بَريمان هكذا ينطقون في السويد اسم مخرجهم الكبير، الذي رحل في
الساعة الخامسة من فجر الثلاثين من تموز 2007
في التاسعة والثمانين من عمره مات انغمار برغمان في بيته، أو
معتزله الريفي، في جزيرة فور (إحدى الجزر التابعة لجزيرة غوتلاند)، يحيط
بسرير موته بعض من بقايا نسائه، اللواتي أحبهن يوما وأحببنه.
تاريخ برغمان حافل ومشحون لا بالفن والإبداع فحسب، بل بالحياتي
المثير والاستثنائي أيضا. وربما تكون أبرز ثلاث محطات في هذه الاستثنائيّة
هي: الإخراج، والنساء، والعزلة.
ست زوجات
وتسعة أبناء
النساء في حياة برغمان مادة للحديث لا تقل إثارة عن أفلامه.
فما أن ينتهي برغمان من قصة زواج حتى يبدأ أخرى. وحتى رحيله الى العالم
الآخر كان مقترنا بفكرة التوحد مع أمرأة أحبها يوما وأختطفتها منه يد الموت
القاسية.
تقول إحدى أشهر ممثلات السويد المعاصرات لينا أندريه: إنها
محظوظة لأنها التقت برغمان في شيخوخته، فنجت من حب مميت. كلمات لينا تتردد
في الصحف لتأكيد قوة جاذبية برغمان كرجل، وقوة حضوره عند النساء.
تزوج برغمان خمس مرات زواجا رسميا، ومرة واحدة زواجيا غير
رسمي، وأنجب تسعة أبناء يعمل أغلبهم في الفن السينمائي والتأليف. ولدت
ابنته ماريا من زوجته الأخيرة انغريد حينما كانت انغريد متزوجة من رجل آخر
وكان انغمار متزوجا من امرأة أخرى، أما ابنته لن أولمان فهي ثمرة علاقة، من
غير زواج، بالممثلة والمخرجة النرويجية الأصل ليف أولمان. أول مشروع للزواج
بدأه عام 1943، قبل عام من اشتراكه في أول عمل سينمائي. كانت زوجته الأولى
راقصة ومصممة رقصات، والثانية مخرجة ومديرة مسرح، والثالثة صحفية، والرابعة
عازفة بيانو وكاتبة مذكرات، والخامسة، ليف أولمان، ممثلة ومخرجة مشهورة لم
يتم زواجهما رسميا برغبة من ليف، والسادسة انغريد فون روسين، ربة بيت،
شاركت برغمان في كتابة بعض المذكرات واليوميات الشخصية، تزوجها في الأربعين
من عمرها عام 1971، حينما كان في الحادية والخمسين، واعتبر زواجه منها يشبه
" العثور على مستقر". لذلك كان موتها عام 1995 صدمة شديدة له. فقد كان يأمل
أن يمتد بها العمر لكي تكون الى جواره عند رحيله عن العالم، لكنها ماتت
بالسرطان في الخامسة والستين من عمرها. أحس برغمان أن موتها " طعنة موجهة
الى رغبته الشخصيّة في الحياة"، وتمنى أن " يتّحد بها بعد الموت". في
الثانية والعشرين من عمرها اكتشفت ماريا فون روسين، ابنة انغريد، أن أباها
الحقيقي هو زوج أمها الحالي: انغمار برغمان!
لذلك يقال إن موت انغريد عزز في نفس برغمان الميل الى مواجهة
الموت. والموت أحد مخاوف برغمان الكبيرة، لازمه منذ طفولته وتعمق الإحساس
به مع تقدمه في العمر، وانعكست أجواؤه على مادة أفلامه وعلى تصوره للحياة.
لكنه أخذ يبرأ منه كلما أوغل في الشيخوخة. ويرى أحد السينمائيين السويديين
أن كثرة معالجته وتعامله مع موضوع الموت جعلته يتقبل الموت كأمر طبيعي في
النهاية.
عزلة
اختيارية أم إجبار حر!
نزعة الخوف من الموت المتأصلة فيه رافقها ميل ملحوظ الى
العزلة. لكن هذا الميل سرعان ما أخذ يتعزز ويقوى مع تقدمه في العمر، على
العكس من خشيته من الموت، التي بدأت ترخي قبضتها عنه، كما لو أن النزعتين
تبادلتا المواقع في ذاته. وفي أواخر أيامه، وبالتزامن مع مرضه، اشتدت عزلته
في منزله الريفي. ويفسر البعض هذه العزلة بأنها لم تكن ناشئة عن أسباب
مرضية فحسب، بل لأن برغمان قال وحقق كل ما يريده، ولم يعد هناك ما يثيره.
ويربط آخرون ميله الى العزلة بموقفه الشخصي من العالم والحياة أيضا، الذي
هو أهم وأثمن ما في أفلامه. وعلى الرغم من عزلته كان برغمان حتى في أيامه
الأخيرة يتقبل المكالمات الهاتفية من أقربائه وأحفاده الصغار خاصة، وزاره
أحفاده في أيامه الأخيرة، وظل يرتبط بأهله المقربين جدا وعائلته عن بعد،
ولكن بشيء من الدفء. وكانت بعض نسائه يزرنه، يرافقهن بعض الأقارب والأبناء
من حين الى آخر. وقبل أسابيع من موته عزفت له زوجته الثانية مقطوعات لـ"
برامس " ، كان يحبها.
لم يكتب برغمان شيئا في السنتين الأخيرتين. بيد أن موته كان
شبيها بأحد نصوص أفلامه. كان كمن أعد إخراج حياته، حتى أنه قام بتسمية القس
الذي سيقيم القداس على روحه، وعاين وعيّن، قبيل موته، بقعة الأرض التي
سيدفن فيها، وزارها مرارا. وهناك من اقترح نقل رفات زوجته الأخيرة انغريد
الى كنسية جزيرة فور، لكي يحقق برغمان أمنيته الأخيرة: الإقامة الأبدية قرب
زوجته الأثيرة.
الأهمية
العقلية لبرغمان
لا يوجد خلاف حول الأهمية الفنية لما قدمه برغمان في أفلامه
وفي أعماله المسرحية أو نصوصه، فهو الاسم السينمائي الأول، وهو مخرج مسرحي
كبير، ورئيس المسرح 1963- 1966، المهيمن على صناعة الفيلم السينمائي
السويدي لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
عام 1976 هرب برغمان الى ألمانيا بسبب ملاحقات ضريبيّة، لكنه
عاد سريعا الى السويد، واعتبر الفترة الألمانيّة خسارة فنية.
بدأ برغمان حياته الفنية كاتبا للنص السينمائي عام 1944 ،
وأختتم حياته كاتبا للنص السينمائي. وبين هذين التاريخين أخرج ما يقرب من
خمسين فيلما، كتب أغلب نصوصها، وأخرج الكثير من الأعمال المسرحية العالمية
كهاملت والملك لير والآنسة جوليا. اعتبر السويديون فيلمه فاني والكسندر
1982 خاتمته السينمائية الكبيرة، التي أعادته الى المزاج الوطني السويدي.
فبرغمان لمن لا يعرفه جيدا، ولمن لم ير أفلامه، ليس مخرجا جماهيريا أو
شعبيّا، بل كان مخرجا نخبويا. في هذا الفيلم، الذي بلغ طوله خمس ساعات،
أعاد برغمان كتابة بعض نصوصه السابقة، مضيفا اليها لقطات من حياته العائلية
في طفولته، صانعا سيرة عائلية بالغة العمق والتأثير، جعلت المشاهد السويدي
يعيد تقييمه كخالق فني شديد التفرد، يعكس في تصوراته السينمائية بعضا من
خصوصية الحياة الإجتماعية والروحية السويدية .
خصوصية برغمان ونخبويته تقترن بموقفه العقلي من العالم ونظرته
الى الحياة. لذلك يُصنّف برغمان على أنه مخرج غير مساوم، قام بطرق غير
مباشرة، بتقديم "تعليقات" معتمة تتعلق بسير تطور المجتمع.
الخوف الوجودي، صمت الله، والخشية من الموت، موضوعات أساسية في
بناء أفلام برغمان وفي مشروعه العقلي، حيث تتحطم في مادته السينمائية "
مرايا التصور الشعبي". ففي " مساء المهرجين" 1953أول فيلم عدّه النقاد
فاتحة نضجه الفني، والذي لم يقبله المشاهدون إلا على مضض بعد زمن، يصور كيف
تحول المهرّج الى صورة عن المسيح، حينما تخلى الله عنه وهو يقاوم المهانة
والعذاب تحت سماء خرساء. وفي فيلمه الختم السابع (1957) الحائز على جائزة
مهرجان كان يعود الفارس من الحروب الصليبيّة مصحوبا بالطاعون وبأسئلة
عصيّة، ذهب لغرض ايجاد حلول لها. يتحايل الفارس على الموت، لسرقة لحظات
منه، حينما يلعب الشطرنج مع عزرائيل، لكنه يواجه بغموض العالم وروائح الموت
والخيبة. صمت الله، والانسحاق الفردي، وإعادة إحياء الموقف الوجودي في زمن
ظن فيه العصريون موت الوجودية، مادة أساسيّة في نصوص برغمان السينمائيّة.
وربما بسبب ذلك يرى نقاده أن الشعوب الكاثوليكية أكثر تقبلا لأفلامه من
المجتمع السويدي، الذي يميل، في الأغلب، الى العلمانية، والذي اختفت فيه
الأسئلة الوجودية من على سطح الصراع اليومي ودخلت تحت الأرض، الى ما يشبه
المقاومة السريّة.
إن وجودية الموقف العقلي جعلته في تعارض وخلاف دائم مع زمنه.
أما موقفه من الدين فكان شديد الخصوصية أيضا. فهو ابن قس، لكنه يرى أن
الموقف الكنسي الرسمي لا يخلو من القصور. وعلى الرغم من نقده للقسسة، إلا
أنه مرة تلو أخرى يثبت أن معتقداته تتماهى مع الصورة المسيحية في مغزاها
الداخلي، الإيماني.
الإله الأب القديم مات، لم يعد في داخلنا سوى الوحش "الشيطان".
عنفنا الداخلي، عدم تسامحنا، وعدم مقدرتنا على ايجاد لغة ثقة في عالم مليء
بالحقد، أبرز ما يميز عالمنا المعاصر، كما يرى برغمان.
وفي مجال السياسة يرى "أن عالمنا في طور السقوط. نظامنا
السياسي غير قابل للاستعمال ولا يقبل التسويات. سلوكنا الاجتماعي، داخليا
وخارجيا، فاشل. إنه لأمر مأساوي أننا لا نستطيع أو لا نريد أن نغير اتجاه
السير. أصبح الأمر متأخرا على الثورات، ولم يعد ممكنا جناية ثمارها
الايجابيّة. عالم الجماعة في كل ركن ينشد القضاء على الوجود الفردي
للإنسان."
الوجه
الآخر: احذروا الكلاب!
"منطقة خاصة: احترسوا، توجد كلاب!" هذا هو نص اللافتة
التحذيرية الموضوعة في مدخل بيت برغمان الريفي، الذي يبلغ ارتفاع سوره
الخارجي مترين. بيد أن ما يسلي أبناء جزيرة "فور" هو معرفتهم أن تلك
المنطقة لم تشهد وجود كلب منذ ثلاثين عاما!
على الرغم من أن الكلمات الواعدة ظلت تتدفق من الأفواه عقب موت
برغمان، إلا أن ذلك لم يمنع قلّة من الكتاب أن يقتربوا من جوانبه المعتمة
أيضا.
وحينما يقترب السويديون من جوانب مخرجهم غير السارّة لا ينظرون
اليه بحقد أو انتقام، بل يسعون الى تأكيد حقيقة ما، وتسجيل واقعة خالية من
الزيف. فهم يرون أنه وضع العمل فوق الإنسان. "إنه لمرعب ان تنتقد أعماله"،
يقول هننغ مانكل، أحد أشهر كتاب الرواية البوليسية في السويد، وزوج ابنته،
المخرجة أيفا برغمان. الممثلون والعاملون معه يعترفون كلهم بمقدرته الفائقة
على شحن جو غرفة العمل بالطاقة الإبداعية، ولكن بالكراهية أيضا.
كان هو الآخر ينتقد نفسه. ومرة تلو الأخرى كان يقع في صدام مع
زمنه. فلم يكن من السهل النظر الى العالم من منظار وجودي في الوقت الذي كان
السويديون مقتنعين تماما بأنهم ينتظرون من الفن أن يقدم لهم المشاهد
الممتعة.
لكنه أخذ يميل الى اللين بمرور الوقت، وفي فيلمه " فاني
والكسندر" 1982 تمكن من الفوز بقلب الشعب السويدي، كما يقول نقاده. فقد
جعلهم يحسون بـ "روح الشعب"، كما يقول أحد ممثلي الفيلم .
كان لفترة معينة مكروها: خشنا وجلفا. هذا ما كتبته إحدى صحف
المساء، مشيرة الجوانب الأخرى من شخصية برغمان. عنيد، غامض، ودقيق، هكذا
يصفه أحد أقرب أصدقائه الممثل السويدي ارلاند يوسفسون، ممثل آخر أفلام
برغمان "ساراباند" (2003)، المأخوذ عن المسلسل التلفزيوني"مشاهد من حياة
زوجية" (1972). أمّا الأطفال الذين مثلوا معه بعض أفلامه فيذكرونه بمهابة،
لامسين، أكثر من الكبار، قربه منهم، وحنّوه عليهم رغم صرامته. وهو أمر
يتناسب مع طبيعته المحبّة للنقاء الفطري والميّالة الى التفرد في عين
الوقت. سكان الجزيرة الصغيرة "فور"( 599 نسمة، تبعد سبع دقائق بالقارب عن
جزيرة غوتلاند، التي تستغرق الرحلة اليها بالباخرة من ستوكهولم ثلاث ساعات)
قاسموه هروبه الداخلي والخارجي، فحصّنوا وحدته وعزلته، حينما أخفوا عن زوار
الجزيرة الفضوليين موقع بيته. لكنهم كانوا يشيرون اليه كشخص مألوف. فهو
سويدي اعتيادي يتبادل معهم التحيات والحديث المقتضب عن الطقس، حينما يذهب
عادة لشراء صحيفة يومية من "كشك" الجزيرة الصغير.
اختار برغمان أن يذهب وحيدا الى نهايته، وكان له ما أراد. فقد
أسس قواعد حياته بالطريقة الحاذقة والمتفردة ذاتها، الخالية من التسوية،
التي صنع بها أفلامه.
المدى العراقية
في 22 أغسطس 2007
|