استوكهولم/ «الشرق الأوسط»: بكورال غنائي وموسيقى «الجلو»
المنفردة العزف، كانت قد بدأت مراسيم دفن عملاق السينما والمسرح انغمار
بيرغمان في مقبرة الكنيسة بـ«فورو»، الجزيرة السويدية الصغيرة التي عاش
فيها آخر سني حياته. مراسيم دفن تقليدية تجمع العائلة والمقربين، ولكن بلا
زهور توضع على قبره او كلمات تلقى عليه. هكذا اراد ان يودع بيرغمان الى
مثواه الأخير الشهر الماضي، بعمل فني متقن الاخراج، خططه ووزع ادواره
بنفسه: حدد مكان قبره، واختار القس الذي سيقرأ الصلوات على روحه، واوصى ان
ينقل اليه قبر زوجته، الممثلة انغريد فون روسين (انغريد بيرغمان)، الراحلة
منذ سنين، الى جوار قبره، ليستريحا جنبا الى جنب. وكذلك اختار بيرغمان
الموسيقى والنص، وحتى من سيحمل جثمانه على الاكتاف. انه العمل الفني الاخير
لانغمار بيرغمان، المخرج السويدي الذي ترك بصماته على تاريخ السينما
والمسرح العالميين، عبر حقب تاريخية كثيرة.
وبرحيله في الثلاثين من يوليو (تموز) 2007 ودع عالم الفن
الدرامي والفن السابع واحدا من آخر اعمدته. رحل منتظرا الموت فاتحا له
ذراعيه، اذ كان يقول لسنوات عديدة انه سيرحب به ان جاءه ذات يوم، لانه
سيجمعه بآخر زوجاته، الخامسة، انغريد فون روسين. لذلك ابدى بيرغمان رغبته
قبل وفاته بنقل جثمانها الى قبره. بيرغمان تناول فكرة الموت في العديد من
افلامه التي اخرجها خلال عقود، ذلك بعد ان تخلص من هاجس الخوف من الموت، في
فترة سابقة، امتدت مذ كان صبيا، وبات فيما بعد مستعدا لملاقاته، كما يقول،
بل ويخرج مراسيم دفنه. وربما من غرائب الصدف ايضا، ان يموت في نفس الشهر
الذي ولد فيه، رغم ان الفارق تسعة وثمانون عاما وخمسة عشر يوما! اذ ولد
انغمار بيرغمان في الرابع عشر من يوليو عام 1918 .
حياته الفنية امتدت الى ستة قرون، ولو اخذنا بنظر الاعتبار ان
عمر تاريخ الصورة المتحركة هو مائة عام، فان بيرغمان يحتل المساحة الاكبر
من تاريخ السينما العالمية. وقد واكب تطور تقنية الصوت والصورة منذ بدايات
هذا الفن، الذي لم يترك جزءا منه بدون ان يتعلمه ويستفيد منه باتقان، بل
وينقله الى عالمه المحبب، المسرح.
والمعروف عن بيرغمان خارج بلاده، انه واحد من عمالقة السينما
العالمية، مخرج وسيناريست انتج، خلال العقود الستة المنصرمة، اربعة وخمسين
فيلما، حصدت اربعة منها جوائز الاوسكار، لكنه في بلده السويد، هو ملك
المسرح، اذ فاقت مسرحياته عدد الافلام التي اخرجها اكثر من الضعف، حيث وصل
ما اخرجه من مسرحيات الى 126 اغلبها من كلاسيكيات المسرح العالمي: شكسبير،
ستريندبيرغ، وموليير، مثلما اخرج لهنريك ابسن واونيل، ولشتراواس وميشيما
وغومبروفيتش وغيرهم، بالاضافة الى تسع وثلاثين دراما اذاعية. لكن بيرغمان
ذاته، كان يميل اكثر الى المسرح، اذ يجد فيه بيتا دافئا يشعر فيه بمعايشة
خاصة. وهذا ما أكده شخصيا عندما اعلن اعتزال الاخراج السينمائي في بداية
ثمانينات القرن الماضي، بعد ان اخرج فيلمه الشهير «فاني والكسندر» عام
1982، ليواصل نشاطه في المسرح، لكنه برغم هذا لم يبتعد عن السينما، تقنيا
على الاقل، وهو يعيش اعماله الدرامية في المسرح. فقد استخدم تقنيات اللعبة
السينمائية على خشبة المسرح، مثلما نقل اساليب العمل المسرحي الى السينما،
كما يشير اكثر من ناقد متخصص. وهذه الادوات التي زاوج فيها بيرغمان بين
المسرح والسينما يمكن تتبعها، من خلال طبيعة حوار الشخصيات وتراكبية بناء
النص، واسقاطات الضوء، واللقطات السريعة، والمؤثرات واداء الممثل، وكلها
ادوات تختلف في استخدامها في الفيلم عن المسرح عند غالبية المخرجين، لكنها
عند بيرغمان تحمل سمات مشتركة.
والى جانب كل هذا فإن اعمال بيرغمان الابداعية، ان كانت في
المسرح او السينما، تتسم بصفتين اساسيتين تتآلف فيهما الغرابة والألفه، اي
ان السمة الغالبة على اعماله، خاصة بالنسبة للمشاهد الذي لا ينتمي الى بيئة
العمل الفني وشخوصه، هي انها غريبة في طبيعتها لكنها في ذات الوقت تبدو
مألوفة، وكأن المشاهد غير السويدي يألف تفاصيلها، وهذا يخص العمل السينمائي
على وجه التحديد.
واهم ما يميز انغمار بيرغمان هو صدقيته في التعامل مع عالميه
الفنيين: المسرحي والسينمائي وادواتهما. وتتجسد هذه الصدقية في وفائه
الخالص للنص ومضمونه. انه يلتزم بالنص احتراما لمؤلفه، ولكن الطريقة التي
يعرض فيها النص فهي خاصيته وحده، اي انها تأخذ صيغة «بيرغماتية»، بمعنى انه
يحترم النص ولا يتجاوزه، لانه يؤمن بصدقية المضمون. لكن هذا المضمون هو
الذي يكشفه للمتلقي ويفصح عن مدلولاته، فهو كمخرج ماهر في عمله، ينقل النص
الى الجمهور بادواته الخاصة، او بعبارة اخرى يجعل الافكار التي يحملها النص
حيوات متحركة على خشبة المسرح، هذا العالم الذي يرتكز، وفق بيرغمان على
عناصر اساسية ثلاثة هي: الكلمة والممثل والمتفرج.
فالكلمة التي تنطلق من حنجرة الممثل مصحوبة بالايماءات وحركات
الجسد، يجب ان تكون لها مدلولات واضحة معبرة ذات تأثير مباشر في نفسية
المتلقي. واهتمام بيرغمان بالكلمة والنص، جسّده في ميله لاخراج روائع
الدراما الكلاسيكية، اذ يرى فيها تجسيدا حسيا لهموم الانسان في كل الازمنة
والعصور، اكثر ما تعبر عنه النصوص المعاصرة. وما اخراج بيرغمان المتكرر
لمسرحية «ماكبث» على سبيل المثال، الا تأكيد على محاولة بيرغمان الهادفة
الى تأصيل هموم الانسان المعاصر في النص المسرحي، كما يشير المخرج
والاكاديمي العراقي فاضل الجاف في كتابه «في المسرح السويدي المعاصر». لكن
تكرار اخراجه لماكبث لم يكن استنساخا، بل كان متلائما مع الاحداث العالمية
في حياة الانسان المعاصر. فحين اخرج هذه المسرحية لاول مرة عام 1940 امام
مجموعة من الطلبة، «طرح بيرغمان موضوع اجتياح المانيا للدنمارك، وحين
اخرجها للمرة الثانية هاجم فيها التوتاليتارية النازية بعنف، خالقا من
التضاد الصارخ بين اللونين الاسود والاحمر بعدا رمزيا معبرا عن الصراع
الدامي من اجل السلطة».
هذا على صعيد المسرح اما على صعيد السينما فقد تناول بيرغمان
امورا اكثر تعقيدا وهي تدخل الى عمق شخصية الفرد ومعاناته، وهو بهذه الشهرة
لم يذهب الى هوليوود، ولم يكن يرغب بذلك البتة، اذ كان يملك سينماته
العالمية الخاصة به.
اول فيلم سينمائي اخرجه بيرغمان كان بعنوان «كريس» وذلك في عام
1946 لكن اول فيلم أخرجه الى العالمية كان فيلم «ابتسامة ليلة صيف» عام
1955، وهو فيلم كوميدي يعرض للحياة الاجتماعية في السويد، بداية القرن
الماضي. هذا الفليم جاء بعد ست سنوات على كتابته سيناريو فيلم نال جائزة
مهرجان كان عام 1949 وهو فيلم «هانس». وهكذا توالى انتاج افلامه المتلاحقة
«الفراولة البرية»، «صرخات وهمسات»، «مشاهد من الحياة الزوجية»، «سوناتا
والخريف»، «الختم السابع» وغيرها وصولا الى «فاني والكسندر»، آخر فيلم
اخرجه بيرغمان للسينما بداية ثمانينات القرن الماضي. وفي هذا الفيلم انعكاس
لمواقف في طفولة بيرغمان التي عاشها في كنف اب يعمل في الكنيسة وام تعمل في
التمريض، وخاصة تلك التي كان يتعرض لها للضرب بعصى فض الغبار عن السجاد،
لمخالفة ارتكبها، كما يذكر بيرغمان في كتابه «لاترنا ماجيكا»، عام 1987.
هذه الاحداث جسدها في الفيلم، حيث تتلقى مؤخرة الطفل الكسندر ضربات عصى
القس الذي تزوج امه، وقد كان صارما في تعامله مع الكسندر واخته فاني. هذا
الطقس، نقله بيرغمان الى الفيلم. وفي كتابه «لعب وهياج» الصادر عام 2002
والذي يغطي الحياة المسرحية لبيرغمان بين اعوام 1938 و2002 كتب هنريك
شوغرين، وهو اكثر باحث اقترب من حياة بيرغمان الفنية والشخصية «لقد هزني
وصدمني بعنف لأن خيال الفيلم جسد، بشكل جلي، حالة معاشة حقا». اما المسرح،
فأول لقاء لبيرغمان معه كان في عام 1938 باخراجه مسرحية بعنوان «الى
الميناء الغريب»، وكان نصاً منسياً لممثل انجليزي، يتناول مسألة الحياة ما
بعد الحرب. أما آخر مسرحية اخرجها قبل وفاته فكانت للكاتب الدرامي النرويجي
هنريك ابسن بعنوان «شبح» في عام 2002، ذلك بعد عشرين عاما من اعتزاله
الاخراج السينمائي، رغم انه اعلن اكثر من مرة، خلال عقد من الزمان انه
سيعتزل الاخراج المسرحي ايضا، لكنه في كل مرة يقول هذا، يأتيه وحي الابداع
المسرحي يداعب افكاره ويقوده الى خشبة المسرح ليصنع ابداعا جديدا. مسرحية
«ابسن» هذه قد اثارت ردود فعل عنيفة من قبل طبقات المجتمع المحافظة، حين
خرجت للوجود لاول مرة عام 1882، لانها لامست موضوعا في غاية الحساسية، في
ذلك الوقت، وهو امراض الجنس، مثل «السفلس».
ومنذ 2002 حتى وفاته عام 2007 عاش بيرغمان حياة هادئة في جزيرة
فورو وسيبقى فيها الى الابد، لكنه أيضاً سيبقى في الذاكرة، فهناك شارع
سيطلق عليه اسمه وهنالك مهرجان فني سنوي سيحمل اسم بيرغمان، هذا على الاقل
في بلده السويد.
الشرق الأوسط
في 22 أغسطس 2007
|