رغم الشلل الذي أصابه في سنواته الأخيرة لم يتوقف عن العمل في
السينما وفي الرسم وفي كتابة القصة والرواية كانت المرأة هي حلم حياته وسبب
أرقة .. ليس فقط في شخوص أفلامه ولكن في حياته وفي الهامه لموضوعات قصصه
ورواياته اعتبر فيلمه الصديقات مرحلة انتقالية في البناء السينمائي الذي كان
يهتم به، فترك العقدة التقليدية إلي مجموعة حوادث مترابطة، حيث لكل شخصية مغزي
أكثر أهمية من الأشتراك في الحدث
هذا هو مفتاح الدخول لعالم أغلب الفنانين ومنهم بالطبع المخرج
الإيطالي مايكل أنجلو انطونيوني 191-007، فالمرأة ظلت عالمه ومحيطه الواسع الذي
تناثرت حياته اللؤلؤية في كل إبداعاته منذ منتصف الخمسينات، وحتي رحيله
باعتباره لم يتوقف قط عن العمل، رغم الشلل الملحوظ الذي أصابه في سنواته
الأخيرة، ليس فقط في مجال السينما بل أيضا في مجال الفن التشكيلي والرواية
والقصة القصيرة.المرأة موجودة في هذا العالم بؤرته الوحيدة ومنبعه الدائم، ورغم
أن صفاتها تختلف وتتباين من عمل لآخر، فإنها موجودة بكيانها وبكافة ما لديها من
تأثير علي الدنيا من حولها، وليس فقط علي الرجل .. فالمرأة ليست موجودة في شخوص
أفلام المخرج ولكنها أيضا موجودة في حياته، المرأة نفسها التي ألهمته الكثير من
القصص، هي أيضا بطلة أفلامه، خاصة أعماله الإيطالية في الخمسينيات والستينيات
الا وهي الممثلة المعروفة مونيكا فيتي التي شاهدناها في أفلامه ومنها
«الخسوف»،«الصحراء الحمراء» و«الليل»، وقد بدا اهتمام الفنان في هذه الأفلام
بأن العلاقة بين المرأة والرجل لا يتحكم فيها طرفاها بقدر ما يؤثر عليها
الآخرون.البداية سيناريستدرس مايكل انجلو في جامعة بولونيا حتي تخصص في الرسم
والهندسة، وفي بداية حياته كان يطمح للعمل بالمسرح، كما مارس كتابة الرواية،
وعمل ناقدا في مجال المسرح والسينما، وكان معروفا بحدة آرائة ومواقفه تجاه الفن
الهابط، مما جعل الكثيرين أصحاب المجلات يعزفون عن التعامل معه فقرر أن يتجه
إلي الإبداع ، في البداية بدأ يمارس كتابة السيناريو، وشارك في تأليف قصة فيلم
«عودة الطيار» الذي أخرجه روسيلليني ثم سافر إلي فرنسا ليعمل مساعد مخرج مع
الفرنسي مارسيل كارنيه خاصة في فيلمه الشهير «زوار الليل» الذي قام ببطولته إيف
مونتان .ومع نهاية الأربعينيات اتجه مايكل انجلو إلي كتابة وإخراج الأفلام
الوثائقية، فقدم فيلمه «قوم وادي البحر» الذي بدا فيه متأثرا بالمدرسة الواقعية
التي كان من روادها في هذه الفترة كل من فيتوريوري سيكا، وروبرتو روسيلليني،
وأورمانو ولمي.في تلك السنوات لم يقطع علاقته بالأدب فكان يترجم مجموعة من
الروايات الفرنسية إلي أن جاء فيلمه الروائي الأول «يوميات حب».ويعتبر فيلم
«الصديقات» الذي أخرجه عام 1954 من أبرز أعماله الأولي وهو بمثابة ثلاث قصص
منفصلة عن العلاقات المتأرجحة بين الرجل والمرأة، ويقول الناقد روبن رولان إن
هذا الفيلم يحوي العناصر الموجودة في جميع أفلام المخرج، فهو يمزج تشاؤم
الأفلام الأولي مع ومضات الأمل التي ظهرت فيما بعد وهو أكثر الأفلام أهمية
لمعالجة موضوع العلاقة بين المرأة والرجل من ثلاث زوايا، والقصة الوحيدة من بين
القصص الثلاث التي تتحرك أحداثها بسلاسة هي القصة التي تساير التقاليد الفاسدة
للمجتمع الذي تحدث فيه، ففي قصة «مومينا» يوجد لدينا التعبير الكامل عن كراهية
انطونيوني للنظام أو مومينا هي الشخصية الوحيدة الرئيسية في أفلامه التي تواءمت
مع النظام بنجاح، وهي أيضا الوحيدة المكروهة تماما بالنسبة للمشاهدين.ويعتبر
فيلم «الصديقات» مرحلة انتقالية في البناء السينمائي الذي اهتم به انطونيوني،
حيث ترك العقدة التقليدية إلي مجموعة من الحوادث المترابطة لدرجة يستحيل التعرف
علي الخط الأساسي للقصة ولكل الشخصيات مغزي أكثر أهمية من اشتراكهم في
الحدث.تغير العواطف والاحاسيسبعد مجموعة أخري من الأفلام البارزة للفنان مثل
«الصدفة» 1957، قدم فيلما مهما عام 1961 هو «الخسوف» وهو عن العلاقات نفسها،
فأمامنا بيرو وفيتوريو اللذان يجمعهما حب الحياة والنقاء، ولكن قبل أن يصبحا
ثنائيا متكاملا يبدأ الملل يتسرب إلي قلب كل منهما، ويتسرب التغيير، فالمرأة
تبحث عن رجل جديد من أجل تجديد حياتها، ولكنها لا تلبث أن تحس بأن خسوفا ما يهل
علي تلك العلاقة وهكذا، فالفشل هو الكيان الذي ينتظر أيا من هذه العلاقات وهو
الشيء الحقيقي الواقعي في علاقات الحب.وقد تكررت مثل هذه المشاعر في فيلمه
التالي «الصحراء الحمراء» عام 1964 الذي قامت ببطولته أيضا مونيكا فيتي فبعد أن
يربط رجل بامرأة ويكاد أن يطيرا من السعادة فوق السحاب عليهما أن يكتشفا أن
الحب شيء من المستحيل.ومثلما جاء في كتاب فن المونتاج السينمائي الذي ترجمه
أحمد الحضري، فإن فيلم «الخسوف» يحمل فكرة العلاقة بين الرجل والمرأة إلي أبعد
حد، إنها فكرة تغيير العواطف والأحاسيس مع بقاء الأشياء واستمرارها بل
وطغيانها، ويري المخرج فيما يتعلق بهذين الفيلمين الأخيرين: إن رؤيتنا محدودة
يتحكم فيها احساسنا غير الدقيق بالأحجام فيما يتعلق بالزمن.ولا شك أن الشكل
العام قد تغير في فيلم «تكبير الصورة» لكنه موجود بصورة أخري متمثلا في مواجهة
علاقة حب بين رجل وامرأته، بل نحن أمام رجل يصور عالم النساء من الخارج، إنه
توماس المصور الفوتوغرافي، لقد نذر نفسه من أجل الوصول إلي نوع ما من التحكم في
عالم الأشياء، ومهما كانت الوسيلة قاسية ومهما كانت معاناة العواطف والأحاسيس،
فهو يصور الأشياء التي تثير احساسه وانتباهه، والبشر هم أهم هذه الأشياء، فهم
يتحركون، تملأهم الحركة والحياة والمشاعر، وعلي سبيل المثال فإنه يقرر أن ينتقم
من صاحب محل رفض أن يبيعه محله بأن يصوره.وتوماس مشغوف بتصوير النساء وفتيات
الغلاف وهن يتمايلن أمامه مليئات بالشهوة والحياة، ثم تسوقه أقداره أن يصور
لقطات حب بارعة ورقيقة في حديقة عامة هادئة .. ولكنه يتوغل في أعماق الصورة،
ويكتشف أن وراء هذه اللمسات الرقيقة واللهفة البادية علي وجه المرأة في الحديقة
نوعاً آخر من الحقائق .. فهناك جريمة قتل تشترك فيها الحبيبة المزعومة بالتخلص
من حبيبها الذي يكبرها سنا.والفيلم يهتم بالوهم وبمحاولاتنا لاصطياد الواقع
وإعادة تمثيله والمشكلة الرئيسية في مجتمع يصنع الصور، هي أنه في خطر دائم من
أن يخلط الصورة بالواقع والظل بالجوهر.من المعروف أن هذا الفيلم كان محاولة
للمخرج أن يصنع افلامه خارج حدود إيطاليا وأنه قد أخرج هذا الفيلم في بريطانيا،
ثم أخرج فيلما أمريكيا هو «نقطة زايريسكي» في عام 1971 ثم «المهنة صحفي» عام
1975 .وإذا توقفنا عند هذا الفيلم بشكل خاص فإنه يذكرنا برواية «المرحوم ماتيا
باسكال» لبيرانديللو، حول باسكال الذي قرأ خبر موته في إحدي الجرائد بينما كان
مسافرا، فيحلو له أن يعيش في منطقة جديدة باسم جديد، لكنه ما يلبث أن يحن إلي
عالمه القديم ويعود ليلقي مصيره هناك.ودافيد لوك اختار لنفسه أن يعيش إنسانا
جديدا لا ليبحث عن سر مهرب الأسلحة روبرتسون ولا ليقوم بجولة صحفية، لقد اختار
لنفسه أن يعيش بهوية روبرتسون، لكن صراعاته مع داخله لم تكن شغله الشاغل، فقد
تحولت رحلة البحث عن ذات جديدة إلي مطاردات بوليسية تنتهي بمصرع لوك.ولوك رجل
سعيد في حياته الخاصة شغوف بالمغامرة، لكن المغامرات تمادت به هذه المرة، فقد
التقي يوما برفيق في الفندق الذي ينزل به في إحدي القري الإفريقية، روبرتسون
هذا مهرب أسلحة للمتمردين حيث الدولة تعج بعدم استقرار سياسي، والرئيس يصرح في
التليفزيون أن بلاده لا تعاني من قلاقل سياسية، ومع أن البلاد مقبرة إلا أنه لا
يمكن تحديد أسباب الثورة الحقيقية أو حتي القائمين بها، وروبرتسون لا يساعد
المتمردين عن قناعة بل هو مجرد تاجر يعطي السلاح لمن يدفع ، يموت بالسكتة
القلبية، ويجد لوك نفسه وقد انتقل الهوية روبرتسون ويدعي أن الذي مات هو لوك..
خاصة أن التشابه الجسدي بينهما كبير، ثم يقوم بتزوير جواز السفر ويصبح شخصا
جديدا.يخبر لوك «روبرتسون» أنه يحب الطبيعة وهذا يتنافي مع سلوك رجال الأعمال
ولا نري في سلوك لوك بعد أن ينتحل شخصيته الجديدة، ما يدل علي أي شاعرية أو
رقة، وقبل أن يبدأ في ممارسة إنسانه الجديد، يتوجه إلي منزل روبرتسون ويعثر علي
بعض الأوراق التي تثبت هويته ثم يسافر إلي ميونخ ويلتقي هناك ببعض عملاء الثوار
الذين يباركونه في نجاح مهمته ثم يسافر إلي برشلونة في مهمة كان علي روبرتسون
أن يقوم بها ويقابل رجلا له علاقة بالثوار، يقص عليه حياته، وبدلا من أن نري
قصة حياة الرجل نشاهد فيلما تسجيليا عن مصرع أحد الثوار رمياً بالرصاص وهو
الفيلم الذي قام لوك بتنفيذه.والفيلم ينحو في نصفه الثاني منحي جديدا حيث يهتم
بمطاردة تمت بين مارتن نايت أحد أصدقاء لوك وزوجته من جهة وبين لوك والسائحة
التي تعرف عليها في إسبانيا من جهة أخري، وبعض الثوار من طرف ثالث، فقد رأي
نايت أن الغموض الذي اكتشف مقتل لوك قد يحل إذا استطاع أن يقابل روبرتسون الذي
يعتقد أنه لا يزال حيا.. ويحاول لوك التخفي عن مطارديه الذين يلجأون إلي
الشرفة، كي تنتهي الأحداث بمقتله علي أيدي المتمردين في أحد الفنادق النائية في
مكان أشبه بالمكان الذي مات فيه روبرتسون، كي يظل شخصا ماثلا في الأذهان
كالأسطورة.وقد توقف انطونيوني عن العمل بالإخراج لبعض الوقت ليعود في نهاية
السبعينيات بفيلمين احدهما هو «هوية امرأة» حول المخرج السينمائي نيكولو الذي
يعيش أزمة إبداعية ووجودية، فهو يبحث عن امرأة لتقوم ببطولة فيلمه الجديد،
ولتقوم بدور البطولة في فيلم حياته، حيث يتداخل الأمران فيلمه وحياته معا،
وبالفعل تظهر امرأتان مختلفتان، الأولي تسمعه يردد لها أن هناك محاولة لقتله
والتخلص منه سيقوم بها رجل يراقبه بلا سبب ظاهر، أما المرأة الثانية «ايدا» فهي
تعمل ممثلة في المسرح وهي امرأة متعلقة بالماضي.ونيكولو لا يهتم بدوافع أي من
المرأتين، ولذا كادت «إيدا» أن تنفلت منه عندما يحس أنها أصبحت أكثر قربا منه
حيث تبلغه أنها حامل من رجل آخر.وقد تحدث انطونيوني إلي مجلة الأكسبريس - 16
أغسطس 1985 حول هذا الفيلم قائلا: في هذا الفيلم لم أعقد مقارنة بين الشخصيات
والبيئات التي لا ينتمي إليها، وقد يعبر هذا عن مصادفات الحكي، فالقصة نفسها
قائمة علي المصادفة، وهذه الأحداث الخارجية التي تتداخل في حياة شخص، مخرج يفتش
عن إلهام، وهو علي كل أقل حساسية في السيطرة علي مقدرات البيئة، لأنه لا يعيش
في مشكلة ملحة مثل المهندس المعماري في« المغامرة» والكاتب في «العميل» والرسام
في «الأصدقاء».وحول تقنيته وأسلوبه يتحدث المخرج في الحوار نفسه قائلا: انها
تتضمن مجموعة من التفاصيل بدءا من التفاصيل التي تخصني، فإنني أصعد نحو مواقف
تجميعية عندما يعجبني شيء في مكان ما أو في كادر، تطرأ فكرة سريعة علي أن
اسجلها في شخصيات عندما كنت طفلا كان يسليني في لعبة التراكيب أن أكون شوارع
وميادين وأحياء وأضع فيها ناساً طيبيناً أصنع من حولهم حواديت، والآن أيضا
فعندما أبلغ مكانا أو إذا ابتدعت قصة تتعلق بمكان ما أجد نفسي أجاهد في التخيل
للعديد من الحركات والأفعال التي أكون شاهدا لها مهما كانت القصة التي تدور
أمامي.من المعروف أن انطونيوني قد لجأ لإخراج فيلمه الأخير إلي تلميذه الألماني
فيم فندرز، كما أنه ألف كتابا مهما يحمل عنوان «بناء الرواية» وللمخرج تاريخ
حافل مع الجوائز السينمائية.
جريدة القاهرة
في 07 أغسطس 2007
|