في يومين متتالين (الثلاثين والحادي والثلاثين من تموز/ يوليو
هذا العام) رحل عملاقان من أهم من أنجبتهم السينما في تاريخها. انغمَر برغمَن،
ومايكل أنجلو أنطونيوني. سويدي خبير النفس وتعامل مع الوجوديات على طريقته،
وإيطالي خبير النفس أيضاً وتعامل مع الوجوديات إنما بطريقته الخاصّة. ما جعلهما
أستاذين كبيرين في السينما.. الرؤية للفرد وللعالم وعلاقة كل منهما بالآخر.. كل
منهما باشر السينما شابّاً، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وكل منهما أمّ
السينما راغباً في إحداث تغيير عن السائد في الستينيات جسّد كل منهما تلك
الرغبة عبر أفلام لا تُنسى وستبقى خالدة.
إنهما من الفترة الذهبية للسينما، الفترة التي ترعرع فيها
مخرجون عالميون من كل حدب وصوب من القاهرة وطوكيو وكذلك من باريس ونيويورك
مروراً بنيودلهي وساوباولو ... السينما كانت آنذاك تعجّ بالإنجازات الفنية
المهمّة قبل أن نلج عصراً جديداً اختلف فيه المفهوم بأسره وقّل عدد المخرجين
الذين يمكن تسميتهم فعلاً ب(سينمائيين كبار).
أنطونيوني
ولد أنطونيوني في 29-9-1921 في بلدة فيرارا الإيطالية. درس
الاقتصاد أولا في جامعة بولونيا من العام 1931 إلى العام 1953 وحينها تخرّج
وعمل موظّفاً في أحد المصارف كما أخذ يمارس الصحافة حتى العام 1939عندما انتقل
إلى روما وأخذ يكتب لبعض المجلات والصحف عن السينما.
في العام 1940 استلم منصب سكرتير تحرير مجلة (سينما) لعامين
انضم خلالهما إلى مؤسسة تعليم سينمائية من تمويل الحكومة الفاشية، لكن كغيره من
الذين درسوا هناك، تخرّج وفي باله منظومة فكرية مناهضة لنصوص ومفاهيم الدولة.
وهذا الموقف قاده على الأرجح للتعرّف على مخرج سيكون له شأن في
مناهضة الفاشية الإيطالية هو روبرتو روسيلليني ولمشاركته سيناريو فيلم (عودة
طيّار) (1942) حول طيّار إيطالي يهرب من معتقله (بعدما أصيبت طائرته وهي في
غارة فوق اليونان) ويعود إلى بلاده في الوقت الذي تم فيه إعلان استسلام
اليونان. كما شارك أنطونيوني كتابة سيناريو فيلم لمارسيل كارني عنوانه (زوّار
المساء) تم إنجازه في العام ذاته.
حين انتقل أنطونيوني إلى الإخراج واختار السينما التسجيلية
فحقّّق منها سبعة ما بين 1943 و1950 وأوّلها ((شعب بو)) لم يعرض إلا من بعد
سقوط الفاشية. في العام 1950 أنجز أول فيلم روائي له بعنوان (قصّة علاقة
غرامية) وفيلمه الثاني (كاميليا من دون كاميليا) (1953).
لمعان أنطونيوني بدأ في العام الأول من الستّينيات حين أخرج
(المغامرة)، إنه نفس العام الذي أخرج فيه عبقري آخر هو فديريكو فيلليني فيلمه
(الحياة الحلوة) لكن في حين أن أسلوب فيلليني البصري كان منفرداً به، كان أسلوب
أنطونيوني طليعياً وسابقاً بقليل موجة السينما الفرنسية الجديدة. وهو أكبر
سنّاً من جان لوك غودار وفرنسوا تروفو وكلود شابرول، لكنه سبق الثلاثة وآخرين
في فرنسا إلى ذلك الأسلوب المناهض للتقليد السائد في سرد القصّة.
الفيلم عبارة عن قصّة تقوم على الوضع التالي: مجموعة من
الأصدقاء على مركب في عرض البحر الصقلّي. فجأة تختفي إحدى نساء المجموعة، وهذا
يقع بينما الفيلم لا يزال في مطلعه تماماً كحال فيلم ألفرد هيتشكوك (سايكو) حيث
تختفي بطلته بعد ثلث ساعة من بداية الفيلم الذي تم إنتاجه في العام ذاته!. لكن
فيلم أنطونيوني ليس بوليسياً. الرغبة في العثور عليها ومعرفة ما الذي حدث لها
ليست متساوية بين الركّاب لأن صديقها كان بدأ يميل إلى صديقتها، هذا الفيلم كان
الأول من ثلاثية.
الثاني بعنوان (الليل) (1961) والثالث بعنوان (خسوف) (1962)
والثلاثة من تمثيل مونيكا يتي. كل من الأول والثالث نال جائزة لجنة التحكيم في
مهرجان (كان). بعد ذلك أخرج (الصحراء الحمراء) (1964) وهو أوّل فيلم بالألوان
له تبعه ب(تكبير الصورة) وأول فيلم له بالإنكليزية وأوّل فيلم له يصوّره خارج
إيطاليا وكان من بطولة أنيسا ردغراف ونال الفيلم ذهبية مهرجان (كان) السينمائي.
في العام 1969 انتقل مسافة أبعد... صوّر فيلمه الوحيد في
أميركا وهو (نقطة زابرسكي) ثم انتقل إلى المغرب وصوّر سنة 1975 (المهنة: صحافي)
مع جاك نيكولسون.
أخرج أنطونيوي أفلاماً أخرى غير هذه المذكورة، لكن هذه الأفلام
هي الأفضل من مخرج مال إلى اللقطة الطويلة وإلى المتابعة المتمهّلة لحكايات
تبدو في الظاهر بسيطة، لكنها في الصميم أكثر تعقيداً مما توحي به الصورة للوهلة
الأولى.
برغمَن
وُلد إنغمَر برغمَن في 1918 في مدينة أوسالا في السويد. والده
كان راعي أبرشيه قبل أن يتم اختياره ليصبح قسيس العائلة الملكية، وكان والده
متزمّتاً ما نشأ عنه رغبة برغمَن الابن بالانعتاق، قبل أن يفعل ذلك عن طريق ترك
أوسالا إلى ستوكهولم شابّاً.
دخل ذات مرّة مسرحية وهو في الخامسة من عمره ومن حينها وقع في
حب الفن، حسبما كتبه في مذكّراته التي نشرت سنة 1988 تحت عنوان (المصباح
السحري).
سنة 1940 تخرّج برغمَن من الجامعة في ستوكهولم ليعمل كمخرج
مساعد في مسارح المدينة، ثم أخذ يعمل مستشاراً للسيناريوهات. في العام 1944 كتب
سيناريو فيلم (عذاب) الذي أخرجه السويدي الكلاسيكي ألف سيوبيرغ، وكان أحد
مشاهير السينما السويدية حتى الستينيات. (عذاب) كان تمهيداً لولوج برغمَن
السينما فكتب ثم أخرج بضعة أفلام لم تحمل أي تميّز حقيقي. وهذا التميّز لازمه
حتى العام 1955 عندما أخرج (الختم السابع) متبوعاً ب (الفريز البري) وكلاهما من
أفضل أعماله إلى اليوم.
ما أن حلّت الستينيات، حتى كان المخرج سطا على اهتمام المجتمع
السينمائي الدولي عبر سلسلة لا تُنسى من الأفلام مثل (الصمت) و(برسونا) و(ساعة
الذئب) و(عار) وكلّها رصفت أمام العين أسلوب برغمَن التعبيري الخاص حيث
الكاميرا (كلوز أب) للوجه تلتقط تفاصيل تعبيره ودقائق خلجاته وحيث الخيال
يتداخل والواقع لحد أن السؤال المتكرّر هو إذا ما كان المشاهد يرى خيالاً أو
حلماً أو واقعاً. هذا ما عبّر عنه أفضل تعبير في فيلم (برسونا) حيث تتكشّف أن
المرأتين بطلتا الفيلم (بيبي أندرسن وليف أولمان) قد تكونا امرأة واحدة. أيضاً
يجوز أن إحداهن (ليف أولمان) تخيّلت ما دار بينهما من سجال عنيف أو حلمت به.
مثل أنطونيوني، برغمَن يجيد خلق اللغز لكن ليس بهدف تقديم
تشويق من أي نوع، بل لدراسة الحياة وما تموج به من أفكار وتداعيات، وهذا استمر
منهجاً له في السبعينيات عندما أخرج (اللمسة) و(صرخات وهمسات) و(وجها لوجه) و(سوناتا
الخريف).
في الثمانينيات خف زخمه السينمائي وانحسر وذلك في مقابل
انشغاله بالعمل المسرحي والتلفزيوني. لكن ذلك لم يمنعه من إنجاز واحد من أهم
أعماله وهو (فاني وألكسندرا). في التسعينيات انحسر ظهوره السينمائي أكثر فأكثر
وحينما قدّم (ساراباند) سنة 2003 لم يجد الفيلم الاهتمام الجدير به.
الحق ليس على برغمَن هنا فهو أنجز هذا الفيلم بنفس المقاييس
التي أنجز بها أفلامه السابقة، بل على اختلاف البيئة الفنية والثقافية مع ولادة
جيل آخر يعيش في عصر مختلف حيث سينما برغمَن (وسينما أنطونيوني) أبعد من أن
تعني له الشيء ذاته الذي كانت تعنيه للجيل السابق.
الجزيرة
السعودية
في 03 أغسطس 2007
|