إمتـاز بابتـعاده عن الفـكر التوفيقي للبرجوازية، والذي طرحه "كمال سليم"
في (العزيمة).. فقد تناول التلمساني في فيلمه (السوق السوداء) أخطر المشاكل
التي كانت مثارة في تلك الفترة، وهي مشكلة تجّار السوق السوداء أو أغنياء
الحرب.. وإستطاع أن يـشرح من خلال قضية بسيطة كيف تنشأ السوق السوداء، وكيف
أنه تناول الدلالات الإجتماعية والسياسية لوجودها.. هذا إضافة الى تناوله
للصراع الـدائر بين مَنْ يملكون ومَنْ لا يملكون، وتأكيد دور الجهل في طمس
كل الحقائق. كل هذه الأمور قدمها الفيلم على نحو جعل منه فيلماً رائداً
بحق.
ثـم لا ننسى أن نـشير الى أن التلمـساني في فيلمه هذا لم يـشأ أن يقـسِّـم
شخصياته الى تلك التقسيمة الأخلاقية التقليدية، شخصيات خيِّرة أو شريرة،
والتي تناولتها الأفلام المصرية مراراً.. ولم يقف موقف التملق السلبي
والخطير من شخصياته المقهورة، لمجرد إعادة الإعتبار لها فقط، إنـه في هـذا
الفيلم لا يتملق ولا يـدين، بل يترك شخصياته تعبر عن نفسها وتعيش واقعها الإجتماعي الطبيعي.. إنه يهتم بالبناء الداخلي لهذه الشخصيات ويحاول إسـتخراج ما تحـمله من مـشـاعر وأخـلاقيات وأحـلام.. كما أنه إهتم بنقل
وضعها الإجتماعي الى المتفرج وتجسيد ردود أفـعالـها وتفاعلاتها ما بين
عالمها الداخلي وعالمهـا الخارجي.. من هنا تبدو شخصيات (الـسوق الـسوداء)
بالغة الصدق والثراء، تتدفق بالحيوية وتتطور مع تطور أحداث الفيلم.
وبالرغم من أن التلمساني قـد قسَّم شخصياته تقسيمة إجتماعية، إلا أنه لم
يتوقف عند حدود أبعادها الإجتماعية فقط، بل إنه تعمَّـد أن يكون لكل شخصية
ملامحـها الخاصة وقسماتها المتفردة.. وهو بهذا قد حمى نفسه من الوقوع في
أسر الأنماط التقليدية المباشرة، وجعل للشخصيات الثانوية قدراً كبيراً من
الأهمية، تتأثر وتُأثر في الأحداث.
أما بالنسبة للحوار والأغاني، فلا يمكن أن يكون كاتبها إلا الشاعر الكبير "بيرم
التونسي"، فقد كانت الروح الشعبية والإجتماعية والصياغة الشاعرية واضحة،
وتؤكد مقدرة هذا الفنان في تفهُم وإستيعاب قضية الفيلم الإجتماعية.. ومن
الناحية الدرامية جاء حوار الشخصيات متلائماً مع أبعادها الإجتماعية
والنفسية والأخلاقية، فضلاً عن القوة الأيحائية والتأثيرية لهذا الحوار
الأخاذ المنطلق.. هذا إضافة الى القيمة التعبيرية المؤثرة التي جسدتها
الأغنية في التعليق على الأحداث، حيث إكتسبت دوراً إجتماعياً مهماً ودلالات
طبقية واضحة.
نأتي أخيراً، لنتحدث عن الأسلوب الإخراجي، حيث إهتم كامل التلمساني بشكل
واضح وجاد بكافة التفاصيل الفنية للغة السينما.. فقد جاء فيلم (السوق
السوداء) بالغ العطاء، تتسم كل لقطة فيه بقوة التكوين، الى جانب سخاء
التفاصيل.. تلك التفاصيل التى لم تكن زوائد، بل أكسبت الأحداث والشخصيات
معنى إيحائي يعمِّق المضمون الفكري للفيلم.. كما إستفاد التلمساني من جميع
جزئيات السينما وأدواتها (الظل والنور، الصوت، الإكسسوار، المونتاج) وإستخدمها درامياً بشكل موفق.. هذا إضافة الى الجزئية الأهم وهو ذلك
التصوير الأخاذ، والذي أداره الفنان المرهف الحس "أحمد خورشيد"، فقد كان إختياره لزوايا التصوير موفقاً، حيث جائت اللقطات الكبيرة لتعبيرات الوجوه
ذات حساسية وتأثير جميل وقوي.. كذلك الإقتصاد في حركة الكاميرا، وبالذات في
مشاهد الحارة، والتي بدت بعمق مجالها وحيوية حركة الممثلين والكومبارس
داخلها، كما لو أنها حارة حقيقية تتدفق وتنبض بالحياة والصراعات.
فن جيد.. فشل.. وأفلام أخرى:
وبالرغم من المستوى الجيد للفيلم، إلا أنه لم يحقق نجاحاً جماهيرياً طيباً،
وفشل لأسباب، حددها الناقد والمؤرخ السينمائي "أحمد كامل مرسي"، في أن
الفيلم: (... كان سابقاً لأوانه من ناحية، ولأن الرقابة عبثت به من ناحية
أخرى...).
إن هذا الفشل الذي صاحب فيلم (السوق السوداء)، قد جعل كامل التلمساني يصاب
بصدمة شديدة زلزلت كيانه وأفقدته الثقة بنفسه، وهو الذي كان يعوِّل كثيراً
على تجاوب الجماهير لفنه، لذلك أقلع عن الإستمرار في هذا الطريق المبتكر، وإختفى من الوسط السينمائي لفترة، لكنه عاد إليه ليخرج أفلاماً تجارية
ضعيفة، بعد إقتناعه بأن الظروف لم تكن تسمح آنذاك بإخراج أفلام واقعية أو
أفلام تعالج مشاكل الجماهير الحقيقية.
وعندما سُئل كامل التلمساني (في عام 1945) عن المخرج الذي تأثر به في حياته
الفنية، أجاب بقوله: (... لا أعتقد أني قد تأثرت بمخرج معيَّن في أسلوبه
التعبيري، وإن كنت أميل دائماً الى دراسة مخرج أفضله على غيره من أئمة
الإخراج السينمائي، وهو "جون فورد".. ذلك في إعتقادي إن السرد الفيلمي
يعتمد على تتابع الصور وتكوينها التصويري، أكثر مما يعتمد على الحبكة
الدرامية أو التعبير الحواري أو غيره من عناصر المسرح.. وفي أسلوب "جون
فورد" من شاعرية الصمت ما هو كفيل بأن يعبر خير تعبير عن كلمات المسرح،
وإني لا أعتقد بعظم قيمتها في الفيلم...). |