عن رحيل بيرعمان وأنتونيوني

سينماتك

إنغمار برغمان..

أو محاولة للتقرّب من عوالمه

هولندا ـ نوزاد بكر

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

قبل ايام قليلة رحل انغمار برغمان، المخرج السينمائي السويدي عن عمر ناهز التسعين بعد ان ترك لنا ما يقارب الخمسين فيلما وضعف ذلك من اعمال مسرحية. إن مسحاً لنتاجه السينمائي يبرز فرادة موقعه ضمن السينما العالمية. هذه الفرادة تجلت في القضايا التي تناولها عن اشكالات الحياة وتناقضاتها، تعقيد العلاقات الانسانية وتعدد مستوياتها، ثنائية الحب/ الكراهية، العنف الداخلي، التقرب الشديد من عالم المرأة وتسليط الضوء على انفعالات الانسان الاولية والثانوية المركبة.

لقد قيل وكُتب الكثير عن استخدام برغمان لرموز وهواجس خاصة تحمل معاني شخصية جداً، ألا ان أهميتها تكمن في أنه عرضها بأشكال تبدو و كأنها تخص كل مشاهد لأفلامه. فالدهشة والغرابة هما أول ما ينتاب المرء لاكتشافه سريعا مدى القرب وحتى التماهي بينه و بين بعض شخصيات أفلامه. ثمة تشابه ما، بين مصادر القلق والخيبة والخوف يربط المشاهد بخيط واهٍ غير مرئي بهم. لكن الدهشة هذه سرعان ما تتحول حيرة، عندما يبدأ برغمان بإعادة تشكيل وتركيب شخصياته جاعلا من الدراما والاحداث مسرحاً لمستويات متعددة من التصادم والتحول. والحيرة هذه تغدو أحيانا تيهاً وحتى ضياع عندما يتركنا برغمان أمام نهايات افلامه المفتوحة وإشكالاته المستعصية على الحل. لعل تفحص المناخات الثقافية و السينمائية التي تأثر بها أو تفاعل معها عبر السنين قد تقربنا من فهم فرادته هذه.

بدأت خصوصية برغمان تتجلى أولاً من طبيعة وماهية المسائل التي تناولها في زمن كان التركيز فيه والغلبة في الثقافة بشكل عام والسينما بشكل خاص للقضايا الاجتماعية والسياسية في عصر صعود الايديولوجيا والاستقطابات الحادة وإنعكاساتها على حياة الناس. لقد كان همّ برغمان الانسان كفرد غير منتمي لأية جماعة. فحين تناول الحرب وأهوالها في فيلمه (العار 1968)، رصد التحول النفسي لبطله (ماكس فان سيدو) ذي الشخصية الهشة وهو يتدهور وينهزم وحيداً. ينهار مجتمع فتتحطم العلاقات الاجتماعية ويصبح هذا الرجل الضعيف فظاً شرساً. يتمحورالفيلم برمته حول عنف البطل الداخلي.

الى هذا، فان برغمان لم يتبع أية موجة سينمائية لفترة طويلة ولم يؤسس لأية مدرسة سينمائية. بكلمات اخرى، لا يمكن تصنيفه في خانة اي من الاتجاهات السائدة. لكنه بالطبع لم يبدأ هكذا. فبعد النجاح الساحق لفيلمه يالفراولة البرية" (1957)، بدأنا نرى تأثيره الواضح على السينما الفرنسية و الايطالية. فإنطلاق تيار الموجة الجديدة في فرنسا لم يكن بعيداً من تأثيره هذا. فقد جمع بينه وبين هذا التيار الاهتمام العارم بجوانية حياة الانسان وإنشغالاته الوجدانية.

لقد وصف النقادُ برغمان غالبا بأعظم مخرج فرنسي في السويد! يرجع ذلك الى أن أفلامه الاولى تضمنت أجواء الغموض المترافقة مع مصائر أبطاله الفاجعة. وهذا ما كان سائدا في سينما الثلاثينات الفرنسية. حتى أن فيلمه "إبتسامات ليلة صيف" (1955) جاء متطابقا، من حيث موضوعه وأجوائه، مع فيلم "قاعدة اللعبة" (1939) لجان رينوار.

لكن برغمان وُصف أيضا كأعظم مخرج ألماني في السويد، بسبب النزعة التعبيرية التي لازمته طويلاً، والتي كانت سائدة في الفن و السينما في المانيا الثلاثينات مع رائدها فريتز لانغ. وجدت التعبيرية هذه التي ولع برغمان بها طريقها الى التعبير السينمائي (خاصة في افلامه الاولى) من خلال العناية بالديكور والخلفية وإظهار التناقض الحاد بين الضوء "من مصدر وحيد" والظلام، وعبر إبراز أو تلوين منطقة الظل. وكل ذلك من خلال طاقم من الممثلين والممثلات، ذوي قدرات تعبيرية ومسرحية فائقة. هذا كله نلحظه مثلا بوضوح في فيلمه "الفراولة البرية".

وأخيرا وُصف برغمان كأعظم مخرج روسي لميله الى معنى وروح الصورة/اللقطة والاطار/ الكادر. ومما لا شك فيه ان برغمان الشاب استلهم أو تشرب من كل المصادر السينمائية السائدة، لكن التوصيفات هذه التي تحصره أو تصنفه ضمن إطار بلد أو إتجاه معين ليست دقيقة. فأفلامه الاولى تظهر مدى إنتقائية خياراته من كل الاتجاهات والمدارس. فهذا "المزاج الفرنسي" الذي طبع أفلامه الاولى: الحب الاولي والبراءة في جو متحول ومصائر أليمة، له جذور عميقة في التراث المسرحي السويدي. وفيلمه (الفراولة البرية) يمكن ربطه بوضوح بأجواء الكاتب المسرحي السويدي الشهير ستريندبرغ. فحكاية هذا الفيلم جوانية ذات مزاج كابوسي، عن الشد في العلاقات بين الناس أو بينهم وبين الطبيعة. كل هذا في ذهن شخص واحد في مشاهد متتالية تخلط الحلم بالواقع. مسعى الفيلم هو في النهاية أخلاقي. فالحكاية عن رجل هرم مغرور، يطرأ تغير على وجدانه ويلتبس لديه مفهوم الحب وموقعه . هذا الخوف والقلق الوجوديين و النموذج المعقد من الفلاش باك ضمن الفلاش باك، هي مواضيع أثيرة طغت على الثقافة السويدية آنذاك. ومثل هذا الموقف والمعالجة هو بالضد تماماً لما جاء به السينمائيون التعبيريون الالمان. فالسمة الغالبة لهؤلاء كانت في خلق عالم من الهوس ومحيط من الاوهام في اطار تأملي وباطني كما نعثر عليه في فيلم لانغ الشهير (ميتروبولس).

أما بالنسبة لتأثير الجو والمزاج الروسيين في أعماله، فمما لا شك فيه ايضاً أن برغمان يشترك مع المخرجين الروس في العناية الفائقة بابراز تفاصيل شخصياته الروائية وفي دراسة طباع الفرد وسلوكه من خلال اللقطات المقربة وتعابير الوجه وأخيراً الاهتمام بتركيب وإعادة تركيب الصورة السينمائية وطرق توليفها. لكن برغمان لم يكن بحاجة الى إقتباس ذلك من السينما الروسية. فهذا الإتجاه كان حاضرا بقوة مثلا في أفلام مخرج سويدي آخر سبق برغمان في تقنياته هذه هو ستيللر.

ومن الجدير بالذكر أن للموسيقى علاقة واضحة بموضوعات أفلام برغمان وأجوائه. فبالإضافة الى إخراجه لفيلم مستلهم من أوبرا لموزارت (الناي السحري 1975) و فيلم آخر من أجواء السيمفونية التاسعة لبيتهوفن وبنفس اسم قصيدة شيللر في حركة السيمفونية الاخيرة (أنشودة الفرح 1950)، فإن موضوع فيلمه الشهير (الختم السابع) قد استلهمه ايضاً من اوبرا "كارمينا بورانا" لكارل اورف. أغاني طرقات لناس بلا مأوى في سنوات الطاعون. حضارة تنحدر وتتدهور وأناس يبتكرون أغاني جديدة. وحتى فيلمه "فاني والكسندر" (1982) ذو الموضوعات والحكايا المتعددة قد استلهم بعضه من اوبرا للموسيقار الالماني هوفمان. اما بداية الفيلم مع احتفالات عيد الميلاد فقد أخذها من اوبرا "كسارة البندق" لتشايكوفسكي حيث يجلس طفلان في الغسق عشية عيد الميلاد، ينتظران ان تضاء الشجرة وتفتح أبواب القاعة.

وإذا كان لنا أن نحدد أهم ما تميز به برغمان وطبعت أفلامه بها من أجواء وأمزجة وايقاعات، فيمكن لنا أن نشير الى:

1 ـ المقاربة الاخلاقية للفن: لقد قال مرة في مقابلة له: "الشيء الوحيد الذي علينا أن نتعامل معه بصيغة درامية هو المشكل الاخلاقي... وجودنا كله مبني حول مسألة فيما إذا كان ممكناُ لنا عمل شيء ما من عدمه. إنها هذه العقد والاشكالات التي نواجهها يومياُ والتي تحدد مجمل سلوكنا تجاه الآخرين".

2 ـ الولع والنزوع لخلق نماذج مجردة وجديدة للاشكالات الاخلاقية الكلاسيكية. ثنائي الرجل/ المرأة، العلاقات الثلاثية، دور الجنس وعلاقة الانسان بالخالق والطبيعة. لقد أبدع برغمان في خلق ايقونات رمزية وشخصيات مميزة وفريدة. إن المشهد الشهير لماكس فون سيدو وهو يلاعب "الموت" الشطرنج في فيلمه (الختم السابع) أصبح خالداُ في ذاكرة السينما العالمية. الموت بشكل مهرج ابيض ملفع بالسواد، شخص لايحمل اي سر. أنه باختصار فيلم منعتق من كل أنواع العصاب، تسوده هدنة بين ورع طفولي وعقلانية صارمة. وبالمناسبة فإن للموت والشياطين حضوراً شبه دائم في أفلامه بصيغ متعددة ومتغيرة، وهو جزء من إرث له كإبن كاهن لوثري متشدد. لقد لجأ برغمان الى أقصى درجات الرمزية في تعامله مع المعتقدات المسيحية السائدة. فثلاثيته (عبر المرآة، ضوء الشتاء والصمت) في بداية الستينات، عن علاقة الانسان الملتبسة بالخالق وتحولات الشك والاسئلة الشائكة، إبتعد فيها عن طرح اليقين والتساؤلات الكلاسيكية، جاعلاُ من الحيرة دافعه في رحلة البحث عن مغزى الحياة. أما الموت فهو شىء فوق طبيعي، ليس للخالق دوراً فيه. "عبر المرآة" كان البداية، بداية شيء جديد. أشخاص يخرجون من البحر وقد أتوا من حيث لاندري. الفيلم ذو نبرة إنفعالية ورومانسية. أما "ضوء الشتاء" فيمثل انتقالاً من إشكالية دينية الى إشكالية أرضية. قس يصارع الموت عاطفياً. يفقد زوجته ليحتاج الله، لكنه لايلقي الا السكون. من هنا يبدأ شكه ووحدته واكتشافه ان الموت هو نهاية لكل شىء.

أما في فيلمه "مشاهد من حياة زوجية" (1973) فقد قدم حكاية فريدة. إستحالة ديمومة الحب بين إمرأة ورجل تدفعهما للافتراق، ثم يغدو الافتراق بينهما مستحيلاً. كل المشاعر والامزجة والمواقف تتغير وتتقلب. ويبدو أن برغمان لاتعنيه فكرة الزواجات السعيدة. فهي تتشابه أخيرا في سعادتها. ولكنه، كالكاتب الروسي الشهير تولستوي في روايته (آنّا كارنينا)، مأخوذ بالزواجات التعيسة، التي ينفرد كل زواج بتعاسة مميزة. إنها ربما دعوة من برغمان الى أن الزواج زائل، والحب باق خالد!

3 ـ رغم أن برغمان رفض دائماً المحتوى العدمي في أفلامه، مشيراً الى أنه كان مشغولاً دوماً بمسألة الفراغ الذي يستهلكنا ويحتوينا. إلا أن شيئاً من العدمية، كاتجاه ومنطلق فلسفي غلف باستمرار مواضيع أفلامه. هنالك رفض وشك بالمنظومة الاخلاقية السائدة ولهياكل السلطة وخاصة الدينية منها. ثم أن الجو الكئيب والايقاع الرتيب وحيرة أبطاله، التي طبعت أفلامه بها، تحمل إشارات تقترب من العدمية في نفيها لوجود حقيقة ما. وهذا كان حال معظم الاتجاهات الفنية في القرن الماضي كالتكعيبية والسوريالية والمودرن آرت في عدم تمثيلها بل ورفضها لكل قواعد الواقع والطبيعة، وحال مدارس فلسفية عديدة كالبنيوية وما بعد الحداثة في تجاهلها أسس الحضارة المعاصرة والمعرفة وتقدم التأريخ الايجابي. ولو قارنا هنا برغمان بالمخرج الايطالي فيلليني، والذي كان ناقداً حاداً وساخراً لمجتمعه (بشكل مبطن غالباً)، فقد تناول هذا أيضاً مسألة الفراغ الذي يلفنا، إفتقار حياتنا للحب ومقدار الزيف الذي يغلب على سلوكنا وكانت له مواقف جريئة من العقد والاشكالات المجتمعية. لكن فيلليني ربط هذا كله دوماً بشىء ما، بدائل أو مخارج ما. أما خيارات برغمان فقد ابتعدت عن إحالات كهذه، لتكتسب صفات صادمة ومرعبة.

4 ـ برع برغمان في خلق ايقاع ومزاج سينمائيين خاصين به. فقد تميز في استخدام بعض التقنيات السينمائية: قطع سريع ومفاجىء للقطات، تزامن أو توازٍ للقطات الطويلة و تصوير مقرب للوجوه، باعتبار أن عمل السينما يبدأ بمقاربة وجه الانسان. وقد نجح برغمان في خلق ثنائية خاصة في أفلامه: المزج بين الالق البارد والكآبة الشفافة، الشد بين أناس يحملون مشاعر وعواطف أولية وبين أولائك الذين يجسدون الحكمة والرزانة والتحول المستمر في الادوار بين هؤلاء واولئك لنصل الى حالة من توازن هش، مفسحة مجال التعبير عن أقصى درجات الانفعال الناجمة عن صراعات هؤلاء فيما بينهم أو مع ذواتهم. في فيلمه "برسونا" (1966)، مونولوج مزدوج بين إمرأة صامتة وممرضتها التي تتكلم طوال الوقت بثقة عالية بالنفس. حينما تكتشف ان مريضتها قد كتبت لزوجها رسالة عن رأيها بحال ممرضتها النفسي، تبدأ الثقة بالانهيار ليبدأ طور تبادل الادوار وتداخل الهويات بينهما. يستخدم برغمان هنا الوجه والإضاءة إستخداماً مذهلاً في تشكيل وتصوير هذا الازدواج والتداخل. إضاءة نصف وجه وترك النصف الآخر في ظلام، ثم يُدمج النصفين المضاءين من الوجهين حتى ينصهرا في وجه واحد. معظم الناس لديهم جانب في وجههم يعطيهم الى حد ما مسحة من الجمال أكثر من الجانب الآخر. الصور نصف المضاءة لوجهي بطلتي الفيلم بينت الجوانب الابشع في كل منهما.

ولعلنا نختتم هنا بكلمات ناقد سينمائي فرنسي، حينما قال أن يبرغمان مثل جان كوكتو، قدم لنا عالمه الخاص المليء بالاوهام والرموز والخرافات. كل شيء موجود، عدا مفتاح الباب الاخير للخلاص".

المستقبل اللبنانية في 10 أغسطس 2007