في العام 1964 كانت سنوات أربع قد مرت منذ الصخب الذي ثار حول
فيلم «المغامرة» للمخرج الإيطالي (الراحل عن عالمنا قبل أيام) ميكائيل انجلو
انطونيوني، خلال دورة العام 1960 لمهرجان «كان» السينمائي. خلال تلك السنوات
كان تبدد الغضب الذي اندلع في وجه فيلم رأى فيه كثر من المتفرجين عملاً مملاً
بالكاد يمكنهم تعيين أنه يريد أن يقول أي شيء. فالناس خلال تلك السنوات كانت
اعتادت الفيلم، كما كان زال سوء تفاهمها مع سينما انطونيوني. وكان نقاد كبار
وسينمائيون من الصف الأول، ببيانهم الذي أصدروه ضد الذين أثاروا الصخب المناهض
لـ «المغامرة» في «كان»، هم الذين أسهموا في إعادة الاعتبار الى انطونيوني
وسينماه، ما سهل عليه أن يحقق فيلمين تاليين لـ «المغامرة» شكّلا، في شكل أو
آخر ثلاثية مع هذا الأخير، أولهما «الليل» (1961) والثاني «الكسوف» (1962).
وهكذا اذاً حين عرض انطونيوني فيلمه الثالث «الصحراء الحمراء» سنة 1964، كانت
مكانته قد ترسخت تماماً، وتحديداً في الوقت الذي انتهت فيه، تقريباً، مرحلته
الإيطالية (سجل «الصحراء الحمراء» هذه النهاية)، لأن أنطونيوني بعد «الصحراء
الحمراء» بسنتين سيذهب الى لندن ليحقق فيلماً انكليزياً – عن رواية للأرجنتيني
خوليو كورتاثار – هو «بلوآب»، وبعد ذلك سيتوجه الى الولايات المتحدة ليحقق «زابريسكي
بوينت»... مواصلاً منذ ذلك الحين بداوة سينما وتجواله في أفلام تقول العالم
وشؤونه، ونظرة المبدع اليه.
> لكن هذا كله كان لا يزال بعيداً – الى حد ما – زمن «الصحراء
الحمراء». ذلك أن هذا الفيلم جاء ايطالياً خالصاً، في معناه ومبناه. وان كان
جدد فيه المخرج تجديداً أساسياً بالنسبة الى سينماه السابقة: فـ «الصحراء
الحمراء» كان أول فيلم صوره بالألوان. بيد أن هذه الألوان لا ينبغي أن تخدعنا،
لأن «الصحراء الحمراء» جاء – في نهاية الأمر – أشبه باستكمال للثلاثية، ليصبح
معها رباعية، حيث نجد أنفسنا من جديد أمام الحب المستحيل والملل إزاء الشرط
الإنساني، والسينما الحميمة، وصعوبة التواصل، والشعور المبهم بمرور الزمن
وصولاً الى عجز اللغة عن التعبير عما هو جواني لدى الكائن البشري. ونعرف أن
انطونيوني جعل من كل هذه المواضيع جوهراً لأفلام مرحلته الحميمة التي شعلت لديه
النصف الثاني خمسينات القرن العشرين والنصف الأول من ستيناته. طبعاً لو عرض
انطونيوني «الصحراء الحمراء» في العام الذي عرض فيه «المغامرة» في «كان» كان من
الممكن أن يلقى «الصحراء الحمراء» القدر نفسه من الاحتجاج الذي لاقاه
«المغامرة» أولاً. لسبب وجيه أن رد الفعل الأول كان ناجماً عن سوء تفاهم بين
الجمهور وسينما انطونيوني. فهذه السينما لا تبدو انها تقول شيئاً. أو بالأحرى
هي تقول ولكن بهمس، ومن دون دراما صاخبة. تقول الأشياء من خلال جوانية أصحابها
ومن خلال شعورهم الطاغي بوحدتهم. والجمهور، حتى النخبوي منه، لم يكن معتاداً
على مثل هذا الخطاب السينمائي الجديد. ولكن اذ عرض «الصحراء الحمراء» بعد أربع
سنوات من «المغامرة»، وبعد أن كان النقاد قد اشتغلوا طويلاً على سينما
أنطونيوني يحللونها في دراسات معمقة، رابطين بينها وبين أزمات الإنسان المعاصر،
لم يكن للجمهور النخبوي إلا أن يتبع. ومن هنا لم يصل ولو صوت احتجاج واحد حين
فاز «الصحراء الحمراء» بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين لذلك العام. علاقة
الجمهور مع سينما انطونيوني كانت هي التي تبدلت... أما انطونيوني نفسه، فلن
يتبدل، ويبدل سينماه في شكل شبه جذري، إلا مع خروجه من ايطاليا.
> هنا، في «الصحراء الحمراء» كنا لا نزال في قلب ايطاليا،
وتحديداً في قلب مشاكل الطبقة الوسطى المدينية الايطالية وفي قلب مشكلة الثنائي
(الزوجين). وفي هذا الفيلم تدور الأحداث حول الأزمة الخانقة التي نعيشها – على
المستوى الوجودي العام، كما على مستوى الحياة والعلاقات الاجتماعية – شخصية
الفيلم النسائية الرئيسية جوليانا (مونيكافيتي، التي كانت لعبت الدور الأساس في
«المغامرة» وأصبحت منذ ذلك الحين رفيقة انطونيوني وملهمته). وهذه الأزمة هي
اختصار في الحقيقة لكل الأزمات التي عبر عنها انطونيوني في القسم الأقوى من
أفلامه. انها امرأة حسناء تعاني شيئاً من اللااستقرار العقلي منذ أصيبت في حادث
سيارة كاد يقضي عليها. انها، كما سيتبين لنا بسرعة من خلال المنطقة الصناعية
التي تدور فيها حكاية الفيلم، ومن خلال لغة الفيلم الهندسية التقنية، امرأة
تنتمي الى طبقة عصر التكنولوجيا الصناعية، حيث كل شيء بات يحسب بالأرقام ويدرس
على ضوء جدواه المادية. جوليانا متزوجة من شخص ناجح في عمله هو أوغو، الذي
يمارس مهنة شديدة الحداثة: مهندس مصانع ومنشآت، ولها منه ولد. انهما الآن معاً
في تلك المنطقة الداكنة اللون المغطاة بالغبار والضباب. هو منهمك في عمله
والسعي الى النجاح. أما هي فتغوص في وحدتها يوماً بعد يوم. انها تهيم على وجهها
بين المنشآت وفي أحضان طبيعة لم تعد كالطبيعة. تشعر أنها في انفصام تام عن
العالم، وعن العائلة وعن زوجها. بالكاد تجد لديها رغبة لقول كلمة. يحيط بها
عالم لا تمت اليه بصلة... لا تعرف كيف تتواصل معه، بل لا تريد ذلك أصلاً. وهي
تشعر في كل لحظة أن ثمة ما هو خطأ... لكنها لا تعرف ما هو. ويحدث ذات يوم أن
يصل الى المكان المدعو زيلر، وهو صديق زوجها القادم لتسيير بعض الصفقات. وزيلر،
ما أن يرى جوليانا، حتى يشعر بنفسه منجذباً اليها. بل يشعر أنه قادر على فهم ما
تعاني منه، وبالتالي على سبر جوانيتها، هو الذي يفتنه جمالها وما يبدو لديها من
غموض. من هنا لم يعد غريباً أن يفهم زيلر هذه المرأة أكثر كثيراً من فهم زوجها
لها. غير أن هذا لا يحل المشكلة بالطبع... طالما أن ما يبدو زيلر مستعداً
لتقديمه غير كاف... وهكذا بعد بارقة أمل ضئيلة تلوح ذات لحظة يعود المناخ نفسه
ليخيم على حياة جوليانا وأفكارها... ويبدو بالتالي أن أي شيء لم يحدث خلال
ساعتي الفيلم.
> واضح هنا أننا أمام فيلم همه الرئيس – من خلال شخصياته ولا
سيما من خلاص شخصية جوليانا – أن يتحدث عن هذا العالم الذي نعيش فيه، والذي
يتطور يوماً بعد يوم من الناحية المادية، ولكن من دون أن يكون التطور الروحي
والعاطفي فيه موازياً لذلك التطور. انه فيلم يرصد، من خلال جوليانا والعالم
الغريب المحيط بها – حكاية عالم بات شديد القسوة، ولكن أيضاً بات من الغباء
بحيث لم يعد في وسعه أن يشاهد الكون الذي خلقه. ومن هنا حتى وان كانت شخصية
جوليانا تبدو ملتبسة وكالمصاب بمسّ، سنلاحظ في سياق الفيلم وموقعها منه، انها
الوحيدة التي تأمل «بالشفاء» طالما انها الوحيدة التي تعي حقيقة هذا العالم
والتي تشعر في عمق أعماقها بالاستلاب الذي يجابهنا العالم به.
> من هنا لم يكن غريباً أن يبدع أنطونيوني (1912 – 2007) في
تصوير بطلته بأناقتها وغموض نظراتها وسط ديكور تلك المنطقة الصناعية الجرداء في
رافينا، حيث لا يتشكل الديكور إلا من منشآت باردة صامتة مليئة بالأعتدة
والآلات، حيث يهيمن الغبار المحمر اللون، والضباب الأبيض ودخان المصانع على كل
شيء. وتتشكل الخلفية الصوتية من أبواق السفن في المرفأ الصناعي القريب. جو خانق
هو هذا الذي صوره انطونيوني في هذا الفيلم... جو خانق له ولبطلته، ولكن أيضاً
لنا، نحن المتفرجين، الذين عشنا ساعتين متماهين تماماً مع مونيكا فيتي، في شكل
زاد من شعورنا بمعاناتها... بل بالأحرى، بمعاناتنا.
الحياة اللندنية
في 07 أغسطس 2007
|