عن رحيل بيرعمان وأنتونيوني

سينماتك

الراحل إنغمار بيرغمان.. أسئلة فلسفية عبر كل أفلامه

وودي آلان وسبيلبرغ والكثير من المخرجين الكبار اعتبروه عبقرية لا يمكن الاقتراب منها

نادر الزبني

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

في عام 1957 التفت العالم السينمائي صوب السويد، وتخصيصا لرجل نحيل البنية لا يتعدى عمره الأربعين عاما، بسبب فيلم نقله إلى الشهرة العالمية. لم يكن هذا الرجل إلا المخرج الكبير إنغمار بيرغمان، الذي ودع هذه الحياة قبل أيام قليلة، واحتفى نقاد الغرب بفيلمه «الختم السابع». بيرغمان هو ابن أوروبا القرن العشرين.. رأى وعاصر وشاهد وكتب وأخرج أفلاما عن الأفكار التي اجتاحتها، وعن الشخصيات التي تعيش فيها، وعن أخطائها وحسناتها. إن أفلام بيرغمان، التي تخطت حاجز الستين فيلما (إخراجا وكتابة)، هي في الحقيقة صورة مكبرة عن أوروبا برؤية رجل أنهكته الأفكار الكبرى، التي تشغل عقل كل إنسان يرغب بالعيش بطمأنينة وسلام.

ولد إرنست إنغمار بيرغمان في عام 1918، لأب قسيس هو إريك بيرغمان وزوجته كارين. فنشأ في جو مليء بالنقاشات والتأويلات الدينية المسيحية، حتى أن الدين أصبح في ما بعد من أهم المواضيع التي يناقشها بأفلامه. اكتشف بيرغمان ميوله نحو المسرح مبكرا، فكتب وأخرج العديد من المسرحيات وخلال تلك الفترة حصلت له بعض المواقف التي جعلته يأخذ موقفا من بعض النقاد (حتى أنه دعا مؤخرا في مقابلة تلفزيونية على أحد النقاد الذين كانوا ينتقدوه بأن يحترق بنار جهنم، رغم أنه ليس من المؤمنين بوجودها!). في أوائل الثلاثينات اكتشف بيرغمان حبه للسينما، وبدأ في الأربعينات من القرن الماضي في إخراج أول أفلامه، وهو فيلم «كرايسيس» الذي يحكي قصة فتاة تترك حياة الريف لتنتقل إلى حياة المدن وحياة الليل لتكتشف الجانب المظلم من النفس البشرية. صنع بيرغمان، كتابة وإخراجا، العديد من الأفلام على مدى أكثر من نصف قرن متخطيا في ذلك حاجز الستين، صانعا بذلك توليفة من الأفلام التي تدور في ذات الفلك، الأسئلة التي لا أجوبة لها، سواء كانت غيبية أو تغوص في أعماق النفس البشرية. يعتبر بيرغمان من أولئك المخرجين المخلصين لفنهم، فهو عندما يقرر أن يصنع فيلما فإن الفكرة تستغرق شهورا أو سنين لتختمر برأسه، وبعد ذلك يقرر كتابة أفكاره على ورق السيناريو منتهيا بذلك بتصويرها. من الأمور المميزة لدى بيرغمان أنه لا يهتم بحجم الإيرادات التي تحققها أفلامه، فأفلامه غالبا ما تكون ذات تكلفة إنتاجية بسيطة. ومن الأمور المهمة لديه هو أن الفيلم ينبغي أن يحتوي على رسالة يوصلها صانع الفيلم للمشاهدين، رغم أنه في بعض الأحيان يتوه بإيصال رسالات أفلامه لمشاهديه، بسبب خطورة الأفكار التي يريد إيصالها. أفلام بيرغمان غالبا ما تمثل نقاشا فكريا دسما لعشاق الفن السابع، فهي غنية فنيا وتحمل إشباعا فلسفيا للمشاهد، بحيث تجعل لكل مشهد من المشاهد أكثر من فكرة وأكثر من رأي في تحليله. دائما ما تبحث أفلامه في الأسئلة الوجودية، عن وجود الإنسان على هذه الأرض، ما هي مهمته، وإذا كان هناك سبب أصلا لوجوده. ورغم إلحادية اسئلته وقسوتها الظاهرة، إلا أنها تحكي لنا عن أوروبا وتاريخها المخزي في النصف الأول من القرن الماضي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحصدها لملايين الأرواح البريئة. وبيرغمان كإنسان عاصر تلك الأحداث العظام يطرح هذه الأسئلة بنفسه لعله يجد الجواب أو يظل في تيهه يبحث عن النور في الظلام المطبق. ولعل هذه الأحداث الكبرى هي التي أوحت له بفيلمه العظيم «الختم السابع»، الذي أطلق شهرته للعنان.

يتحدث فيلم «الختم السابع» عن فارس صليبي يعود من الحملة الصليبية، بعد عشر سنوات من غيابه، إلى بلده السويد الذي كان يحتضر في ذلك الوقت من الطاعون الذي فتك بأرواح الملايين من البشر. يقابل هذا الفارس بطريقه للبيت «الموت»، ويستطيع الفارس أن يتحايل على «الموت» بتأخير موته من أجل أن يلعب معه لعبة الشطرنج. في أثناء اللعب يسأل الفارس «الموت» أسئلة وجودية عن الإيمان، والحقيقة ووجود الرب. إنها الأسئلة ذاتها التي سألها الشبان الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية، لماذا يدعنا الرب نعاني ونعذب هكذا؟ لماذا يهلكنا الطاعون بينما لم تكن الحملة الصليبية إلا في خدمته؟ أغلب أفلام بيرغمان تتحدث عن ذات الأسئلة التي طرحها بيرغمان بفيلمه «الختم السابع»، بل إننا قد نجده في بعض الأحيان يتأرجح في أفكاره ما بين مؤيد مرة أو معارض. ولأن الأفكار العظيمة مربكة وتربك من يحاول الولوج فيها، فإن شخصية بيرغمان نفسه شخصية مربكة متناقضة. فهو في إحدى المرات يختار أفضل أفلامه، بينما يظهر مرة أخرى ليقول بأن أفلامه لا تستهويه وأنه لا يرغب بمشاهدتها مرة أخرى. كما أنه دائما ما يؤكد حبه اللانهائي لزوجته أنغريد بيرغمان إلا أنه خانها مرارا وتكرارا، وقد أنشأ علاقات حب مع أغلب بطلات أفلامه. رغم أن بيرغمان ليس من أولئك المؤمنين إلا أنه تمنى عندما كبر في العمر أن يصبح متدينا، وأن يجد الإجابات على أسئلته، بالرغم من أن رؤية أفلامه لا تمنح المشاهد فكرة عن رؤية هذا الرجل للدين والمتدينين، فهو تارة يكرههم ويحقد عليهم مثل فيلمه «الختم السابع»، بينما تجده في فيلم آخر يقدمهم على أنهم الملائكة، التي تعيش على هذه الأرض مثل فيلمه الأفضل «صرخات وهمسات». لم يكن الدين الموضوع الوحيد الذي ناقشه بيرغمان بأفلامه، بل إنه تعدى ذلك ليقدم فلسفته عن النفس البشرية ويغوص في أعماقها ليثبت لنا أنه عالم نفسي بقدر ما هو فيلسوف.

يقدم بيرغمان في فيمله العظيم «الصمت» قصة اختين لا يجمع بينهما إلا الوالدان فقط، فهما متناقضتان في كل شيء. الأخت الكبرى تحتضر وترافقها أختها الصغرى لمحاولة رعايتها أو ربما زيادة معاناتها. وبينما الأخت الكبرى امرأة مثقفة ذواقة للفن والموسيقى، شاذة جنسيا تؤمن بأن المرأة يجب أن تتحرر من تبعية الرجل (صورها بيرغمان تبعا للصورة النمطية لجميع النساء اللواتي رفعن شعار حقوق المرأة في الغرب)، فإن اختها الصغرى على النقيض من اختها فهي تحب الرجال وليست بذات الفكر الخلاق التي تملكه اختها وليس لديها ذوقها الرفيع في الموسيقى. بيرغمان من أولئك المخرجين الذين عشقوا السينما فعشقتهم بدورها. ثلاثة أفلام من أفلامه حصدت الأوسكار، كما أن مجلة «الترفيه الأسبوعي» رشحته ليكون ثامن أعظم مخرج في التاريخ. وودي آلان وسبلبيبرغ وغيرهما الكثير من المخرجين الكبار عشقوا أفلامه ونظروا له وكأنه شيء مقدس لا يمكن الاقتراب من عبقريته. ولهم الحق في ذلك، فعلى الرغم من جمال صور أفلامه الستين بسبب مهاراته السينمائية، إلا أنه أشبعها فلسفة وفكرا بسبب فكره الفلسفي ومعرفته المسرحية. توفي إنغمار بيرغمان في بيته الواقع في فارو في السويد في يوم الاثنين في تاريخ 30 يوليو (تموز) 2007 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين.

الشرق الأوسط في 03 أغسطس 2007