مر زمن على السينما أنجبت فيه مخرجين مبدعين عظام أخضعوا
التقنيات لفنهم ولرؤيتهم ولم يخضعوا لها كما هو الأمر بالنسبة لكبار مخرجي هذه
الأيام، وفي جعبة كل من مخرجي أيام زمان عدد من الأفلام الخالدة التي تستمر
قيمتها وحيويتها مع تقدم الأيام، كما هو الأمر، مثلا، بالنسبة لمعظم مسرحيات
شكسبير. ولهذا يشكل رحيل أي من أولئك المخرجين، والذين ما توقف معظمهم عن
الإبداع بالرغم من تقدمهم في العمر، خسارة كبيرة للسينما. من أولئك المخرجين
الذين رحلوا عن دنيانا بعد أن شاخوا وتركوا لنا إبداعا سينمائيا لا يشيخ
الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، الذي لمع نجمه السينمائي في ستينيات القرن
العشرين ولم يخب حتى الآن.
قائمة الأفلام التي أخرجها أنطونيوني طويلة، وهو أخرج أولى
أفلامه في إيطاليا ثم لاحقا صار يخرج أفلامه ما بين إيطاليا وبريطانيا (فيلم
بلو أب ) وأميركا (فيلم المهنة مخبر صحفي و نقطة زابرينسكي ) وغيرها، مبرهناً
في كل مرة على قدرة فذة على صنع أفلام ذات مواضيع راهنة وحيوية تبدو أنها تنتمي
إلى المكان الجديد وكأنه عاش فيه طوال عمره، كما تنتمي إلى الزمان في إشكالاته
الجوهرية التي تتخطى الخاص نحو التعبير عن العام. وفي كل فيلم من أفلامه كان
أنطونيوني يبرهن على أنه ليس مجرد فنان سينمائي مبدع، بل أيضا سينمائي مفكر.
من بين العدد الكبير من أفلام أنطونيوني يحظى فيلمه الشهير بلو
أب بأكبر اهتمام نقدي وبحثي في أرجاء العالم. وبين يدي كتاب سينمائي مترجم
للعربية يتشكل من عدد كبير من الدراسات التي قام بها باحثون مختلفون مخصص
بكامله لفيلم واحد لا غير هو بلو أب . ويحمل الكتاب عنوان إضاءات حول فيلم صورة
مكبرة .
في هذا الكتاب الذي صدر ضمن سلسلة منشورات الفن السابع عن
المؤسسة العامة للسينما بدمشق، تعالج كل من هذه الدراسات جانبا ما من جوانب
الفيلم، بل إن إحدى الدراسات تكتفي بتحليل ثلاثة مشاهد محددة من الفيلم. صدور
مثل هذا الكتاب السينمائي المتخصص بفيلم واحد حدث غير مسبوق في الكتب العربية
عن السينما سواء كانت مؤلفة أو مترجمة. فيلم بلو أب وعلى الرغم من أنه مضى على
عرضه عالميا أربعون عاما، إلا أنه ما يزال يحافظ على قيمته ومكانته كواحد من
الأفلام المهمة في تاريخ السينما العالمية.
ففي العام 1966 أخرج الإيطالي الشهير مايكل أنجلو أنطونيوني
هذا الفيلم كأول فيلم له في بريطانيا، ومصطلح بلو أب يعني تكبير الصورة. وحاز
الفيلم عند مشاركته في مسابقة مهرجان كان للعام 1967 الجائزةَ الذهبية. هذه
الجائزة لم تكن التقدير الوحيد للفيلم، فقد نجح الفيلم نجاحا جماهيريا عندما
عرض في صالات السينما في أوروبا. وإضافة إلى ذلك، استخدمه الكثير من النقاد
ومنظري السينما كمثال في أبحاثهم السينمائية.
وفيلم بلو أب من الأفلام القليلة التي تحتفظ بمعاصرتها رغم
مرور الزمن، وهو يبدو عندما يعرض وكأنه مصنوع حديثا. المقولة الأساسية للفيلم
هي صعوبة الوصول إلى الحقيقة الموضوعية. وقد كتب أحد النقاد عنه أن موضوعه
الأساسي تصوير الصعوبة التي يواجهها أي إنسان يحاول أن يستوعب معنى الحقيقة
الموضوعية وجوهرها. يحكي الفيلم عن مصور شاب متخصص بتصوير الفتيات للإعلان. وهو
في الوقت نفسه يحمل آلة التصوير أينما ذهب ويصور كل ما يراه حوله من ظواهر
حياتية. وذات يوم، وبينما هو يسير في حديقة عامة، يلحظ امرأة ورجل متعانقين
فيلتقط لهما الصور. ويفاجأ بعد ذلك بالمرأة وقد جاءته إلى الأستوديو مرعوبة
تطلب منه الفيلم الأصلي، فيعطيها فيلما آخر، وبعدها يذهب إلى غرفة التحميض
لطباعة الصور بهدف اكتشاف سر خوف المرأة.
وعندما لا يرى في الصور ما يثير الانتباه يقوم بتكبير إحداها،
فيلاحظ شكلاً ما بين الأشجار خلف الرجل والمرأة يوحي بوجود جثة. فيقوم بتكبير
هذا الجزء من الصورة، لكي يتحقق أكثر من الموضوع. ثم يعيد تكبير الجزء الذي
كبّره، ويكرر العملية مرات عدة، ولكن الحقيقة لا تنكشف أمامه، بل إن الأمر
يزداد تعقيدا وغموضا، كلما أمعن في الاقتراب من التفاصيل.
يبدأ الفيلم بمشهد لمجموعة من الشبان والفتيات المهرجين في
ثياب احتفالية يجوبون الشوارع مثيرين الضجيج أينما حلّوا ومروّا. وهذا المشهد
الافتتاحي يبدو خارجا عن سياق الفيلم للوهلة الأولى، إذ لا يعود المخرج إلى هذه
المجموعة إلاّ في مشهد النهاية من الفيلم، فتتضح أهمية المشهد الافتتاحي
ودلالته، كما يتضح المغزى من الفيلم كله. ففي المشهد الختامي نرى المصور، وبعد
أن عجز عن تفسير لغز الصورة التي التقطها، يسير بقرب ملعب للكرة الأرضية،
فيلتقي بنفس المجموعة الغريبة من المهرجين والمهرجات، يدخلون إلى ملعب التنس
ويباشرون اللعب، ويقف المصور يتفرج عليهم ولكنه يلاحظ أنهم يلعبون من دون كرة.
وهم لا يمثلون أو يتظاهرون بأنهم يمارسون اللعبة، بل يلعبون بجد كامل كما لو أن
الكرة معهم. ويتنبه المصور إلى أن أحد اللاعبين يشير له إلى أن الكرة قد وقعت
خارج الملعب ويطلب منه أن يلتقطها ويقذفها إلى الملعب. ويحتار المصور، هل يصدق
أم لا، ثم يقرر التقاط الكرة الوهمية وإعادتها إلى الملعب.
لا توجد في الفيلم حكاية بالمعنى المعروف للكلمة. فالحكاية هنا
مجرد إطار ووسيلة للفكرة. ويوظف المخرج عناصر الإخراج أيضا لتعميق فكرته ويهتم
بهذا الجانب أكثر مما يهتم بسرد الحكاية. وعلى سبيل المثال يركز الفيلم في أحد
المشاهد على المصور لحظة عمله داخل الأستوديو على تصوير مجموعة من الفتيات
الموديلات. وهو يجعلهن يقفن أمام ألواح زجاجية تجعل من صورهن مجرد خيالات
وانعكاسات في مرآة. يمتاز الفيلم أيضا بجمال التصوير والألوان، وهو أمر برع فيه
المخرج أنطونيوني، وخصوصا من حيث استخدام الألوان للدلالة على المعنى. كما
يمتاز الفيلم بحيويته وإيقاعه الحي، بالرغم من أن الفيلم يناقش قضية فلسفية في
محصلته النهائية.
من ناحية ثانية يمكن عدّ الفيلم نوعا من التفكير في إمكانية
عكس الحقيقة الموضوعية من خلال الصورة الفوتوغرافية أو من خلال السينما نفسها.
أي أن الفيلم يضع قدرة السينما على تقديم الحقيقة موضع التساؤل.
إضافة إلى هذا الكتاب صدر في العربية أيضا كتاب آخر عن
أنطونيوني من منشورات المؤسسة العامة للسينما بدمشق بعنوان بناء الرؤية ، وهو
يضم محاضرات له ولقاءات مع طلاب معاهد السينما ومقابلات مع نقاد وصحفيين.
* ناقد
سينمائي أردني
الرأي الأردنية
في 10 أغسطس 2007
|