في فيلم (ملف في الآداب)، وهو ثالث تعاون بين عاطف الطيب والسيناريست وحيد
حامد (التخشيبة ـ البريء)، يواصل الإثنان البحث في موضوعهما الأثير، وهو
الحد الفاصل بين جهاز الأمن كقوة لخدمة المواطن وتحقيق الأمان له، وبين
جهاز الأمن كأفراد وكروتين وكإجراءات تعيق تحقيق ذلك، بل وتقلبه أحياناً
الى قوة تمارس السلطة وتتلذذ بها.
ويأتي فيلم (ملف في الآداب) ليمثل حلقة جديدة من هذا التعاون، حيث يجد
المواطن العادي نفسه أمام سوء إستخدام السلطة متهماً ومهدور الكرامة في
دهاليز مكاتب الأمن والمحاكم بدون وجه حق.
تدور قصة الفيلم حول عملية إتهام ثلاث فتيات ورجل، بإدارة شبكة للدعارة ثم
براءتهم من هذه التهمة. ربما تبدو هذه القصة بسيطة، إلا أنها قضية شائكة،
فهذه البراءة التي حصلوا عليها لا تمنع في أن يكون لكل واحد منهم ملفاً عند
شرطة الآداب. أي أن البراءة القانونية شيء، وصفاء السمعة الإجتماعية
وإستمرار إتهام المجتمع الذي سيظل سيفاً مسلطاً على رقاب الأبرياء الى ما
لا نهاية شيء آخر. وبالتالي فالموضوع خطير وليس هيناً على الإطلاق.
لقد جعل الفيلم المتفرج في حالة من الغيظ والإستفزاز، إستمرت فترة ليست
بالقصيرة، حتى بعد إنتهاء مشاهدته للفيلم. وهذا بالطبع دليل واضح على صدق
الفيلم ونجاحه في توصيل هذا الصدق الى المتفرج. فالشعور بالغيظ هي أيضاً
حالة إيجابية مفترضة في حالة مشاهدة أي فيلم جاد. وبالتالي، كان أمام عاطف
الطيب موضوعاً يحمل فكرة جديدة وقوية، حاول جاهداً توفير كافة الظروف
لتوصيلها للمتفرج. أما السيناريو فقد كان متسرعاً ومتناسياً أحياناً إيجاد
مبررات لتصرفات شخصياته. فمثلاً لم يكن مقنعاً ولا منطقياً، ذلك التحول في
شخصية الضابط المتحمس والأمين في عمله، كما ظهر في بداية الفيلم، الى ضابط
يحمل شهوة جامحة لتعويض هزيمة سابقة، بأن يلفق الأكاذيب ويزور أقوال
المتهمين ويهددهم بالفضيحة في مقابل توقيعهم على ما يريد. ولم يتوقف
السيناريو بالتأمل والتحليل لما حدث للضابط وظروف عمله بعد فشله ذاك، كما
لم يوضح المراحل التي مر بها هذا الضابط، من إنكسار وهزيمة، ورد فعله من
الحدث الذي بينته مقدمة الفيلم.
لقد كان واضحاً بأن الفيلم كان يتعجل الوصول الى النتيجة المثيرة للمتفرج.
وبنفس التعجل، يقفز بنا الفيلم الى مشهد المحاكمة، دون المرور على الآثار
النفسية والإجتماعية الجانبية والهامة التي لحقت بعائلات المتهمات في قضية
الدعارة، حيث لم يوضح تأثير هذه القضية الأخلاقية على المحيط الإجتماعي
لتلك الشخصيات. علماً بأن الفرصة كانت مواتية لتوضيح هذا الموقف من
المجتمع، بدلاً من الإكتفاء بحوار مباشر جاء على لسان المتهمات في مشهد
المحكمة الحماسي والذي يحمل طابع المباشرة الفنية.
وربما هناك من يقول، بأن رسالة الفيلم قد وصلت الى المتفرج. وهذا صحيح، إلا
أنها لم تصل بلغة الصورة، أي الصورة المعبرة. فقد كان الحوار الكثيف
مسيطراً وزائداً في أحيان كثيرة، وهو الذي كان له الفضل الأكبر في التوصيل.
مع إن هذا، لا يمنع من القول بأن الفيلم جديد في طرحه الإجتماعي الجريء،
وإن السيناريو قد صيغ بحيث يستفز المتفرج ويجعله يرفض هذا الإستخفاف بمصائر
الناس.
ومن المهم الإشارة الى أن عملية التلفيق والتجريم التي قام بها الضابط،
والتي ركز عليها السيناريو في هذا الفيلم، تختلف إختلافاً كلياً عن
الإضطهاد البوليسي من قمع وإرهاب وتعذيب. فالفيلم هنا تطرق الى سوء إستخدام
القانون والذي يؤدي الى التجريم. وهذا بالطبع أخطر بكثير من تصوير الإضطهاد
البوليسي، حيث أن الفيلم يشير بإصبع الإتهام الى النظام القانوني نفسه وليس
الى مجرد شريحة إجتماعية معارضة له. بل على العكس من ذلك، فالتجريم
القانوني هنا، واقع على شخصيات هي من نتاج عامة الناس، إن لم تكن من مؤيدي
هذا القانون نفسه.. وهنا تكمن أهمية الفيلم فكرياً وفنياً.
يبقى هنا دور المخرج عاطف الطيب في إيصال هذا الفيلم الى المتفرج، فعلاوة
على إقتناعه بفكرة الفيلم الجريئة، وهذا بالطبع يمثل شجاعة إجتماعية تحسب
له كمخرج، فقد أظهر إيمانه وتبنيه لهذه الفكرة بوسائله الفنية التي حققت
إستفزازية المتفرج وتعاطفه مع شخصيات الفيلم. ولا يمكن نكران ذلك الجهد
الفني المبذول من المخرج في الإحتفاظ بالنبض المتدفق والإيقاع السريع
واللاهث للفيلم. أي أن المتفرج يلهث وراء مجموعة من المتهمين الأبرياء،
يعرف مسبقاً تلك المأساة التي سيتورطون فيها. وبالتالي نجح عاطف الطيب في
الموازنة بدقة بين الإيقاع البوليسي للفيلم، وبين إيقاعه كفيلم يحمل هدفاً
فكريا إجتماعياً. |