ميكائيل انجلو انطونيوني، الراحل أول من أمس عن عالمنا بعد
ساعات قليلة من رحيل عملاق الفن السابع الآخر انغمار برغمان، عاش طوال العقد
الأخير من حياته خارج العالم تقريباً، لا يسمع، وبالكاد يرى، ويستعصي عليه
التعبير بأي كلام، ومع هذا ظل ثاقب البصيرة قادراً على ان يحقق افلاماً عدة
انطلاقاً من ان السينما هي ملكوت تعبيره، حين يخونه أي ملكوت تعبير آخر.
الذين يعرفون سينما انطونيوني جيداً ورافقوها منذ زمن مبكر، أو
على الأقل منذ اول فيلم وضعه في ساحة الفن السابع وفي مقدم شاغلي تلك الساحة،
أي «تاريخ حب» (1950)، يعرفون ان انطونيوني ما كان ابداً في حاجة الى كلام كثير
ليقول ما عنده. كانت الصورة والحركة وسيلتي التعبير المثاليتين لديه، بحيث ان
الكلام والحوارات كادت تبدو في احيان كثيرة زينة لا أكثر. ويمكننا ان نقول في
هذا السياق ان اعظم لحظات افلامه كانت دائماً لحظات صامتة. نتذكر طبعاً مشهد
المهندس، بطل «المغامرة»، وهو يسكب الحبر على أوراق الرسام الشاب. ومشهد جاك
نيكلسون في نافذة الفندق الصيفي في «المهنة مخبر»، ومشهد مونيكا فيتي تتجول
وحيدة في «الصحراء الحمراء»، ومشهد حلم تفجير المجتمع الاستهلاكي في «زابريسكي
بوينت»، وفوق هذا كله صمت الحديقة حيث الجثة في «بلو آب»... لحظات رائعة من
تاريخ سينما انطونيوني، بل من تاريخ الفن السابع.
أنطونيوني الذي ولد العام 1912، بدأ حياته صحافياً وكاتباً،
قبل ان يتوجه الى روما ثم الى باريس حيث عمل مساعداً لمارسيل كارنيه في «زوار
المساء». وإثر عودته الى روما، قرر ان يتحول الى الإخراج السينمائي ليحقق
افلاماً تسجيلية، لعل أهمها في ذلك الحين «سكان البو» الذي حكى عن حياة
الصيادين الفقراء، ما أعطى المخرج سمة رافقته طويلاً ثم عمل جاهداً حتى يتخلص
منها: صفة «الواقعي الجديد». وليتخذ أنطونيوني لنفسه سمات اكثر فرادة ومنطقية،
كان عليه ان يمر في مطهر بعض السينما الواقعية، حتى تحقيقه «تاريخ حب». غير ان
الذروة التي أوصلته الى مكانته الكبرى كواحد من كبار مبدعي الفن السينمائي،
ستحمل اسم «المغامرة» العمل الرائع الذي لا يزال يعتبر أحد أفضل عشرة أفلام في
تاريخ السينما، مع انه هوجم ورجم حين عرض للمرة الأولى في مهرجان «كان» العام
1960. يومها اضطر سينمائيون كبار الى إصدار عريضة للدفاع عنه. ومنذ ذلك الحين
راحت افلام انطونيوني تتتالى، ليشكل كل واحد منها حدثاً. لكن تلك الأفلام لم
تبق إيطالية فقط، إذ بعد تحقيقه «الصحراء الحمراء» (1964) كتتويج لسلسلة افلامه
الإيطالية، ومنها «المهزومون» و «الصرخة» و «الليل» و «الكسوف» (وكل منها يشكل
علامة في تاريخ السينما)، توجه انطونيوني الى لندن ليصور «بلو آب» عن قصة
لخوليو كورتاثار، ثم الى الولايات المتحدة حيث حقق «زابريسكي بوينت» (1970)، ثم
الى الصين ليحقق واحداً من افضل ما حقق عنها من افلام وثائقية، وثنّى على ذلك
بـ «المهنة مخبر» الذي صور بين إسبانيا والمغرب، ثم «سر أوبروالد» و «التعرف
على امرأة» الذي كان آخر أفلامه الكبرى قبل إصابته بالجلطة التي أفقدته معظم
حواسه، ولكن ليس «حاسة السينما» كما كان يقول لزميله الشاب فيم فندرز الذي
عاونه في تحقيق «ما وراء الغيوم»...
بموته وهو يقترب من سن المئة، تنطوي مرحلة كبيرة من تاريخ
السينما الإيطالية والعالمية، مرحلة من المؤكد ان البداوة كانت رائدتها، وهمّ
الوجود الإنساني وقلق البشر موضوعها. فأنطونيوني كان، خلال النصف الثاني من
حياته، واحداً من الكبار الذين أدركوا انه اذا كانت ثمة عولمة حقيقية في هذا
العالم فإن الفن السابع هو مرآتها، وأنه إذا كان ثمة من فن يعكس القلق الوجودي
حقاً، فإن هذا الفن هو فن السينما بامتياز.
الحياة اللندنية
في 01 أغسطس 2007
|