عن رحيل بيرعمان وأنتونيوني

سينماتك

هامشيون غيّروا مفاهيم الفن السابع ورحلوا معزولين (2)...

انغمار برغمان: أسئلة ابن القسيس على شاشة حديثة قلقة

إبراهيم العريس

 

ما كتبته

جديد حداد

خاص بـ"سينماتك"

صفحات خاصة

أمين صالح

عبدالقادر عقيل

يوخنا دانيال

حول الموقع

خارطة الموقع

جديد الموقع

سينما الدنيا

اشتعال الحوار

أرشيف

إبحث في سينماتك

سجل الزوار

إحصائيات استخدام الموقع

 

نعرف منذ زمن بعيد أن انغمار برغمان هو، في الحسابات كلها، كبير الهامشيين في السينما العالمية، ولكن لم في أن نشمله في هذه السلسلة. فهي سلسلة التي التخطيط لها أن تتحدث عن مخرجين كبار، يخرجون عن السياق السائد، ورحلوا عن عالمنا بعدما أسست هامشيتهم (أي عبقريتهم) كل جديد في مسار السينما العالمية وتاريخه. وإذ فاجأنا انغمار برغمان بموته قبل أيام، كان من الطبيعي أن يتخذ مكانه، بسرعة في هذه السلسلة. وهكذا بعدما بدأنا بالبرازيلي غلاوبر روشا وتأسيسه لتيار «سينما نونو»، ننتقل الى برغمان، أحد كبار المبدعين في تاريخ الفن السابع... وأيضاً أحد كبار الهامشيين في تاريخ هذا الفن، من أولئك الذين، حتى لمناسبة رحيلهم، كما هي حال برغمان هذه الأيام، لن يجدوا ما يشفع بعرض أفلامهم على القنوات التلفزيونية المتراكمة في الأجهزة في البيوت تبث على مدار الساعات والأيام النوعية نفسها من أفلام الهزل والمغامرة والعنف التي لا تشبه إلا بعضها بعضاً في نهاية الأمر. وهذه القنوات لا تعرف، طبعاً، شيئاً عن مبدعي السينما هؤلاء، من الذين لا تخلو الموسوعات من ذكرهم والمكتبات من عشرات الكتب والدراسات عنهم، إذ يشكلون معاً ذلك الجزء المضيء من تاريخ السينما الجادة أو البديلة في العالم. إذاً... ها هو الرحيل المباغت لأحد كبار الكبار في فنون القرن العشرين وافكاره يضعه في مقدمة لائحة الهامشيين.

< باكراً منذ العام 1955، كتب جان – لوك غودار يقول في معرض حديثه عن انغمار برغمان أن هناك، في تاريخ الفن السابع خمسة أو ستة أفلام حين يشاهد المرء أحدها يصرخ قائلاً: «إن هذا الفيلم هو أجمل الأفلام»!... و «يا إلهي... هذه هي السينما!»... وإذ عدد غودار يومها أفلاماً لأورسون ويلز وروسليني وفلاهرتي، وجد نفسه منساقاً لأن يضع فيلماً لبرغمان كان عرض في ذلك الحين، في عداد هذه الأفلام. ذلك الفيلم كان «ابتسامة ليلة صيف». بعد ذلك، وعلى رغم حماسة غودار كلها، لم يعد «ابتسامة ليلة صيف» يحتل سوى مكانة ثانوية في لائحة أفلام ذلك المخرج السويدي الذي كان يبدو طالعاً من العدم. ليس لأن النظرة الى الفيلم خفت حماستها، بل تحديداً لأن برغمان حقق من بعده تحفاً سينمائية كبرى وأساسية طلعت من الهامش، لتفرض حضورها في تاريخ الفن السابع ككل. أفلاماً توضع عناوينها اليوم الى جانب أعظم تحف الفن الإنساني على مدى التاريخ، من مسرحيات شكسبير وتشيخوف وبريخت، الى لوحات دافنشي وفان غوغ وبيكاسو، مروراً بالروايات الكبرى وبأعظم النصوص الفلسفية. نقول هذا ونفكر طبعاً بـ «الختم السابع» و «الفريز البري» و «برسونا» و «ساعة الذئب» و «همس وصراخ» وصولاً الى «فاني وألكسندر» و «الصمت» و «عبر المرآة». طبعاً لن نكمل هنا اللائحة كلها. إنما أعطينا بعض الإشارات التي ستقول لنا بسرعة كم ان الفن السابع العالمي خسر بموت انغمار برغمان قبل أيام، بل بصمته الذي تواصل أكثر من عقدين قبل موته، ولم يقطعه سوى عمل أو عملين أتيا أشبه بنزوة.

طفل يعاني

يوضع عادة اسم برغمان الى جانب أسماء فلليني، وفسكونتي وهتشكوك وأنطونيوني (الراحل بعد ساعات من رحيل المعلم السويدي الكبير)، بوصف هؤلاء جميعاً، المعلمين الكبار الذين جعلوا لفن السينما مكانة أساسية في فنون القرن العشرين وافكاره أيضاً. وليس في هذا أي مبالغة على الإطلاق. ولكن إذا كان الثلاثي الإيطالي (فلليني وفسكونتي وأنطونيوني) قد عاش في قلب أضواء السينما وعومل أحياناً حتى كظواهر اجتماعية، وإذا كان سيدا السينما الأميركية (هتشكوك وفورد) كانا أيضاً من نجوم هوليوود، فإن برغمان في سويده النائية، كما في مواضيعه ولغته السينمائية، ظل في معظم حياته وأعماله، هامشياً، حتى وإن كان اسمه لمع دائماً، هو الذي يمكننا ان نجازف بالقول إن الذين عرفوا اسمه وملامحه، لم يعرفوا أفلامه فإن شاهدوها لفضول ما، ظلوا خارجها. ذلك ان سينما برغمان، في معظم أفلامها، كانت ولا تزال سينما على حدة: شديدة الخصوصية، تزاوج بين الفكر والعاطفة، تطرح مشكلات الوجود الإنساني والعلاقات البشرية ومعضلات حياة المرأة، ومسائل مثل الدين والأخلاق، طرحاً ينبع مباشرة من تأملات برغمان في الحياة منذ كان مجرد صبي يطرح على نفسه أسئلة قلقة وهو يعاني ما يعاني من تشدد وتزمت والده القس البروتستانتي ولا يجد ملاذاً له إلا لدى جدته. هذه الخلفية قالها برغمان في معظم أفلامه، ولكن أيضاً في عدد من الكتب والنصوص التي أتت لاحقاً لتكشف أن كل المتن البرغماني، صوراً كان أو نصوصاً مكتوبة، إنما كان متناً في السيرة الذاتية. ولكأن برغمان استحوذ لحسابه على عبارة آلن روب غرييه المشهورة: «في النهاية أنا لم أحك إلا عن نفسي».

شمولية وهامش

ولكن هنا يبقى سؤال أساسي: كيف تمكن برغمان من أن يجد مواضيع وحكايات يملأ بها نحو ثلاث دزينات من أفلام حققها خلال ما يقرب من نصف قرن، ويمكننا اعتبارها اليوم جزءاً من «سيرة حياته»؟ للوهلة الأولى قد يبدو السؤال عسيراً على الإجابة... غير ان تفرساً عميقاً في سينما صاحب «الصمت» و«فاني وألكسندر» سيقول لنا إن السيرة الذاتية لديه إنما هي السيرة الفكرية نفسها. فبرغمان الذي أولع بالفلسفة والمسرح والأوبرا باكراً، سرعان ما جعل كل ما يقرأه ويعرفه ويعيشه فكرياً ووجدانياً يتجمع في بوتقة واحدة هي بوتقة الإبداع لديه. فبرغمان عرف منذ وقت مبكر من حياته – وهو روى هذا في واحد من أجمل كتبه «المصباح السحري» – عرف أن كل تجربة في حياة المرء، سواء كانت حياتية أو فكرية، إنما تشكل جزءاً أساسياً من وجوده. ومن هذه المعرفة، التي قد تبدو لنا اليوم بديهية، تكون كل ذلك المتن البرغماني، السينمائي والكتابي، ناهيك بالتقنين/ الفكري أيضاً – ونشير هنا بالطبع الى عشرات المسرحيات التي أخرجها برغمان في بلده السويد حيث اعتبر دائماً سيداً كبيراً من سادة المسرح، وقدم بشغف كبير أعمال ستريندبرغ (أستاذه الأكبر) وتشيخوف وإبسن الذين لن يفوتنا أن نلاحظ تأثيرهم على أفلامه ومواضيعها، بحيث يصبح التمازج تاماً بينه وبينهم.

وفي يقيننا هنا أن هذه الشمولية هي، بالتحديد، ما شكل هامشية انغمار برغمان، ولو انطلاقاً من فكرة بسيطة، بات لا بد لنا من الاعتراف أخيراً ببديهيتها: فكرة أن كل فن كبير إنما هو بالضرورة فن هامشي، لا تستقيم عظمته ومفعوله اللاحق بالتالي، إلا انطلاقاً من هذه الهامشية. وهذه هي، في الحقيقة، نظرية الهامش في قلب العالم. بالنسبة الى برغمان هذه هي الهامشية، أي التجديد اللامتوقع دائماً في المواضيع والأساليب، التي وحدها القادرة على تغيير الفن، وعلاقة الإنسان بالفن... ومن ثم الكون وعلاقة الإنسان بالكون. ولكأن هذا يتناسق تماماً مع ما توصل اليه الفيلسوف الألماني هربرت ماركوزه، في كتابه «نحو التحرر» من أننا بعد كل الخيبات الثوروية والتغييرية، وبعد خيبات الطبقة العاملة وقصور حركات الشبيبة لم يبق لنا من أمل في التحرر إلا من طريق الفن. غير اننا، في مقابل هذا، سنكون مخطئين تماماً إن افترضنا هنا ان برغمان حقق أفلامه وهو مغمور برغبة في تغيير العالم وتثويره. أبداً... هو حقق تلك الأفلام أساساً، ليطرد من داخله شياطينه وهواجسه. ليطرح أسئلة وجودية على نفسه قبل الآخرين. ليتساءل عن جدوى العلاقات البشرية وعن العلاقة مع الآخرين، مع الوجود، مع الموت، مع الشيخوخة والمرض والطفولة. والحقيقة أن من يقرأ العبارات السابقة ستقفز في ذهنه مباشرة مشاهد وحوارات ومواقف من بعض أكثر أفلام برغمان شهرة: «الختم السابع» حيث الحوار مع الموت على خلفية أحداث تنتمي الى القرون الوسطى، و «الصمت» حيث نشاهد مأساة اللاتواصل بين البشر، من خلال أختين تقومان برحلة العودة الى الوطن وتتوقفان في مدينة غريبة. نقول هنا: نشاهد، ونعني اننا نشاهد هذا من خلال عيني طفل يطرح أسئلته باكراً على الكون والحياة. و«همس وصراخ» حيث يجابهنا المرض والموت مدمرين لأي إمكان لبروز العواطف بين البشر. و«فاني وألكسندر» حيث يستقي برغمان من طفولته مباشرة. و «الفريز البري» حيث مجابهة الإنسان مع شيخوخته. وطبعاً نحن لم نذكر هنا ســـوى أمثلة ضئيلة من تعبير برغمان عن قلق الروح. برغمان الذي لن يكون من المبالغة، في الوقت نفســـه، أن تقول ان المرأة شكلت هاجساً أساسياً مـــن هواجس حياته وفكره. في أفلامه، كما في الحياة التي عاشها والتي امتلأت بالزوجات المتتاليات. وبالعشيقات اللواتي سرعان ما يتحولن بطلات يمثلن في أفلامه، ثم شخصيات حقيقية في حبكات تلك الأفلام. وأحياناً شخصيات مرعبة، متداخلة (كما في «برسونا» و«ساعة الذئب» و«مونيكا»).

في معظم أفلام برغمان تبدو المرأة مثيرة لاهتمامه – الى درجة صار يحسب معها مخرج الإحساس الأنثوي بامتياز، شأنه في ذلك شأن ميزوغوشي في اليابان، وجورج كيوكر في هوليوود بين آخرين -، ولكن ليس فقط انطلاقاً من وضعية ترى الى قضية المرأة من زاوية «نضالها» النسوي ضد الرجل، بل من وضعية تنظر إليها في حساسيتها وخصوصيتها كمعبر عن الشرط الإنساني ككل. ومن هنا لا يعود من المنطقي الاكتفاء بالقول ان سينما برغمان – في معظم أفلامها – أتت لتعبر عن قضية المرأة، بل الأصح انها عبرت عن الإنسان... كل إنسان، من خلال المرأة.

فالإنسان، قلق الإنسان، وجود الإنسان وأسئلة هذا الوجود، كان هذا ما شغل بال ابن القسيس الصارم طوال حياته، وصبّه في أفلامه أسئلة وحيرة... ولكن لغة فنية ولا أروع أيضاً.

الحياة اللندنية في 03 أغسطس 2007

 

محطات في مسيرة زاوجت بين الفن والحياة 

ولد انغمار برغمان في الرابع عشر من تموز (يوليو) 1918، في المدينة الجامعية السويدية العريقة أوبسالا التي تقع على بعد 60 كلم الى الشمال من استوكهولم. وكان أبوه قسيساً (وهو أمر قيل ويقال وسيقال دائماً، لأن عمل الأب مارس تأثيراً مهماً بالنسبة الى تربية انغمار الفتى). منذ فتوته كان انغمار برغمان يحب أن يتأمل الحياة ويحلم وهو ممدد على سجادة الصالون في بيت جدته القائم في ظل احدى الكاتدرائيات. هناك كان يصغي الى صوت الأجراس التي كانت أحياناً توحي له بصفاء ومتعة وأحياناً بجو كئيب، وذلك تبعاً لمزاجه الخاص في كل لحظة من اللحظات. في بعض الأحيان كانت اللوحات المعلقة الى الجدار – ولا سيما لوحة تمثل مدينة البندقية – تعطيه انطباعاً بأن ما في اللوحة يتحرك. أما الظلال الليلية فكانت ترسم أشكالاً غريبة على سقف غرفته. وهو عاد والتقى بسحر هذه الخيالات كلها في الهالة الضوئية التي كان يطلقها مصباح سحري أهدي اليه ذات يوم.

عدا عن هذا كان انغمار غالباً ما يصحبه أبوه في جولاته الرعوية التي كان هذا الأخير يقوم بها في المناطق الريفية المجاورة. فكان يحضر حفلات عمادة، وحفلات زواج وجنازات، بحيث انه اكتشف باكراً، وعبر كل تلك المظاهر والتظاهرات، ما يشبه الخلاصة الحية للحياة البشرية في لحظاتها الأكثر تشابكاً. لكن العظات التي كان يصغي اليها أخذت تبدو له مع مرور الوقت رتيبة للغاية. وأخذ يشعر وكأنها ليست أكثر من صراخ في الصحراء.

لكنه، مع هذا كان يشعر باحترام غريب إزاء «صانع أيامه». وكان يكن تقديراً كبيراً لتفانيه الذي لا يكل. لكنه توصل قليلاً فقليلاً الى الاستنتاج بأنه ربما كانت هناك وسائل أخرى، أكثر مباشرة وواقعية، لمحاولة البرهنة على تضامن المرء مع الآخرين وتعاطفه معهم. خلال القداديس كان لا يكف عن تفحّص الرسوم القروسطية العتيقة نصف الممحية والتي كانت تزين جدران بعض الكنائس الريفية. ومن ذلك الخليط المؤلف من مناخ ديني وشكّ وملاحظات جمالية ونفسانية، تولدت عند برغمان ببطء ذهنية ووعي حادان وعميقان بصورة استثنائية.

بذهنية المتسامح، وهي ذهنية دائمة الوجود لدى الكثيرين من الأساقفة البروتستانت في أوروبا الشمالية، عمد الراعي الى نقل مفاهيمه الأخلاقية الى ابنه، لكنه ترك له حريته التامة في تطبيقها تبعاً لما تميل اليه شخصيته الخاصة.

في ما بعد عيّن الأب راعياً لأبرشية هدفيغ – إليونورا في استوكهولم، ثم قسيساً في البلاط الملكي. وهكذا اذ انتقل انغمار برغمان بدوره الى عاصمة السويد شرع على الفور بممارسة نمط حياة مستقل كل الاستقلال. فانتمى الى الجامعة وخالط الأوساط المثقفة، وأولع بمسرحيات شكسبير وسترندبرغ، وشاهد بعض الأفلام «الواقعية» من اخراج دوفيغييه وكارنيه، وهي أفلام كانت في تلك الآونة تحمل الى العالم كله نوعاً من حس الاقتلاع بالغ الإثارة.

في العام 1932 صار برغمان، كهاوٍ وليس كمحترف، مخرجاً في مسرح «ماستر أولوف – غاردن». وهناك مارس العمل من العام 1938، ثم مارس هذا العمل نفسه خلال العامين 1941 و 1942 في مسرح «مدبورغار هوست» ثم في العامين 1943 – 1944 في «دراماتيكن ستوديون» في الوقت نفسه الذي ظل يخرج فيه بين الحين والآخر مسرحيات مختلفة لحساب مسرح الطلاب. ومن بين الأعمال التي أخرجها كانت هناك مسرحيات لشكسبير وسترندبرغ، وكذلك مسرحيات لأبسن وغيره من الكتّاب الاسكندينافيين والانغلو – سكسونيين المعاصرين.

في تلك الآونة كانت الحرب العالمية الثانية قد وصلت الى ذروة بربريتها وحدّتها. وكما لو كان في الأمر معجزة حدثت للسويد الصغيرة فأفلتت من براثن الحرب، لكن «الأمم الشقيقة» كالدانمارك والنروج، وقعت تحت ربقة النير الهتلري، فيما كانت فنلندا تقاوم ببطولة طوفان الحديد والنار. والسويديون اذ أحزنهم هذا العود الى مناهج العصور البربرية، واذ أدركوا عجزهم عن إيقاف الطوفان، شعروا انهم كالمشلول الذي يشهد عملية التحضير لجريمة وهو جالس في مقعده من دون حراك. يومها كانوا يستقبلون في واحتهم المسالمة الكثير من اللاجئين الواصلين في المراكب من أوسلو وكوبنهاغن، أو المجتازين الحدود النروجية هلعاً ازاء تقدم الجيش النازي. كان السويديون يبعثون بسيارات الإسعاف وبالأطباء والممرضات لمعاونة الجنود الفنلنديين المتساقطين أمام قوى تفوقهم عدداً وعدة. غير ان هذا الوضع السلبي نسبياً أثار لدى السويديين انطباعاً عصابياً حاداً.

مسرح – سينما

عهد ذاك كانت الانتليجنسيا الاستوكهولمية تجتمع في حي غاملاستان العريق، وفي ذهنها شعور واحد هو شعور «الألم». وهي قبل سنوات من انبثاق وجودية السان جرمان – دي – بري الباريسية، كانت تندد بعبثية العالم، وتجد ملاذها في «وجودية» كركغارد. وكان صوت بار لاغركفيست يعرب عن رعبه بقوة. كما كانت الحيرة تطبع أعمال ستغ داغرمان (الذي كان في طريقه للانتحار بعد فترة) وأعمال الكاتبة بريغيت تنغروث. وبرغمان الذي اختلط بدوامة هذه «الحياة الشبيهة بالكابوس»، كتب في العام 1942 مسرحيته «موت غاسبار»، ثم كتب في العام 1944 مجموعته القصصية القصيرة «قصص غاسبار»، التي نشرتها مجلة «40 – تال».

وسيكتب لاحقاً مسرحيات سيتولى إخراجها بنفسه: «تيفولت» (1943)، «راشل وبواب السينما» (1945)، «النهار ينتهي بسرعة» (1947)، «إنني خائف» (1947) – والمسرحيات الثلاث الأخيرة نشرت لاحقاً في كتاب واحد عنوانه «أخلاقيات» – و «من دون نتيجة» (1948)، و «هواجس» (1948)، و «مقتلة في باريارنا» (1952)، و «رسم على الخشب» (وهي مسرحية في فصل واحد كتبت في العام 1955). كذلك وضع برغمان مسرحية أخرى عنوانها «جاك بين الممثلين» (1947) ستنشر فقط لكنها لن تمثل على المسرح.

في العام 1944 رقي برغمان الى رتبة مخرج محترف وتابع نشاطاته المسرحية:

- بين 1944 و 1946، اشتغل في المسرح البلدي في هالسنبورغ.

- في العام 1946، اشتغل مع «بلانشن تياترن» في استوكهولم.

- بين 1946 و 1950 اشتغل في المسرح البلدي في غوتبرغ.

- في العام 1950 اشتغل في «انتيما تياترن» في استوكهولم.

- في العام 1951 اشتغل في المسارح البلدية في توركوبنك ولينكوبنك، ثم في المسرح الدرامي الملكي في استوكهولم.

- وبين 1952 و 1960 اشتغل في مسرح الدولة في مالمو.

وأخيراً في العام 1961 اشتغل في أوبرا استوكهولم، ثم عيّن في العام 1963 مديراً لمسرح «درامتن» في المدينة نفسها.

لكنه منذ العام 1944 بدأ يدخل استوديوات السينما. فاشتغل أولاً مساعداً بالمصادفة في أحد الاستعراضات الطالبية. ثم حضه مدير صناعة السينما السويدية كارل اندرس دبلينغ على كتابة سيناريو يخرجه أُلف سيوبرغ. وكان فيلم «هيتس» الذي سيتحول لاحقاً الى مسرحية. وفي هذا الفيلم نرى أستاذاً، أطلق عليه لقب «كاليغولا» يعذب تلاميذه ذهنياً ويعرف إزاءهم كطاغية حقيقي – والموضوع كله عبارة عن إشارة بالكاد مقنعة الى الأحداث التعسفية والعنيفة التي كانت تهز جزءاً كبيراً من أوروبا آنذاك. وقد جعل سيوبرغ الموضوع أكثر حدة جراء استخدامه تقنية الظل والضوء وبعض تقنيات السينما التعبيرية الأخرى. وفي ذلك الفيلم قام الممثلون بأدوار لا يمكن نسيانها.

خلال التصوير كان برغمان غالباً ما يحضر في أماكن ذلك التصوير، فتآلف تدريجاً مع تقنية الفن السابع. لكنه كان أكثر فردانية من أن يتحمل ضجة التصوير السينمائي خلال الفترة الطويلة التي يتطلبها ادراك متكامل لإجراءات التصوير، ومع هذا منذ العام التالي تحول بدوره الى الإخراج. وكانت تلك فرصته الكبرى على الأرجح. ذلك أنه إذ توغل خفيض الرأس في ميدان بالكاد يعرفه، عمد قليلاً فقليلاً الى «إعادة ابتكار» كل الإمكانات التي سيستخدمها، تماماً كما يفعل البدائيون. كان تأقلمه بطيئاً ومعقداً، وهكذا ارتكب هفوات عدة ولم يصل الى الكمال بين ليلة وضحاها. ولكن اذ انقذته كثافة إلهامه وتنوعيته، واذ انقذته ضروب حدسه غير العادية واكتشافاته الطريفة غالباً، انتهى به الأمر الى اعطاء شباب جديد لـ «وسيلة التعبير تلك» التي كانت بدأت تغرق جدياً في السبات والتفاهة والرتابة. كان حضوره حضوراً حقيقياً مستقلاً وقوياً ومخلصاً ومعادياً للديماغوجية. كان حضوراً يشق الطريق نحو تجديد للسينما هو في آن معاً أكثر جسدية وذهنية. وعلى هذا شق برغمان طريقه نحو أحد أماكن الصف الأول في مجمع كبار عظماء الفن السابع.

منذ البداية صاغ برغمان توجهه على الشكل الآتي «المسرح هو زوجتي والسينما هي عشيقتي». ومنذ ذلك الحين كرس نفسه للمهمتين في آن معاً. وهو اعتاد في شكل عام أن يكرس نفسه لـ «زوجته خلال الشتاء»، أما «العشيقة» فحقها عليه في الأشهر الأساسية، أي أشهر الصيف والربيع. وبرغمان في خط عرف الصعود والهبوط، عرف النجاح والفشل، عرف كيف يصوغ «عالماً» سينمائياً بأسره، عالماً منوعاً هو في آن معاً رائع بصرياً، و «مسكون» في أعماقه.

(من مقدمة سيناريو «الصمت» الصادر في ترجمته العربية عن «مؤسسة السينما السورية» – ترجمة وتقديم ابراهيم العريس).

الحياة اللندنية في 03 أغسطس 2007

 

هكذا تكلم برغمان 

لقد أردت دائماً أن أكون واحداً من أولئك الذين ساهموا في بناء الكاتدرائيات في مناطق ذات مساحات شاسعة. أردت أن أجعل من الحجر رأس تنين، ملاكاً أو شيطاناً، أو قديساً... لا فرق. لا فرق طالما انني في الأحوال كافة سأشعر بالسعادة، سواء كنت مؤمناً أو غير مؤمن، مسيحياً أو كافراً... كل ما يهمني هو أن أشتغل مع الناس جميعاً في بناء الكاتدرائية لأنني فنان وحرفي، ولأنني تعلمت كيف أستخلص من الصخر الجامد وجوهاً وأطراف أجساد... ولا أشعر أن عليّ أن أقلق في صدد حكم المعاصرين أو المقبلين، عليّ. فاسمي وكنيتي لن يحفرا في أي مكان. أحس أنهما سيختفيان تماماً باختفائي. لكن جزءاً صغيراً مني سيبقى وسط شمولية منتصرة لا اسم لها. وهذا الجزء سيكون على صورة تنين أو شيطان وربما قديس... لا يهم!

> «الختم السابع» هو واحد من أفلامي العزيزة على قلبي. لكنني لا أدري، بالضبط، لماذا. انه ليس، طبعاً، عملاً خالياً من الأخطاء... بل هو ملطخ بأنواع الجنون كافة... كما ان في إمكان المشاهد أن يكتشف أنه أنجز في سرعة قصوى. ومع هذا أجده مفعماً بالحيوية والحركة منعتقاً من كل أنواع العصاب. وأضف الى ذلك كله أن أجزاءه تبدو مترابطة في ما بينها بقدر لا بأس به من الشغف والمتعة.

> أن أكون دائماً مثيراً للاهتمام معناه أن الجمهور الذي يشاهد أفلامي ويمكّنني بمساهمته هذه من أن أبقى حياً أرزق، من حقه أن يطالبني بعمل يرفه عنه، بشعور ما، بسرور معين أو بحيوية جديدة. وأنا من واجبي أن أعطيه ما يتوقعه مني. ولكن من أجل تفادي أن يتحول الفنان الى مومس تتاجر بموهبتها، يتعين على هذا الفنان أن يتصرف دائماً انطلاقاً من ضميره كفنان: ومن المؤكد ان هذه الوصية ليست يسيرة المنال. ذلك أن الفنان – إن اتبعها – سيجد نفسه على حبل مشدود مضطراً الى افتعال توازنه افتعالاً... لأنه، في كل لحظة من لحظات وجوده وعمله يجازف بأن يقع ويدق عنقه. ولكن... في المقابل، أفلا يجدر بنا أن نقول إن طريق المخاطر هي الطريق التي تبدو الأكثر قابلية لأن تُسلك؟ ان الشر والدوخان، في هذا السياق، هما قطبا إلهامنا اللازمان المتلازمان.

> الحقيقة انني عندما أمعن التفكير في سنوات حياتي الأولى يستحوذ عليّ شيء من التوق والفضول. لقد غذت تلك السنوات خيالي وحواسي بحيث انني لا أذكر أبداً انني شعرت خلالها بأي ضجر. بل كنت أحس، على العكس من ذلك، أن الأيام والساعات تتفجر تحت ضغط أمور شديدة الغرابة ومشاهد غير متوقعة، ولحظات عابقة بالسحر. أنا حتى اليوم لا أزال قادراً على التجوال في أحضان الطبيعة نفسها، مستعيداً ضياءها وعطورها وصور الناس والأماكن واللحظات والحركات والنبرات والأشياء شاعراً بها بقوة. ومع هذا فإنني نادراً ما أعثر في خضم ذلك كله على أحداث تروى. كل ما أعثر عليه هو أجزاء من أفلام، طويلة أو قصيرة، صورت غالباً من دون هدف.

> ان ما تمتاز به الطفولة إنما هو القدرة على التنقل في حرية تامة بين السحر والشوفان. بين الرعب الخالص والفرح الفتاك. والحقيقة اننا إذا استثنينا ما يمتلئ به زمن الطفولة من أوامر ونواهٍ لا تتناهى، لكنها في النهاية ليست سوى ظلال، لا نجد غالباً أي تفسير لها، سنجد أن ليس ثمة أمام الطفولة من حدود. وفي هذا السياق أعرف مثلاً اليوم انني أبداً ما كنت أستطيع فهم مسألة الالتزام بحدود الوقت: «عليك أن تتعلم الوصول في الوقت المحدد»، «أعطيناك ساعة وعلمناك قراءة الوقت بها»... مع ذلك لم يكن للوقت وجود بالنسبة إلي. كنت أصل الى المدرسة متأخراً. وكنت أصل الى موعد وجبات الطعام متأخراً. كنت، من دون أدنى مبالاة، أتنزه في حدائق المستشفى. أدوّن. أحلم... وأعرف ان الوقت ما عاد له بالنسبة إلي وجود. غير الوقت كان ذلك الشيء الذي يذكرني بأن عليّ أن أشعر بالجوع...

> كل فيلم هو فيلمي الأخير. كان من عادة حكماء القرون الوسطى ان يناموا داخل توابيتهم، وذلك لئلا ينسوا أهمية كل لحظة، وكل سمة من سمات الحياة العابرة. وأنا، من دون اللجوء الى إجراء على مثل هذا التطرف ولا يريح أبداً، أحمي نفسي دائماً ضد اللاجدوى البيّنة، وضد مساوئ هذه المهنة القاسية التي نمارسها، عبر إقناع نفسي، في أعماق ذاتي، بأن كل فيلم من أفلامي سيكون فيلمي الأخير.

> في فيلمي «الفريز البري» أتحرك، في شكل طبيعي ومن دون بذل أي جهد مبالغ فيه، بين مستويات مختلفة: بين الزمان/ المكان، وبين الحلم/ الواقع. لا أستطيع أن أتذكر ما إذا كان الانتقال في حد ذاته، قد شكل لي بعض الصعوبات التقنية في حينه. لكنني أعرف انه قد تسبب لي لاحقاً – ولا سيما حين حققت «وجهاً لوجه» – مشاكل لم يكن في الإمكان تخطيها(...). مهما يكن فإن القوة المحركة في «الفريز البري» كانت المحاولة البائسة التي سعيت الى القيام بها لتبرير ذاتي في مواجهة أبوين مضخمين في شكل أسطوري يديران لي ظهرهما. وكنت أعرف طبعاً أن الفشل هو مآل تلك المحاولة. أما أبي وأمي فإنهما لم يتحولا، بالنسبة إليّ، الى كائنين بالحجم الطبيعي إلا بعد ذلك بسنوات، فكان ان اضمحل حقدي الطفولي العارم عليهما، حتى زال تماماً... والتقينا عندئذ وسط جو من الحنان والتفاهم تبادل.

الحياة اللندنية في 02 أغسطس 2007