تقدير كل من انغمار برغمان يمكن أن يتم عن طريق استعادة بعض
أفلامه في بعض صالات الفن والتجربة (او ما بقي من نوادي السينما) في العالم
العربي، أو -إذا ما كان التلفزيون يريد أن ينضج ويتحوّل من صندوق الفرجة الى
وسيط الثقافة- عبر برمجة عدد من أعماله لجعل الجيل الجديد يتّصل والحديث الذي
انتشر عنه في الآونة الأخيرة.وإلى أن يتم ذلك، سأستعرض أحد أهم أفلامه الأولى
على أساس أن القارئ في نهاية المطاف لا يبقى عليه سوى جهد البحث عنه لاقتنائه
إذا أراد. الفيلم هو “برسونا” (1966) الذي خرج في وقت يشكل مرحلة خاصة في حياة
مخرجه إنغمار برغمان وسينماه. بعد أن عمل في أفلام تلفزيونية محدودة الأثر وخاض
غمار الفيلم ذي الرمزيات الذي تقع أحداثه في القرون الوسطى (“الختم السابع” -
1957) انتقل الى طرح مشاكل روحانية الجانب في “من خلال الزجاج، معتماً” (1961)
و”نور الشتاء” (1962)، ثم باشر سلسلة من الأفلام الدرامية المازجة بين العمق
النفسي والمراجعات العاطفية ذات البعد الأخلاقي في سلسلة جديدة بدأت سنة 1963
بفيلم “الصمت” (1963) وجاء “برسونا” ثانياً فيها لتشمل لاحقاً “ساعة الذئب”
(1968) و”عار” (1968 أيضاً).
“برسونا” كان محطة أخرى لناحية علاقة المخرج بأفلامه. لقد كان
أول أعماله بعد فترة عانى فيها من مرض عُضال منعه عن العمل والأول في أسلوب
مغاير بصرياً وأسلوبياً عن أعماله السابقة. أسلوب لا يخلو من التجريب ليس بمعنى
من لا يزال يبحث منتقلاً بين أساليب وصياغات عدّة بل بمعنى الفعل التجريبي نفسه
بعدما بناه على أسس وقواعد تخصّ اللغة السينمائية التي من آنذاك باتت لغة
برغمان الخاصة.
“برسونا” دراما نفسية عن إليزابث (ليف أولمان) التي تدخل
المستشفى بعدما فقدت صوتها خلال تأدية مسرحية “ألكترا”. الكشوفات لا تؤدي الى
تشخيص مرض بل حالة ويتم تعيين الممرضة ألما (بيبي أندرسون) لترعاها إذ لا تزال
إليزابث تؤثر الصمت المطبق. تنتقل الممرّضة بالمريضة الى بيت ريفي (تملكه
الطبيبة التي عاينت اليزابث) وهناك تدخل الحكاية مستويات من الطروحات والنقلات
بين الواقع والخيال، وبين الحاضر والذكريات. ألما تتحدّث والثانية تستمع وفي
حديث ألما الكثير من البوح والاعتراف وفي استماع إليزابث الكثير من الشجون
الداخلية والانعكاسات.
برغمان وطأ المرحلة الجديدة بإعلان فريد: اللقطة الأولى من هذا
الفيلم شاشة سوداء، ثم يغمرها الضوء بطيئا وتدريجياً ثم نبدأ بمتابعة ما يبدو
لنا مقتطفات من أفلام صامتة (كوميدية ورعب)، كل هذا قبل أن يصحبنا صوت موسيقا
تتسلل في الثواني الأخيرة من اللقطات المذكورة الى لقطات أخرى يلج بها المخرج
قصته هذه. لماذا؟
يحمل الفيلم مستويات من التحليلات الجائزة خصوصاً وأن المخرج
لا يوفّر قاعدة روائية بسيطة ويعمد إلى تشكيل الصورة والبناء الدرامي (النفسي
غالباً) على نحو لا يحتوي التفسير المبسّط، وفي أحيان لا يحتوي على أي تفسير
على أي حال، لكن بأخذ الاعتبار أن المخرج يقطع بين مشاهده الواقعة بين
الشخصيّتين الرئيسيّتين أكثر من مرة ليذكّرنا أننا نشاهد خيالاً وليس واقعاً.
فقط برغمان لديه السبب وراء عملية قطع الاسترسال بلقطة للفيلم يحترق مثلاً قبل
أن يعود الى استكمال الحكاية، لكن على الشاشة وفي ذات المشاهد، فإن ما يحدث هو
انتقاله المفاجئ (من الدراما التي يقرأها على الشاشة والخيال الذي قبل العيش
فيه) الى لحظات من الواقع السينمائي. واقع أن هناك أستاذاً في العمل كتب هذه
الشخصيات وخلق هذه الحكاية ويدير ما يتفاعل فيها. من هنا، تتواكب اللقطات
الأولى لتتجانس مع عملية النقل من وإلى الفيلم. إنه التمهيد للقول بأن الفيلم
الذي نشاهده ليس سوى فيلم. وفي نهاية الفيلم يقطع المخرج من ليف أولمان وهي ما
زالت مندمجة في دورها الى لقطة للعاملين وراء الكاميرا. بل اليه هو أيضاً وهو
ينظر الى الكاميرا، كما لو كان يتحدّى مشاهديه.
درجات من
الخيال
على ذلك كلّه، لا يخسر الفيلم داخل الفيلم سطوته على مشاهديه
وذلك نظراً لقوّة ما يحدث بين شخصيّتيه وقوّة لغة الإيصال وسبر غور العاطفة.
إليزابث الصامتة تكسر الغلاف الذي تعيشه الشخصية الناطقة (ألما) لكن بداية
العلاقة تسجّل قوّة ألما، النفسية والشخصية، وضعف إليزابث (على الصعيدين
نفسيهما). ألفة وعلاقة حميمة (غير مثلية) ولو أن هذا ما قد يُقرأ لغير
(المتمعّن) تنشأ بينهما في ذلك البيت الصيفي وخلالها تخسر ألما قوّتها وتبدو
إليزابث كما لو كانت المرأة التي تنشدها ألما لفتح كل ذكرياتها ولمعايشة سجلات
حياتها.
الذي يحدث إثر انتقال المرأتين الى البيت الهادئ والبعيد يبدأ
بمحاولة مصارحة. بما أن الممرضة ألما هي الوحيدة التي ستتحدّث طوال الفيلم فإنه
من الطبيعي أن يُسند إليها المخرج دور القيادة في محاولة فتح حوار مع الممثلة
المعنية ولو من طرف واحد. حميمية الحوار تتجلّى في فتح ألما لباب ذكرياتها التي
لم تكن مضطرة لطرحها علناً. لكن الصورة ذاتها (لمدير التصوير الفذ سفِن نيكفست
الذي مات قبل أقل من عام) تشترك في هذا التقرّب. المرأتان تعدّان عشاء
وتتجالسان. إليزابث ليست مضطربة وألما في أوج سعادتها. لكن مع انتقال ألما الى
حديث الشجون كاشفة عن ذنب ارتكبته ذات يوم بعيد، تتدرّج اللقطات من الجو المبهج
الى الجو المؤلّف من لقطات أكثر مضياً في الاشتراك مع وقع ما تسمعه إليزابث.
ألما في نهاية ذلك الفصل الحاسم تبكي وإليزابث هي التي تحتضنها وذكرياتها كأم.
لكن في ما بعد، يبدأ التساؤل عما إذا كانت ما ذكرته ألما حدث
معها او مع إليزابث. كيف؟ الطريقة الوحيدة هو ألا تكون هناك ألما. آنذاك
إليزابث تعيش ذاكرتها الخاصة بخيانة زوجها وارتكاب الإثم ولعل هذا هو الدافع
الذي جعلها تفقد الرغبة في النطق وتلتزم الصمت (و”الصمت” هو عنوان لفيلم آخر
لبرغمان.
لكن في حين أن ذلك مطروح أكثر من مرّة يستمر برغمان في معالجة
ما يدور في الفيلم على أساس أنهما امرأتان منفصلتان. فإذا أخذت هذا الفيلم على
هذا الوضع جابهتك وجهة مغايرة تستحق بدورها الاهتمام. عندما تقرأ ألما رسالة
كتبتها إليزابث لزوجها تذكر فيه ما سمعته من ألما (او هو اعتراف اليزابث؟)
تنقلب الى امرأة عدائية تتمنى أذى إليزابث. هناك ذلك المشهد الحابس للأنفاس
عندما تدرك ألما أن هناك كأساً مكسورة على بلاط الشرفة بينما تمر إليزابث حافية
القدمين. تمر قريباً أول مرّة وثاني مرّة ولا تحذّرها ألما وفي ثالث مرّة تدوس
إليزابث على الزجاج المكسور وتجرح قدمها.
نهاية المواجهة، سواء أكانت بين ألما وإليزابث او بين إليزابث
وإليزابث هي العودة الى المصحّة حيث ينهي المخرج الفيلم بالإعلان أنه سواء أكان
الوضع هو هذا او ذاك، فإن ما شاهدناه هو فيلم يحتمل أي قدر من الأبعاد الأخرى.
وهناك درجات من الخيال والواقع. هناك مشاهد عدّة يتركنا فيها
المخرج متسائلين عمّا إذا كانت ألما تتخيّل (مثلاً مجيء زوجها لزيارتها قد يكون
واقعاً وقد يكون خيالاً). عما إذا تجاوزت، في مرحلة معيّنة، ضبابية الخط الفاصل
بين الحقيقة والخيال. في قراءة ربما أكثر تطرّفاً يبدو أن الحقيقة الوحيدة في
القصة (التي هي بفعل منهج برغمان حيالها: خيالية بأسرها) هي ما تتولى قوله
الطبيبة (مرغريتا روك) إذ هي الوحيدة المسموح لها بحوار تلقيه مباشرة الى
الكاميرا. إنها في هذه الشطحة من القراءة، ربما كاتبة الحكاية وخالقة الخيال
الماثل أمامها.
في شتّى الأحوال، يقترح الفيلم، من خلال عنوانه الذي يعني، في
علم النفس، الشخصية التي تتقدّم الشخص، وفي الدراما، القناع الذي يرتديه، أن
إليزابث وألما في واقع الأمر هما إنسان واحد. وليس صدفة -تبعاً لهذه القراءة-
تشابه الملامح بين الممثلتين أولمان وأندرسون.
“سر أسما”
حكاية بوسنية
“سر أسما” للمخرجة البوسنية يسميلا زبانيتش يتحدّث عن امرأة
عاملة والأحداث هنا تقع في الزمن الحالي. أسما وابنتها لونا تعيشان وحيدتين في
البيت. الأولى تخرج الى عملها والثانية الى مدرستها والحياة من حول كل واحدة
ليست هيّنة. الأم في عملها في أحد المصانع وتبحث عن عمل آخر في الليل وتجده
نادلة في حانة رخيصة. بين العملين وفي رحى الأسبوع تحضر لقاء يضم النساء
اللواتي تعرضن للاعتداءات الجنسية خلال حرب التسعينات. الفتاة تشعر بالوحدة
وتريد أن تنمو سريعاً. تسبق عمرها. صديقها الوحيد صبي في مثل عمرها اسمه سمير
(كنعان كاتليتش) ويبدو كما لو كان بحاجة لقوّتها ودعمها أكثر مما هي بحاجة
اليها منه. ذات يوم يتقرّب الحارس الشخصي لصاحب الحانة (ليون لوتشيف) من الأم
وأفق علاقة تلوح في الأفق. لكن الأم لديها الكثير مما يجب أن تخوضه قبل أن
تستطيع استقبال حب جديد. الشاب ليس لديه وقت طويل لذلك فهو أعد نفسه للهجرة.
هناك الكثير مما ترصفه المخرجة زبانيتش على صعيد الشخصيات.
دائما لديها جديد تعرضه أو تعرّضها اليه. لكن السيناريو مكتوب جيّداً في معظمه
متهاو في ربعه الأخير حينما يصبح ضرورياً أن تفتح الأم ذاكرتها وتخبر ابنتها ما
حاولت إخفاءه طويلاً وهو يتعلّق ليس بها فقط، بل بوالدها الذي كانت تعتقد أنه
بطل بوسني مات شهيداً. هذا اللجوء الى نهاية كاشفة لا يمر سلساً بل مدهماً ولو
أن هذا لا يؤثر في ما سبق، فقط يوهن النتيجة النهائية بعض الشيء.
ما تحاول المخرجة طرحه هنا هو كيف تعايش المرأة وضعها بعد
الحرب وما الذي تفعله لكي تسعد ابنتها. هنا ينطلق الفيلم في اتجاه جانبي مواز
حول علاقة الأم بابنتها الصعبة التي تسيء الظن بأمّها فلا تدري مدى جهد الأم في
سبيل تأمين مستوى الحياة المعيشي لها، وحين تراها تغادر سيّارة الحارس تقفز الى
استنتاج بوجود علاقة حقيقية وأن أمها قد تتخلّى عنها.
تمثيل مرجانة قرانوفيتش من ناحية وحياكة المخرجة لشخصيّتها
وإدارتها الفنية من ناحية أخرى يجعلان العمل أكثر إثارة للاهتمام. الفيلم لم
يكن النتيجة الجيّدة التي نشاهد لولا الممثلة وقدرتها على اختزان المشاعر
الدفينة على نحو تشهد انفعاله. كذلك ردّات فعلها تجاه ما يحدث لها مدروسة
-أدائياً- وعلى قدر كبير من حسن الانضباط. فرانوفيتش تؤدي، بكلمة، شخصية المرأة
التي تبدأ -في الفيلم- من نقطة ضعيفة وتزداد ضعفاً بينما تحاول صد المشاكل التي
تواجهها.
الخليج الإماراتية
في 05 أغسطس 2007
|